اطبع هذه الصفحة


[] المقامة الوائلية []
12/3/1429
20/3/2008

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


حدثنا أبو الطيب الوائليُّ قال :
جمعتني صروف الدهر السائرة ، و أحوال الزمان الظاهرة ، في بعض أراضي العرب ، و دورِ أهل الأدب ، بجمهرة من نُخبِ الكرام ، و جَمعةٍ من عِلْية المقام ، نُبدِّلُ حديثاً بحديث ، و نسري في شرفٍ أثيث ، حتى جنحنا نَحْو المفخرة ، بالأنساب المُشتهِرة ، و قلبُ كُلٍّ في صفاءٍ ، و خاطرُه في نقاءٍ ، و أبدى كُلُّ عِزَّ أصلِه ، و سوَّدَ (1) شأن أهلِه ، و انتهت مسيرة النوْبةِ إليْ ، شرْط ألا ألوي اللفظَ لَيْ ، و أسلُك جادة الإيجاز ، و أطرُقَ سابلة الانحياز .

فقبلتُ الشرْط المُبْرم ، و لَزمتُ القرارَ المُحْكَم ، و لجأت بضعفٍ إلى قوي ، و انتخيتُ بذاكرةٍ طواها الزمان طَيْ ، فعوَّدَتني النُّكوبَ ، عند ادلِهَّامِّ الخُطوب ، فاعتليتُ مِنبر الخطابة ، مُرتجلاً حديثاً دون كتابة ، حامداً مولاي على إعطائه و منعه ، مُستعظماً آثار صُنعه ، فقلتُ : وائل شعار الفؤاد ، و دِثارُ أهل الواد ، سادَ رجالها الرُّجولة ، و قِيْدتْ بهم الركائبُ دُوْلة ، شيَّد ذكرهم نبيُّ الهدى ، فأقصاهم عن مهيَعِ الردى ، و قطع بنُصرتهم (2) ، و حكم بدولتهم ، فخاسِرٌ مَن رامَ دَحْرَهم ، و داحرٌ مَن نَحا خُسْرَهم ، و صيَّرَهم أرفعَ بيوتا ، وساواهم بآلِه رِزقاً و قُوتا (3) ، فكسيرُهم مجبورٌ ، وطرِيْدُهم إيواؤُه مشهور ، فلا يُبصرُ العِوَزُ إليهم طريقاً ، و لا العالةَ لهم صديقاً (4) ، و لواؤُها مَعْقِدُ النُّصْرَة ، و رايتُها مَهْوَى ذوي النُّضْرَة (5) ، و في ذِيقارَ بهم انتصافهم مِن الأعاجم ، بأوليةِ المكارِم (6) ، مِن ، فمالُهم لاستمالةِ الأرواح للكمالات ، و الدُّنيا لارتقاءِ الرَّفِيْعات ، فما لَها لقلوبهم ولوجاً ، و ألزموا الردى عنهم خروجاً ، و هم القاصدوهُ بالإقبالِ بالاتصال ، و المستنجدوه مِن مَغِبَّةِ الانفصال ، حيثُ فاه أكابرُهم ، بالغادي من مفاخرِهم ، " بيننا و بينكَ هذا الحيُّ مِن مُضَر " ، مانعونا بقطعِ طريقِ مسيرِ ذي السَّفَر ، و إنَّا من ربيعة العرَب (7) ، أهل الكمالِ و الأدب .

شرُفَ انتسابُها لعدنان ، و انتماؤها لنزار عظيم الشان ، فهيَ في أصلِ العَرَبِ و مَحْتَدِه ، و أفخَرِ النَّسْلِ و أَمْجَدِهِ ، جَمُلَتْ أخلاقُهم حُسْناً ، و كَمُلَتْ محاسنهم ضِمناً ، أجملُ الناسِ وجهاً و شَكلاً ، و أفضلهم نَبتاً و أصلاً ، لا واجداً لهم شبيهاً ، و أضحى أمثلهم وجيها ، منشورُ مناقبهم معروفة ، و بالكمائل أرومتهم موصوفة .

فحازوا قصبَ سبْقِ الكرامة ، و أنيلوا مفخرة الإمامة ، فغدتْ بين الناس شامخة ، و مفخرتهم في التاريخ راسخة ، فَهُم المجبولون على أخلاقِ الكمال ، و المصبوغون بنعوت الجمال ، الباذلين المعروفَ بِلا حَدٍّ ، و المعطين المال بِلا عَدٍّ ، الشجاعةُ تاجُ مجالسهم ، و العُلا عِشْقُ هواجسهم ، الشعرُ قريضُ الروح ، و النثرُ لفظٌ نصوح ، و المروءةُ حليفَ ذواتهم ، و الشهامةُ مَنيفَ صِفاتهم ، راموا في الكمال مقاصداً حِسانا ، ففعالهم لأقوالهم برهانا ، أصيلة المحتِد ، رفيعة المشهد ، ولودٌ مِعطاءة بِسَعةٍ ، باذلةً مُهجاً بِمَنَعة ، فهنيئاً لها شرف الأقدمية ، و لفروعها سُؤددُ الأكملية ، فَهُمُ المُجْمِلون في المنحِ ، و المُجمِّلُونَ في الصَّفْحِ ، و لمحبٍّ إلحاق الفضيلة ، و كارهٍ قطع الوسيلة ، فما أنا إلا بما جاء منقولاً ، محرَّرَاً مقبولاً ، بما لعتبان بن وصيلة ، من مفخرةٍ سليلة :

فوارسنا مَن يَلْقَهم يَلْقَ حتفَهُ *** و مَن يَنْجُ منهم يَنجُ وَ هو سليبُ
و إنك ألا ترْضَ بكرَ بن وائل *** يكن لك يومٌ في العراقِ عصيبُ

منحوا الشريف مدحاً صريحاً ، و الوضيعَ ذماً قبيحاً ، أنزلوا المرءَ حَقيقَ منزلِه ، و سقَوْه عذبَ منهله ، فليس للظلم إلى عِلْيَتِهم طريقاً ، و أضحى الكلُّ بين الورى صِدِّيْقا ، فكانوا في محلَّةِ القبولِ ، و مقامِ المثول ، في محافلِ الفخرِ العالية ، و مجالسِ الشرفِ السامية ، فحضورهم زينٌ ، و غيابُهم شَيْن ، فطأطأت لها الأصاغرُ نواصيها ، و دانت لهم الأرض بنواحيها ، بلا استعلاءٍ انتخوه ، و لا كِبْرٍ نَحَوْه ، لِخَيْرٍ نائلوه ، و شرَفٍ بالِغوه .

و هاكَ يا سامعَاً حرْفِي ، و دوْنَك يا واعياً وصفي ، ما كان لوائلٍ من عظيم المفخرة ، و الشمائلِ المُشتهِرة ، من تقاليدَ منقولة ، و عاداتٍ مَرسولة ، حمى الشرع حوزتها ، و صان بيضتها ، فللأضيافِ حقُّ قائم ، و واجبٌ دائم ، قِراهُ ثلاثةٌ معروفة ، فأنفُسُهم بإكرامه موصوفة ، و تَمامُ الحالِ الظاهرة ، سَوْقُ الملحة الفاخرة ، فأكرِم بضيفٍ هو مُضَيِّفُوه ، و قادمٍ هُمْ مُقْرُوْه ، و للجارِ شأنٌ لا يُدْرَك ، و جِوارٌ لا يُهْتَك ، جرى به عليهم جاري الديانة ، و واجبُ الرعاية و الصيانة ، و الإخاءُ مضبوطةٌ أواصِرُ إبقائه ، بأصلِ حُرمتهِ و وفائه ، فللهِ دَرُّ مَن هو لهمْ خَوِيَّاً ، و ارتقى بهم مقاماً سَنِيَّاً ، و الداخلُ على الوائلي محفوظٌ ، و جانِبُه بالحِمى مَلْحوظ ، و اللائذُ بالوجهِ مُصانٌ ، فيُعصَمُ جانبُ المُهان ، و صَونُ حرمة الدارِ من موروثِ النجابة ، و محمودِ المأخوذِ بالإصابة ، و لأسيرِ الحربِ مَنَعَةٌ راسخة ، و ذَودٌ رؤوسه شامخة ، ناقضها مُعَابٌ بعارٍ لا يَزول ، و مذمومٌ بما لا يَؤُوْل ، و طلبُ الوِصايةِ على أرومةٍ متينة ، و في عُنُقِ المُوْصَى مُقَيَّدَةً رهينة ، و حليفُهم منهم و بِهم ، فعلَيْهِ ما عليهم و لَهُ ما لَهم ، تَلْزمُ بذَبْحِ الشاةِ عهداً عَقْداً ، و يَلْحَقُ القومَ هَداً و رَدَّاً وَ وَفْداً ، فَذِهْ شمائلُ كمالٍ مرْقومة ، و فضائلُ جمالٍ مرْسُومة ، لاذَتْ نفسي بِحُبِّ أهلٍ ، و ذاعتْ لهم مناقبُ فَضْلٍ .

و أنشدنا الحادي ، و شدا الشادي ، لأبي الجُويرية العَنَزَي ، مُفْتخِراً بانتسابه السَّنِي :

متى تُغْلِقُ الأبوابَ دوني يَكْفِني *** نَِدى العَنَزِيِّينَ الطّوالِ الشقاشِقِ
هم مِنْ نِزارٍ حينَ يُنْسَبُ أصْلُهم *** مكانَ النواصِي من وُجوهِ السَّوابِقِ
على المُوْسِرِيْنَ حَقُّ مَنْ يَعْتَرِيْهمُ *** و عِندَ المُقِلِّيْنَ اتِّساع الخلائقِ
بِهم يَجْبُرُ اللهُ الكسيرَ و يُطْلِقُ *** الأسيرَ و يُنْجي مِن عِظام البوائقِ

و على رِسلكم لا تُعجلوا يا قوم ، فما في مدحِ الأصلِ لوم ، ما بقيَ الثناءُ عاطراً ، و الوداد ظاهراً ، فالعربُ أصلٌ جامعٌ ، و المروءة حِصنٌ مانعٌ ، و كلٌّ في فلَكٍ سابحٌ ، و عيبُ العيبِ واضحٌ ، و القصدُ مدحٌ لانتماء ، لا قدحٌ بولاء ، و آصرةُ الربط قائمة ، و مودة القُربِ سائمة ، و لم أفِ بحقِّ الأهلِ حرفاً ، و لم أجنح لمزيدٍ وصفاً ، فحسبي جُودُ الخاطرِ المكدود ، و كِفايتي ارتشافُ غَرفة الحوض المورود ، فثنائي الكثير قليل ، و نعتي القليل أنا به نبيل ، و أَنَّى لِيْ إدراكُ كمالِ المديح ، و العاجزُ فيه اللفظُ الفصيح ، فمعانيها لا تُحْصَى ، و مكارمُها لا تُسْتَقْصَى ، و فرْدٌ منحازٌ في زاويةِ الحرفِ ، مُعْدَمٌ مِن آلةِ الوصف ، و عَفْوُها رجائي ، و رِضاها نجائي ، فإليك أُمَّ القوم الكرام سلام ، و عليك تحية المقام .

و بعدُ رُميتُ ببصرٍ ذي حدٍّ ، و لفظٍ بِشَدٍّ ، إذ فاهَ قائم في المجلسِ ، و صاح بالحرفِ المُهْمَسِ ، أيا ابن وائلٍ و ما آتَتْ ، و سليل ربيعةَ و ما آلت ، لقد رُمتَ بلفظك مدحاً غيرَ مألوفٍ ، و نعتاً ليس بالمعروفِ ، فما لربيعة من الشأن ما يُجْهَل حتى يُبان ، و لا من المفاخرِ ما لا يُستبان ، فأرومةُ أمها عالية ، و جُرْثُومةُ (8) أهلها سامية ، و أخواتُها رفيعةُ القدر ، طيِّبة الذكر ، فصان أصولهم بالبقاء ، و منحهم الهناء ، و أعلى فيهم الراية ، و كوَّنهم في الجد غاية ، و إنَّما حدا بِكَ منزِعُ الأصلِ ، و هداكَ منبَعُ النُّبْلِ ، فذكرتَ كريمةً بكريمِ لفظك ، و لمحتَ شريفةً بدقيقِ لَحْظِك ، فالحمدُ للهِ موصولاً ، و الشكرُ لك مبذولاً .

فحمدتُ قولَه ، و أكبرتُ فعلَه ، و ختمتُ بالتحية ، و الصيانةِ السوية ، و عُدْتُ الأدراجَ راجعاً ، و رجوتُ الإبهاجَ ماتعاً ، و التحيةَ لكلِّ بَنِي العَمِّ ، مَنْ بِهم الجَمْعُ يأتَم .

------------------------------------
(1) من السيادة .
(2) إشارة لحديث " نعم الحيُّ عنزة _ أو ربيعة _ مغلوبٌ عليهم منصورون " .
(3) إشارة لحديث " اللهم اجعل رزق عنزة قوتا " و هو نفس الدعاء لآلِ بيته " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا " .
(4) إشارة لحديثِ " اللهم اجبُرْ كسيرَهم ، و آوِ طريدَهم ، و لا تُرِني فيهم سائلاً أو عائلاً " .
(5) إشارة لحديثِ " إنَّ العدوَّ لا يظفرُ على قومٍ لواءُهم _ أو قال : رايتهم _ معَ رجلٍ مِن بني بكرِ بنِ وائل " .
(6) إشارة لحديث " هذا أول يوم انتصَفَ فيه العربُ من العجم و بي نُصِروا " في معركة ذيقار .
(7) إشارة لحديثِ وَفْد عبد القيس .
(8) يؤتى بها بمعنى الأصل عند اللغويِّيْن .

Abdullah.s.a
 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية