اطبع هذه الصفحة


{] الاغترابُ [}
1/6/1429
5/6/2008

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


إيَّاكَ و السُّكْنى بأرْضِ مذلَّةٍ
تُعَدُّ فيها مُسِيئاً و إن كنتَ مُحْسنا


تقلباتُ أحوالِ الإنسان في حياته تُلهمه كثيراً من العِبَرِ ، و تجعله في ظلِّ تغيراتٍ متنوعة في معيشته ، تختلفُ من حالٍ إلى حالٍ ، لاختلافِ أسبابِ ذلك ، و بقاءُ الحالِ مُحالٌ .
حين يكون الإنسانُ في محلٍّ هو ليسَ لهُ ، و لا يكون لائقاً بقدرِ ما فيه ، و لا يعرفُ أحدٌ ما لديه ، فإنه سيكون ضائعاً تائهاً ، يتعبُ في مسيرته نحو مراداته ، لقوة الذاتيةِ عنده و التي تُرهقها غَيْبَةُ بصائر من حَولَهُ ، و القوةُ تغلبُ الشجاعة ، و الصبرُ على الكَرِّ المُرِّ بلا أثرٍ لبذرٍ عبثٌ و لهوٌ .
يكون الإنسانُ حينَ ذاك ساعياً في تجليةِ كينونته إنساناً كمَّلَه ربُّه إذْ خلقَه بكثيرٍ من مُغذياتِ إنسانيته ، فيُطعمُ العقلَ بنورِ الفكرِ و المعرفة ، و يُغذيه بأسرارِ الفهمِ ، فلا يكون إلا كصارخٍ في أُذُنِ مَيْتٍ ، و ساكنٍ خرابَ بيتٍ ، لا يأتيه مما يُبديه شيءٌ .
ليتَ حالَه يقفُ عند ذا ، و لكن سيصعُبُ و يَشْتَدُّ حينَ يكون زمانُه رديئاً ناكراً ، فلا يرى حُسْنَه إلا سُوءاً ، و لا زَيْنَه إلا قُبْحاً ، و لا كمالَهُ إلا نقصاً ، هنا يُدركُ تكالُبَ الضباءِ على خراشٍ ، و لا يلومه حين لا يصيد ، و توارُدُ السهامِ إيهامٌ و إبهامٌ .
إن الإنسانَ ليسَ ابناً لأرضٍ بقدرِ ما هو ابن لذاتِهِ ، و ليس منتسباً لأهلٍ كانتسابِهِ لفكرِه ، فهو ابنُ نفسِهِ و منسوبٌ لفكره ، فبهما يكون و يُعتبَرُ ، و ما غَدتِ الأرضُ فخراً و لا الأهلون ظهراً في حالِ إعمالِ الهدمِ فيه ، فهو لهما حين يكونان له ، و أما حين لا فليسَ إلا السعيُ في سبيلِ إيجادِ ناصرٍ و معينٍ .
أدرك أهل الفكرِ ضيْقَ زمانهم عنهم ، و نُفرة آلهم منهم ، فما توانوا عن نَقلِ الرِّجْلِ إلى الأرضِ التي تُبارِكُ البُناةَ ، و تمنحهم إلْفاً و قلباً ، فيعرفون الشيءَ على وجهِ مجيئه صحيحاً بلا اعتلالٍ ، و يُدركونه حَسناً لا قُبحَ يعتريه و يَشُوبُه ، فكانت الأرضُ باركتْ وجودهم فكانوا بُناةً لسماءِ الفكرِ في كوكبِ التقديرِ لذاتِ الصفاتِ الكماليَّةِ الجماليَّة ، و ندبتْ حظها الأرضُ الأُمُّ إن أدركتْ خطيئتها .
فكانتْ منهم شَكوى الزمانِ ، و نقدَ الإنسانِ ، و كُرْهَ المكانِ ، فقد كانت سِهاماً طائشة وُجِّهَتْ نحوَهم فلم يَسْطيعوا لها ردَّاً و لا دفعاً ، و في أشعارهم توصيفٌ سِيَرِيٌّ ذاتيٌّ لتلك الحالِ ، و لا يُلامون .
نَهْجُ الغُرْبَةِ يفعله أربابُ العقولِ الناضجةِ لبناءٍ تكميليٍ لعقولهم ، و لبناءِ صرْحٍ تعليميٍ لفكرِهم ، و لبناءِ جيلٍ تابعٍ في أرضهم ، مَعْ صِدقٍ في توجُّهِ القلبِ نحو فكرِ العقلِ لتركيبِ الكونِ ، فالكونُ أجزاءٌ كثيرةٌ ، و لكلِّ جُزءٍ وظيفةٌ لبناءِ الكون ، و جُزءُ الإنسانِ أشرفها و أسماها ، و وظيفته بأيِّ جزءٍ من الكون ، فالكونُ كلُّه ميدانُ عملِهِ ، فحيثما قَدرَ فليعمل .
إنَّ ناسَ الأزمنةِ يختلفون ، فناسٌ يَدٌ معطاءةُ نفعٍ و بناءٍ ، و ناسٌ يدُ مضرَّةٍ و هدمٍ ، و بِمَن التَصَقَ الإنسانُ اقتبَسَ ، فيسْحَبُ المرءُ من صاحبِهِ خِصالاً و خِلالاً بِعدوى المُجالَسَةِ .
أشدُّ الناسِ مضاضةً على الإنسانِ قريبُ روحٍ مُنِحَ منه كثيراً فكان عونَ سوءٍ لهادمٍ على هدمٍ ، و يَدَ جُرْمٍ في قتلِ رُوحِ فِكْرٍ .
و الأرضُ الوالدةُ حين لا ترعى وليدها تتلقَّفُه أراضٍ تتبنَّاهُ فتُغْدِق عليه من رزقها كلَّ آنٍ و حينٍ ، و المُعطي يُعْطى ، والمانعُ خانعٌ .
ليسَ ألذَّ من اغترابٍ في زمنِ اضطرابٍ ، و من مغادرةٍ لأرْض رَضٍّ ، و من صَحْبِ صَخْبٍ ، و مِنْ أمنٍ أتَنٍ ، و رُبَّ داءٍ دواءٌ .
عَزلُ الذاتِ في نُزُلِ الصفاتِ ، و الاستغذاءُ بمطعومِ الفِكرِ ، جنةُ عدنِ القلوبِ من جحيمِ الأحوالِ ، و " مَنْ فُتِحَ عليه في بشيءٍ فَلْيَلْزمه " .
عبد الله العُتَيِّق

Abdullah.s.a
 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية