اطبع هذه الصفحة


[] دُستورُ مُحمَّدٍ []
22/2/2008
15/2/1429

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


التاريخُ أعلاه ليوم جُمعةٍ ، صليتُ الجُمعة في أحد مساجد الرياضِ ، في شارعٍ كوالالموري * ، قرأ الإمام في ركعتِه الأولى بعد فاتحة الخيرِ { محمدٌ رسول الله و الذين معه أشداءُ على الكفارِ رُحماء بينهم } بصوتٍ شَجيٍ جميلٍ ، لم تدع هذه الآيةُ حالي معَ صلاتي حتى سَبَتني أسيراً في تأملاتٍ في أسرارها المكنونة فيها ، فحقَّاً خواطرُ العقلِ عند الغفلاتِ جواهر نفيسات ، و العاقلُ مَن ابتدرَ فقيَّدَ .

الآية بيَّنتْ منهجاً محمدياً تُجاه فئتين من الناس ، يُعايشهما النبيُّ و أتباعه ، و لكلِّ فئةٍ أسلوباً خاصاً في التعامُلِ ، كان منثوراً في أقوال النبي العظيم صلى الله عليه و سلم ، و مُصدَّقٌ بأفعالِه في حياته التعامُلية ، و أتباعه السالكين منهجَه كذلك ، و ما الخللُ إلا في دَعِيِّ النسبةِ أو عَيِيِّ الفِطنة ، و الأصلُ برئ من تَبِعةِ الفرعِ .
الفئةُ المخالِفةُ لما عليه النبيُّ محمدٌ صلى الله عليه و سلم ، سُمُّوا في الآية بالكُفَّارِ ، و هم النائون عن الدين ، الغاربون عنه ، و الخارجون منه ، و الذين لا يمتُّونَ إليه بِصِلَةٍ أبداً ، و لم تذكر أنهم جملةُ المخالفين فيكون داخلاً فيها المخالفُ في الأصول و الفروع و ليس من منهجية النبي محمدٍ صلى الله عليه و سلم أن يُحدِثَ مع المخالفِ في فروعياتِ دينه شِدةً في التعامل ، فالمخالفاتُ تحدثُ ، و لا يُؤْبَه إلا بالكبارِ العِظام .

رسمتْ منهجَ التعامُلِ معهم على أنَّه يجبُ أن يكون شديداً ، دستورٌ قويم ، تقوم به كلُّ الديانات بلا استثناء ، أن المخالفَ لها في الأصولِ ، الكافرَ بها ، المحاربَ لها يُعامَلُ بالشدة ، لأجل ذلك كانت الحروبُ ، إلا أن الشدَّةَ ليست على وتيرةٍ واحدةٍ ، و ليست على نَسَقٍ واحدٍ ، فيختلفُ تطبيقها من حال إلى حال ، و مع شخصٍ دون غيرِه ، و على حَسْبِ حالِ المُتَعامِلِ بها ، و لو استعرضنا صُورَ الشدة المحمدية في تعاملاته مع الكفار ، الكفارِ و ليس غيرَهم ، لرأينا ذاك التبايُن ، فكانتْ شِدةً في القبضِ و الأَسْرِ فلا يقبلُ شريفٌ أن يُقْبَضَ و يكون أسيراً فإنَّ وقْعَ ذاك شديدٌ على قلبه ، و خاصةً إن كان وجيهَ قومٍ ، حيثُ يظنُّ أن شدةَ محمدٍ في أسْرِهِ تستمرُّ حتى آخرَ لحظاتٍ يقفُ عندها مَدُّ تلك الشدة من محمدٍ صلى الله عليه و سلم ، فكان الشدَّةُ في نظرِ الأسيرِ ليس إلا ، فيُؤتى به فيجدُ لينا و كرماً في جوفِ تلك الشدةِ ، فما كان دستورُ محمدٍ الشدةُ في كلِّ أحوال التعاملِ مع الشخصِ الواحدِ الكافرِ ، فشدةٌ مُحدَّدة التعامل .

من شدته منْعُ التعامُلِ مع الكافرِ ، و ليس على الإطلاقِ دون قيدٍ ، بل ضمَّن الحكمَ استثناءاتٍ كثيرة ، لضرورة الحياةِ في التعايُشِ مع الكافرِ ، و تحجيرُ التعامُلِ معه في كلِّ الأحوال لا يستقيم و كمال عقلِ محمدٍ العظيم صلى الله عليه و سلم ، و قد تعامَلَ بالحُسنى فنال المُنى .

و قد تكون شدَّتُه لِيْنُه ، فإكرامُ المخطئِ زيادةٌ في تعذيبِه ، و اقتلْه و لا تُغرقه في كرمك ، خبرُ أبي سفيان في أَمَنَةِ دارِه ، فكانت لِيْناً و في حقيقتها شدةٌ أقوى من ضربة سيفٍ .

رَحمة محمدٍ صلى الله عليه و سلم بينه و بين أتباعه ، فسمَّى أتباعاً و في الشدةِ كُفاراً ، فمن الأتباعِ مَن خالفَ و هو تابعٌ في الأصولِ ، فدستورُه معه تمام الرحمةِ ، و رحمته من رحمةِ ربه ، و رحمةُ ربِّه شملت كلَّ شيءٍ ، و رحمةُ محمدٍ حوَتْ أسرار معاني الرحمة و لا يفقه سِرَّ رحمتِه إلا من عرفَ جوهرَ محمدٍ لا ظِلَّه ، و الواقفُ على صورته دون معرفةٍ بحقيقته واقفٌ على تصحيفٍ و تحريفٍ في الرحمة ، و أقصد المعنى لا المبنى .

يبتسمُ في وجه الغضوب ، فيرحمه باستخراجِ جُرعة الغضبِ ، فتهدأ النفسُ و يُؤتى المطلَبَ ، يُستأذنُ في الزنى فيُحَوِّل الكلامَ إلى توجيه الغريزةِ لا إلى هدمها ، فرحِمَ وجودها و ثورانها ، و غيرُه يمنحُ لقبَ الفسقِ دون مفَسِّقٍ ، يُجَرُّ ثَوبُه فيُحدثُ أذىً في رقبته فتبدو أسنانُ الجمالِ بابتسامةِ الجلالِ و يَرْحم محتاجاً فيهبَه ما يريد ، فكان رحةً تمشي بكمالها و جمالها و جلالها .

يُخالفه أصحابه في رأيه ، و هو رأيٌ فرعيٌ لا أصلي ، فيرجع ليجبرَ الخاطرَ و يجمع الكلمة ، و ترى أتباعاً يُقيم القضية في الدنيا بحروفٍ مسطورةٍ لا تنتهي إليها أبعادُ الأنظارِ ليُظهرَ ( أناه ) بثوبِ دينه ، و يتخذُ طرائقَ السبِّ و الشتمِ لاختلافِ المظاهرِ و لا يقيم للمخابرِ وزناً ، حسْبُ علمهم الذي بلغوه أنه صورة .

و قد يكون لِينُه و رحمته في شدته ، فيقسوَ على حبيبٍ لخطأٍ لئلا يُعاوِد الوقوع فيه ، فشدته تحتضنُ رحمتَه ، إبداعٌ في تعامُلِه ، و رُقيٌ في خُلُقِه ، صلى الله عليه و سلم .

لم يقف إمام الجُمعةِ عند هذا بل شرعَ في الثانية بقراءة { إذا جاءَ نصرُ الله و الفتح } فبدأت جولةً أخرى ، حيثُ لا يأتي النصرُ إلا بعد أن يُقام دستور الرحمة و الشدةِ على أصوله المحمدية ، لأنَّه في حقيقته رحمه تامةٌ كاملة ، و في تخلُّفِ أسرارِ ذلك تخلُّفُ النصرِ و الفتْح ، و الفتحُ و النصرُ باطنان و ظاهران ، فكانت الآية الأولى دستوراً و نظاماً و الثانية نتيجة و ثمرة .

عبد الله العُتَيِّق

--------------------------------------
* نسبةً إلى اسم الشارع الذي عليه المسجد .
 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية