اطبع هذه الصفحة


{] الرَّسْمُ [}
15/7/2008
12/7/1429

عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق


" صُورٌ تُرى و تُقْرَأُ و تُعاشُ "
أدونيس

حُبُّ الجمالِ مغروسٌ في النفسِ البشريةِ ، سِرٌّ من أسرارِ حُسْنِ التقويم الخَلْقِي في البشر ، تميلُ إلى الجمالِ كثيراً ، و تلْحظُ الجمالَ في كلِّ شيءٍ من المُكوَّناتِ حولها ، و لهذا كانت كثيراً ما تُنَقِّبُ عن الجمالياتِ و تُحاكيها ، فكانتْ تقوم بالرسمِ لما تستحسنه و تراه جميلاً .
و الرسمُ من الفنونِ التي أضفتْ على الحياةِ جمالاً من جمالها ، لما فيه مِن حكايةٍ مرسومةٍ بريشةٍ ذاتِ لونٍ أو ألوانٍ ، فليسَ الرسم هوايةً عبثية يقوم بها الرسَّام بريشته ، بل هي مَظْهَرُ ما بَطنَ في نفسِه ، فالرسمُ مُتنفَّسُ الرسَّامِ الفكريُّ و الشُّعوريُّ و الدينيُّ ، فبعض الرسَّامين يرسُم ما يُوصِلُ للغيرِ فكرةً يحملها فيُوصلها بريشةِ التشكيل ، و ربما حملت الرسْمةُ شُعوراً مكنوناً مكبوتاً في نفس الرسَّامِ ، مُفرحاً أو مُحزنا ، مضحكاً أو مُبكياً ، و قد تكونُ دِلالةً على دينٍ أو تحملُ رمزاً دينياً ، فالرسْمُ هوايةٌ و رسالةٌ .
فالرسْمُ يكون أولاً قبلَ ظهورهِ على اللوحاتِ و الأوراقِ مرسوماً معنوياً في رُوحِ الرسَّامِ ، و إن لم يكنْ رسَّاماً بيده أدرَكت روحه مرسوماً يُطابقُ ما ارتسم فيها ، فلا يُرسم الرسَّامُ رسمةً بيده إلا بوحيٍ من رسم روحه ، و لا رسمَ ظاهرٍ إلا برسمِ باطنٍ ، فالباطنُ منبعُ الجمالياتِ و الظاهرُ مَشْهدها ، فالرسمُ ، و سائرُ الفنون البشرية ، تنبعثُ من تذوقِ الروحِ لها ، و العقلُ و الدينُ يَحكمان التوظيفَ لا يُحكمانِ التكييفَ .
موهبةُ الرسم باليدِ تكون مَجْمَعَ التكاتف الروحي و الجسدي ، فينطبعُ ما في الروحِ بآلةِ الجسدِ على محلِّ الرسمِ و أثرُ هذا التكاتف كبيرٌ على إيحاءِ المرسوم و على نفسِ الناظرِ إليها ، و لا تكاد تهفو النفوسُ المتذوقة الرسمَ إلا لمثل هذا النوعِ ، على الضِدِّ تماماً حين يكون الرسمُ ليس موهبةً مغروزةً في الإنسان ، فيكون رسمُه اصطناعيٌّ اكتسابي ، فيكون الأثرُ فيه من تلقاءِ الذوقِ الجسدِي أو ما استطعمته الروحُ لا ما اختلقته من تلقائها ، فيقِلُّ الإقبالُ على هذا النوعِ من الرَّسمِ ، و مثلُه ما كان في الروحِ تَوقٌ نحو الرَّسمِ و لكنَّ الجسدَ لا يُعينُ على ذلك فتكونُ باحثةً عن رسَّامٍ أو رسمةٍ تُشابه ما تريده ، و هذان بدلانِ ، و البدَلُ أعورُ .
المرسومُ ربَّما كان شيئاً حيَّاً ، إنسانٌ أو حيـوانٌ ، أو شيئاً جمادياً ، شِبْه حيٍ أو جمادياً خالصاً ، أو كان رمزياً ، أيَّاً كان نوعُ المرسومِ فإنه لا يحملُ في طيَّاتِهِ معانيَ ينثرها الرَّسام ، قد يُدرك تلك المعاني مَن عرفَ الرَّسَامَ و ما يعيشُه من أحوالٍ ، أو ربما عُرفت من حيثُ الحاضر الذي يعيشه ، فالرسمُ يَعكسُ حالةَ الرَّسام النفسية تماماً ، في رُسوم الترميزِ تكون أبعادُ الرسماتِ إما مُضطربة ، و إما لها دلالاتٌ نفسيةٌ عميقةٌ ، إن صُوحِبَتْ بشرحٍ و إيضاحٍ كانَ بلاغاً مبيناً ناطقاً عن المرسومِ ، و للرمزيةِ أثرٌ على النفسِ حين تُدركها أشد من أثرِها لو كانت بيِّنةً واضحة ، فللغموضِ إيحاءٌ يُدركُ بالنهوضِ ، و في رسم الأحياءِ ، البشر وغيرهم ، أو الجمادياتِ بأنواعها مقاصدُ الذكرى ، أو وقفةُ الأطلالِ ، أو استشرافُ المستقبلِ .
للمكانِ و الزمانِ أثرهما في تكوين رسالة الرسم ، فالذي تهفو نفسُه للقديمِ ، زماناً و مكاناً ، و يندبُ وجودَه في زمنٍ غايرَ و ناقضَ الماضي العريق تجد في رسوماته لمساتِ الماضي ، و كذلك من شَكى الحاضرَ أو مدحه فلرسوماته فيه وجودٌ طاغٍ ، ذماً و قُبحا ، أو مدحاً و حُسناً ، مثلهما الذي يرنو بنظرته نحو مستقبلٍ بعيدٍ أو قريبٍ ، فلا يدري كيفَ يكون حالُه فيه ، فيرسم مستقبَلاً مُتخيَّلاً حسْب تشكيلاتِ الروحِ الصورةَ المرسومة .
إدخالُ اللونِ على الرسمِ يُضفي عليه معنى يَبْلُغُ بالمرادِ أبعدَ غايةٍ ، حيثُ كانت الألوانُ لُغاتٌ تُدركُ بها الأبصارُ مقاصِد النفوس ، و لكلِّ لونٍ رسالتُه ، و لكلِّ لونٍ ، كذلك درجتُه ، و وضعُ اللونِ في الرسمةِ ضروريٌ من حيثُ الأهمية ، و المناسبة ، و الموافقةُ لحالِ الرسمة ، و كذلك رسالة اللونِ للناظرِ فيه ، و اختيارُ الألوان يكتنفه ذوقُ الروحِ و رؤية العقلِ و مهارةُ الفنِّ .
إضافةُ الأشكال الهندسية ، أو التشكيل الترميزي في الرسوماتِ يُعطي دلالاتٍ بعيدة المدى ، و هي من المُعيناتِ لا من الأساسات ، و جنوحُ كثيرٍ من فنَّانِي الرسمِ إلى إضافةِ الأشكال ، أو التشكيل الرمزي لم يكن عبثاً و لهواً ، لذلك أقبلَ الناسُ على رسوماتٍ أُضيْفَ عليها ذلك لكشفها عن شيءٍ في نفوسهم .
ارتباطُ الرسمِ بالواقعيةِ و الخيالِ نهجٌ من الذوقِ الرسمي سلكه الرسَّامون ، و الرسم الخيالي مِن أبدعِ أنواعِ الرسمِ لما فيه من إشعال فتيلة التفكيرِ العقلي لمعايشة الخيالِ في الواقع الذهني لا الخارجي ، و كثيراً ما تحقَّقَت رسوماتٌ كانت أول أمرها خيالاً و استبعدها الناسُ ، و ما يصنع العقلُ خيالاً يستحسلُ تحقُّقُه ، بخلافِ الرسومات الواقعية فإنها تكون مرتبطةً بزمانٍ معروفٍ ، فهي حكايةٌ زمانٍ حاضرٍ ، و تاريخٌ له بعد ذهابه .
مِن الرسمِ المُغَيَّبِ ، الرسمُ اللفظي ، و هو الرسمُ النَّعتي أو الوَصفي ، فاللغةُ ترسُم بحروفها كما ترسم الريشة بألوانها ، و لا يكادان يجتمعانِ في رسَّامٍ ، فإما يمهرُ الشخصُ بالرسم اللفظي أو الرسم الشكلي ، و إذا اجتمعَ فجمال إبداعٍ حِيْزَ بحذافيرِهِ في نفسٍ واحدة ، إلا أنَّ أحدهما يُعبِّرُ عن الآخرِ بما يُدركه شبيهه ، فالرسَّامُ التشكيليُّ يُعبِّرُ عن الرسام اللفظي برسمٍ يُدركه تشكيليٌ مثله ، سواءً رسَّاماً أو متذوقاً ، و كذلك الرسَّام اللفظي يُعبِّرُ عن الرسمِ الشكلي بألفاظٍ يُدركُ اللفظيُّ منها رسالةَ الرسمةِ .
الرسمُ رسالةٌ روحيةٌ جسدية تُجسِّدُ بألوان الكونِ رسالة الكونِ ، و تحملُ للآتينَ بقيةَ رسائل ألواحِ مَن سبقوهم ، و يصنعُ حضارةً قادمة ، فليسَ هوايةً بلا غاية ، و لا لعباً و لهوا ، و إن اتُّخِذَ كذلك ففي طيَّاته رسالته ، جميلٌ أن ننتهضَ بتفعيلِ جمالياتِ الرسمِ بشتَّى أنواعه لغايةِ الجمالِ المقاصدي لا الجمال المشاهدي ، فقد مضى زمن الصورِ الجوفاءِ الفقيرةِ من المعاني .

Abdullah.s.a
 

عبدالله العُتَيِّق
  • مقالات
  • كـتـب
  • خواطر
  • أدبيات
  • كَلِمَات طـَائِرَة
  • الصناعة البشرية
  • منتقيات
  • للتواصل مع الكاتب
  • الصفحة الرئيسية