"العقول الكبيرة تناقش في المبادئ"
(مثل صيني)

جرى العقل على مر الزمان في مجار عدة، لا توافق بينها ولا تآلف، بل كانت محدثات لشقاق ونزاع، منها ما رفعه فوق قدره وأعطاه ما ليس له، ومنها ما وضعه دون قدره ومنعه أشياءه، وهي المحكمة المصادرة، وهما طرفان ذميمان، شأن كل طرف، ومنها ما أقامه في محراب العدل وعلى ميزان الحق.

غلبت المحكمة المصادرة الطرف المقابل والوسط، فكانت لها سلطتها، بناءً على موهوم الفهم لا على يقينه، فكان خضوع العقل في محكمة المصادرة بسبب جريمة في حقه والتي لا يرتضيها قانون الكون، وتأباها الأديان الصحيحة، حيث يسلب قيمته ويعطل عن وظيفته، فصودر العقل في كثير من مجالات الحياة: الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، وغيرها، مما جعل الفوضوية تسود أنحاء الفكر، ففكر نشاز لا يلوي على منطقية، وفكر معتوه لا يقوم على قانون صحة.

مصادرة العقل له صور كثيرة، يجمع تلك الصور أصلان أساسان:

الأول: مصادرة قيمته، وتهميش موقعه، سواء كونياً أو دينياً، وهو الدليل الصادق لكثير من أمور الحياة، فعُدَّ، في محكمة المصادرة، من ثانويات الاهتمامات، والتي هي المهمشات، فلم تعترف المحكمة إلا بما تقوم عليه قوانينها، على حسب فهمها لتلك القوانين، لأجل ذا صادرات قيمته ومنزلته، ولا يصادر قيمة العقل ومنزلته إلا من لم يدرك وجوداً لقيمة العقل في حياته ولم يعتبر له أساساً فيها، و"فاقد الشيء لا يعطيه".

الثاني: مصادرة وظيفته وعمله، فحيث كان العقل جوهر الإنسان فإن وظيفته جوهر الوظائف، ولا تقوم للوظائف أية قيمة ما لم يكن للعقل حضور فيها، ووظيفة العقل تختلف مراتبها، وجوهر وظيفته يكمن في التعمق في الأشياء المعلومة الموجودة لاستخراج المجهولات المفقودة، وتحليل الظواهر لسبر المخابر، فهو يقف بعمله على حقائق الأشياء التي بها عمارة الأرض، لذلك كانت المخاطبات الربانية لأصحاب العقول، فلم تكن النهضة في الأديان والأمم إلا بأكمل الناس عقولاً.

المحاكم الأحادية الرأيية التي تصادر العقل قيمته ووظيفته، تجعل العقل متهماً بجريمة جهلها لا بجريمة ارتكبها العقل، فهو في الأصل يقوم بما منح من صلاحية في الوظائف الموكلة إليه، لذلك تلقي، المحاكم المصادرة، بالتبعة عليه لتبرئة ساحتها من الجهل بمنطق العقل وتحليله، ولا تكون المحاكم المصادرة إلا بدعم من سلطة فهم عوجاء، سياسية أو فكرية، والتي جعلت منها اتخاذ الرأي الأحادي منهجاً تؤمن به استقرار ذاتها ولذاتها.

كثيراً ما جنت، ولا زالت تجني، محاكم العقل المصادرة على إنتاجه وأثره، وإنتاج العقل كثيراً ما يحالفه صواب وصحة، ولا تنتج المخالفة له إلا من حيث عدم إدراك أبعاد ما رامه وقصده، لأجل هذا كان التنبيه والإشارة للعقل في كثير من أمور الأديان والشرائع، لأن وجوده فيها يجعل للصحة في النتيجة وجوداً، فتعطلت بتلك المصادرة منافع العقل ووظائفه.

فعدم إدراك هؤلاء قيمة العقل ووظيفته، والتي عرفها أرباب العقول السابقون في كل ديانة، سببٌ في تصيير العقل في محاكم المصادرة التفتيشية، والتي كانت عيناً تراقب كل ما يأتي به العقل، وما يخرج به.

عملية المحاكمة قائمة على أشياء ليست جوهرية في عمل العقل، ومن جراء نقلة الحكم إلى النتيجة دون النظر في المقدمات والإجراءات العقلية، وذلك بسبب أن تولاها أصحاب ثقافة محدودة، زماناً أو مكاناً أو نوعاً، والذين اقتصروا على موروث منهجي لا يتجاوزونه إلى غيره، فما يكون منهم أمام قوة العقل الظاهرة إلا مصادرة تلك القيمة والوظيفة، واللتان يكون منهما إنتاجه وإبداعه، وعادم المعرفة بشيء معاد لأثره. فاللجوء، تدرعاً، إلى الأحكام البشرية على الأحاديث المنقولة في العقل دون الوقوف على معاني الأخبار، حالة الجاهل قيمة العقل وشأن الغافل عن سر وظيفته التي مدح بها إشراف الناس، وهو لجوء من محكم الوارد إلى متشابه الحكم، والظنون قوارب الضعفاء، وإلا ففي المقطوع من المنقول في الشرائع ما يثبت قيمة العقل ووظيفته.

فحين يطلق للعقل عنانه في جو المقبول من وظيفته وحين يتجاوز به الحدود الوهمية الداعية إلى الحد من وظائفه بحجة سد ذرائع الوهم والزيف المعرفي ينتج كثيراً مما ينهض بالأمم، ونجد لذلك أبعاداً في صدق كينونة الإنسان خليفة عامراً في الأرض.

يكفي العقل ما ناله من سطوة الأحكام المصادرة إنتاجه دون تمحيص لجيد من رديء، وحسن من قبيح، فالحكم الصحيح مساند من عقل ناضج رجيح. فلنجعل للعقل فضاء يطلق فيه مراكبه الإبداعية، والإنتاجية، والتي تحملها وظائفه، مع حسن في التوجيه لمسيرته، وتقدير في النظر، وعدل في التقويم والوزن، مع صرف عين الوصاية اللامعقولة عليه، ليعمل بالإعمار عمله الذي لا يقدره إلا العقلاء، لأن الأديان الصحيحة لا تعارض العقول الرجيحة، فهما لصيقان في النهضة في هذا الكون، إلا في نظر من قصر فهمه للأديان على جزء لا ينتهض أمام العقل، فالأديان أقيمت على التعريف بقيمة العقل والإشارة إلى وظيفته في إيكال التفكر إليه.

Abdullah.s.a


المصدر : جريدة الرياض