اطبع هذه الصفحة


(( صِلَةُ القراءة ))
6/2/2008
29/1/1429

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


‘‘ في كل كتاب نقرأه ننسى حذاءً ، يظل يربطنا بعالم القراءة البديع ’’
محمد الإمام ماء العينين


للكتابِ زِنَتُه عند الشغوْفين بالقراءة ، و العاشقين لمغازلة الأحرفِ ، لكونها تُنمي ثقافةً ، و تزيدُ معرفةً ، و تفتحُ آفاقاً و طرائقَ عدداً ، و هذه لوازمُ وظيفة العقلِ البشري ليكون مُكْتمِلاً تامَّاً ، فملازمتهم القراءةَ و مصاحبتهم الكتابَ غيرَ مُستغرَبٍ ، و في زمنِ غيابِ القُراءِ يكون القاريءُ شاذاً ، و الشاذُ مُعابٌ ، و قد يكونُ العيبُ في مفهوم الشذوذ ، و مفهوم مختلفٌ بقدر الفهوم ، و تفاوتُ الفهومِ بتفاوتِ مقدار العلوم ، فالنافرُ من القراءةِ يَعيبُ القاريءَ النَّهِمَ ليسلَمَ صفُّه عند أشباهه ، و الطيور على أشباهها تقعُ ، و الكاملُ دوماً مُرتفعٌ .

تلك ، جعلت القاريءَ أشبَه بالمجنون حينَ يقرأ ، لتدفُّقِ ما يجد من معلوماتٍ و معارف ، فتنادي أولاها أخراها ، فتكون مترابطة كحلقاتٍ لا ينفصل بعضها عن بعضٍ ، ذلك حينَ عاشَ في عالَم القراءةِ و أدركَ ما فيها ، و قبلُ كان راغباً رغبةً جَمحتْ به نحو التنقيبِ عَن إيجاد ما يُشبع تلك الرغبة العقلية ، فلم يقف على بابٍ و غادرَه ، بل طافَ في أحياءِ الفكرِ ليجد أبوباً تفتحُ له ما يُحقِّقُ رغبتَه ، فولَجَ صِغار الأبوابِ و كبارَها ، ضيِّقَها و واسعها ، و اتَّصَلَ بأسبابِ ذلك ، فلم يُراعِ جُهداً لا كمَّاً و لا كيفاً ، فأدركَ من ذلك بقدرِ ما بذلَ ، و ما بقيَ كثيرٌ لا يُدركه بمسيرة عُمُرِه .

تلك القراءةُ التي يُتعَبُ في تحصيلها لا تكون إلا عن تلك الرغبة الجموح ، و الشوقِ الكبيرِ ، فيكون بالتزامه جِلْدةَ كتابِه في نُقلَةٍ من عالمِ حالِه إلى أعماقِ الكتابِ ، و في دهاليز المعرفة ، فيربطُه الكتابُ بجودةِ ما فيه ، و حُسْنِ صَنعةِ الكاتبِ بعوالِم خارجَ عالمِه ، فيُحصِّل أشياء لم يجدها في عالمِه الواقعي ، لأنَّ الكتابَ عُقولٌ منشورة ، و العقولُ صانعةُ الفهومِ ، فتعدَّدَتْ العوالم .

يَعيشُ حينها في سعادةٍ و لذةٍ لا تُعادلها عنده لذة ، و يتذوَّق بلسانِه حلاوةَ المعاني ، و يَشْتَمُّ روائحَ الحِبْرِ و الورقِ ، مُصْغياً بسمعهِ إلى وَحْي الكلامِ ، فأعمل كيانَه كلَّه في تحقيقِ سعادته في حالٍ مِن الأُنْسِ ، و طرَبُ باطنِ القارئِ بقدرِ إطرابِ باطن الكتاب ، و لا يَلْتَذُّ بالقراءة مَن وَصَلَ ظاهرَ الكتابِ و المكتوب ، و التي جاءتْ إليه باستمتاعِه بصِلَتِهِ بالقراءةِ ، فتجعله تلك السعادة يَهيمُ في أودية الكتاب ، فكلُّ سطرٍ يَحملُ معرفة ، و كلُّ حرفٍ له مَغْزى ، و القارئُ بين علائم تعجُّبٍ بادية ، أو استفهاماتٍ واردة ، و ربما في غَمرة الغَوصِ تأمُّلاتٍ متينة .

في تلك الغَمْة المُسْعِدَةِ يَسْتحضرُ القارئُ آوِنَةَ إفلاتِ الكتابِ من يَدِه ، و انتقالِه إلى غيره ، و خروجَِ القارئِ من أكوانِ الكتابِ إلى أكوامِ الغِياب ، فيبتهلُ أن يَهتَبِلَ فُرَصَاً تتوالى ، ليطولَ بقاؤه في تلك العوالِم ، و زمنُ اللذةِ قصيرٌ فلا يكادُ أن يبدأَ إلا و تلوحُ النهايةُ .

عِند لحظةِ مغادرةِ الكتابِ يُخيِّمُ الحُزْنُ على القارئِ النَّهِمِ ، فمغادرةُ الكتاب و توديعه ضرورةٌ عند القارئِ ، لأنَّ الكتابَ يُنادي إخوةً و يُناغي أصحاباً ، تكرِمةً للقارئِ ، و لا بُدَّ للقارئِ أنْ يوجِدَ ما يُبقي صِلتَه بالكتابِ ، و صِلة الكتابِ قراءته ، و بالقراءةِ يتعلَّقُ شيءٌ في عقليةِ القارئ يَربطُه بعالمِ الكتابِ ، فكلُّ كتابٍ عالَمٌ لوحدِهِ ، و العوالِم تختلفُ و لا تتفقُ .

عَوْدُ الصِلةِ القرائية بالكتابِ استدراكٌ و تثبيتٌ ، و صِلةُ كتابٍ مرَّاتٍ خيرٌ من صِلَةِ كُتُبٍ ، بشرْطِ عينية الكتابِ لا حشويته و هامشيته ، فرُبَّ كتابٍ أغنى عن ألفِ كتابٍ ، فصِلَتُه منقبةٌ و منفعة .

ستُبقي الصِلَةُ من أساسها إشارةً للكتابِ في ذهنِ قارئه ، و لا تكونُ إلا بمدى جودةِ صِلته بالكتابِ حين قراءته ، و عمليةُ التواصُلِ تكون في أعلى حالاتها حينَ تُعْمَلُ حواسُّ القارئِ و مشاعرُه تفاعلياً مع معارفِ الكتابِ ، و العيْشِ في أسرارِ عوالمه ، فإنْ غابَتْ الصلةُ في بعضٍّ يُذكِّرُ الآخرُ بها .

هذه الصِلةُ بالكتابِ قراءةً و عَيْشاً تمنحُ القارئَ دَفقاً من المعارفِ لا يرضى إلا بالخروجِ من عالمِ الذهنية المُخزِّنَة إلى عالَم ذهنيةٍ تستقبلُه بشَوقٍ ، فتكون عملية التوارُثِ بين الأفكارِ عن طريقِ الإرسالِ لفظياً فتستقبلها حاسَّةُ السمعِ ، أو كتابياً فتحتويه العينُ مُلتهمَةً مخزوناتِه ، فكانت الكتابةُ لمُحصَّلَةِ الكتابِ من خلالِ القراءةِ المتميِّزة بجودة التواصلِ .

أُبِيْنَ بأنَّ صِلةَ القارئِ بالقراءة ناتجة عن قُوة صِلَتِه بالكتابِ ، و صِلةُ الكتابِ في كونه مُلازماً القارئَ في أحواله كلِّها فيكون قريباً منه قُرْبَ محبةٍ و أُلْفةٍ ، و في إبعادِ الكتابِ عن القارئِ إبعادٌ لرغبة القراءة ، و حينئذٍ يموتُ شَوقُ القراءةِ بانقطاعِ الصِلة بها ، و في تحقيقِ الأُلفةِ بين القارئِ و الكتابِ تحصيلٌ لتلك الصِلة .


Abdullah.s.a
 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية