اطبع هذه الصفحة


 (( تجربة ))
27/1/2008
18/1/1429

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


الإنسان في دُنياه مخلوقٌ في كبدٍ ، و في كَبَدِهِ نكدٌ ، و النكدُ درسٌ و نَحْسٌ ، و هو عُرْضةُ تجارب ، و في التجاربِ للعقلاءِ كنزٌ كبيرٌ .
تجارب مرَّتْ ، و أحداثُ ولَّتْ ، فبقيَ من أثرها ما بقيَ ، و غادرَ الزبدُ ، و نافعها مسطورٌ في كتابٍ مغمورٍ ، نشرُه حسنةٌ ، أو ذلةٌ و مَسْكنة ، مراعاة الأبعادِ في النشرِ حكمة ، و تلك حصيلةٌ لتجربة .
من التجاربِ ما يكون بالخصوصيةِ ألْصَق و أليق ، فغمرُه إكرامه ، لكونِ الخصوصياتِ لم تتجاوز محيط الذات ، و منها ما هو مُستساغٌ إطلاقُ البصرِ في النظر ، و إعمالُ الذهن بالفكر لإباحةِ الحال و انكشاف الحجاب ، و كسْبُ تجاربِ كَهذِهِ ارتقاءٌ و بناء ، و انتهاضٌ لعقلٍ ، و تنمية لجيلٍ .
كلُّ حادثةٍ تمرُّ هيَ درْسٌ ، و كلُّ واقعة تكون سُلَّم معرفة ، فليست المعارفُ بالتنظيرِ فَحَسْب ، بل الحوادثُ مانحاتٌ ، و الحياة مدرسةٌ .
مِن التجاربِ المكشوفِ حجابُ سِترها تفعيل العقل مرَّ على العقلِ حينٌ من الزمانِ لم يعد له مقام التكريم ، و إن كُرِّمَ ظاهرُه و صورتُه فلم تكن حقيقته مُكرَّمةً ، فقد كان في بُعْدٍ و إقصاء ، لم يكن له دورٌ إلا في أن يكونَ إناءً يُعَبَّأ بما يُراد من غيرِ صاحبه ، و داهية المصائب أنْ كان صاحبُه مُعبئاً ، فالسارقُ المأمونُ مصون ، كانت المعارفُ تُرْسَلُ للعقلِ فيتلقَّاها بالقبولِ مع تمام المُثول ، لا يُقلِّبُ عينَ العقلِ في صورتها ، و لا يُطلق لأذنه سماع نغمتها ، و القلبُ في غفلةٍ ، و الغافلُ له ربُّه .
آتت التجاربُ العقلَ تنبيهاً فاستبصرَ بعد عماية ، و سمع بعد صممٍ ، فأطلقَ لعينه تقليب حدقتها في مصادر المعارف ، و تعددت لديه مدارك الثقافة فأحدثت التجارب تفعيلاً له ، لولاها ما كان ليستيقظ من رقدته ، و تفعيل العقلِ في أصنافٍ من الحياة ، في تمحيصٍ للواردِ فليس كلُّ ما يرِد الذهن يكون مقبولاً أو مردوداً ، فالعقلُ في وظيفته حياديٌ و ليس ينحازُ إلا إلى ما تمليه عليه مُعطيات موارد بنائه ، و تفتيقٍ لأسرارِ الوجود بإبداعٍ لما ينتهضُ إذْ وظيفته تكمُنُ في كونه متجدداً ، و التجديدُ للمتجدد ، فالماءُ الراكدُ مُستقذَرٌ على صفائه ، و رُبَّما رُغِبَ في الكثيرةِ على نُفرةٍ ، حيث فارقُ التجديد .
فكان من التجارب التي أملَتْها الحياةُ أن التفنُّنَ في العلوم و المعارفِ بابُ شرفٍ و عِزٍّ ، و لا يَطولُ التفنُّنَ إلا مَن كان عقلُه متجاوزاً حدودَ المعرفة الجغرافية و المنهجية ، و حدُّ التفنُّنِ نَوالُ مفاتيح و مداخل العلوم و الفنون دون التعمُّقِ في تدقيق أبحاثِ كلٍّ .
أولى ما يكون التفنُّنُ لازماً على أولئك الذين يَسعون ليكون ناهضين بالأمم مُصلحين للمجتمعات ، فإنَّ الأمم تحوي كثيراً من التيارات و التوجهات و المصلحُ يُخاطبُ الكلَّ بما هو له أهلٌ ، و لا تكون مخاطبته صحيحةَ الطرحِ تامةَ القبولِ إلا إذا كان على معرفةٍ بما لدى الآخرين .
و من التجارب أن ارتباط الشخص بالذواتِ محلٌّ خللٍ لديه ، و مَوْرِدُ زلل عليه ، لأنَّ ارتباطه يكون بالشكلِ و الصورة ، و هما مُعرَّضان للآفاتِ من أصولهما ، فيكون ارتباطه بشيءٍ لا يُحمد عليه .
في حين أن الارتباط بالصفاتِ التي تلبسها الذواتُ حمْدٌ و مدحٌ ، إذ الصفاتُ معانٍ ، و المعاني باقيةُ لا تفنى ، و ارتباط الشخصِ بمعنى أقوى دافعية له نحو التميُّزِ من ارتباطه بالمبني ، و الذواتُ محلُّ الصفات ، فالقيمةُ و الميزان على الصفات لا على الذاتِ ، و ما تُعاب ذاتٌ بنقصٍ بقدرِ عَيْبِ الصفاتِ به .
لما كان ارتباط الشخصِ بالذواتِ صار لديه تعظيمٌ مُطلَقٌ للذاتِ ، و انتصارٌ لحقها و باطلها ، و خيرها و شرها ، فلا يكتسبُ من تلك الذاتِ شيئاً سِوى المحاماة عنها و الدفاع عن بَيْضتها ، لأنَّ بقاءها بقاءٌ له و فناءها فناءٌ له .
و المرتبط بالصفاتِ لا يُقيم للذوات إلا وزنَ التوظيف الحسن لها ، فلا ينظر للذات على أنها تلك التي لا شيءَ مثلها ، و إنما ينظر إليها من خلال الصفات القائمة فيها ، فحمدُ الذات و ذمها إنما هو بصفاتها لا بذاتها .
أوحَت التجارُبُ على ضَوءِ الذاتيات و الصفاتيات أن الصفات ترتبطُ بها مقاصدُ تُمليها ، و الذاتُ ترتبطُ بها مشاهدُ تَبنيها ، و فرقُ المقصد عن المشهد كفرق الثريا عن الثرى ، في تجربة المشاهد يكون دوران الشخصِ في فلَكِ الصورة الظاهرة و الشكلِ البيِّن فلا يُجاوزُ ظِلَّ الصور و لا يُغادرُ ألونها ، و في تجربة المقاصد غَوْصُ الشخصِ في التنقيبِ عن الأبعادِ المقصودة المخزونة .
المشاهدُ و المقاصد في كلِّ حياة الإنسان ، في علاقاته ، تعاملاته ، أعماله ، دينه ، أخلاقه ، أفكاره ، طموحاته ، غاياته ، كلُّ حياته إما مقصدٌ يرتقي به و يتألَّق ، و إما مشهدٌ يتشبَّثُ به و يتعلَّق ، و مصيرُ المقاصدي البقاءُ لبقاءِ مقاصد الحياة ، و مصير الآخرِ الفناء لفناءِ المشاهد ، فكلُّ ما ليسَ باقياً فانياً .
من تجارب الحياة إن لم تكنْ متناً كُنتَ حاشيةً ، و المتنيةُ لا تكون إلا بمتانةٍ ، و الحاشية لِحَا شِيَة ، فلأجل أن تكون في صُلبِ الحياةِ و عناصر التأثيرِ لازمٌ عليكَ أن تكون متينَ الحالِ و المعنى ، متينَ الظهر و الجَهد ، مغامراً في الشرفِ المروم ، راكباً الصعبَ قبل الذلول ، فما كان للمتنِ أن يعتلي لولا متانته ، و في تحشية الحاشية تكملةٌ إتمامٍ ، في مَتنيةِ الفردِ متنيةُ أُمَّتِه ، فارتقاءُ الكلِّ بالجزءِ ، لا انفكاكِ إلا بهلاك .
في الحياة كثيرون رَضوا بالبقاءِ في أرضِ الحاشية لعجزِ و تقصيرٍ ، و القليلُ من زاحم حتى خاضَ أرض المتنِ بقوةِ الجأشِ و متانةِ الثقة ، فبقيَ المتنُ مُتداوَلاً مُتناقَلاً لأثرِه في الإعماء و البناءِ ، و مرونته في أحواله ، و لا يَمُرُّ على الحاشية إلا النادرُ مرورَ استعطافٍ ، فالحياةُ متانتها بمتانة الخائضين أرضَ المتنِ ، و في تحشية الحالِ تهميشٌ ، فالمتنُ شأنٌ يُذكرُ و الحاشيةُ شيءٌ يُغْمَر .

عبد الله العُتَيِّق
Abdullah.s.a
 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية