اطبع هذه الصفحة


الكلبـاني وإباحة الغناء..إشكالات منهجية

عبداللطيف بن عبدالله التويجري
@twijri_a

 
الشيخ عادل الكلباني عرفه القريب والبعيد بأنه صاحب الصوت الشجي القارئ المجوِّد الحافظ، وقد من الله عليه بإمامة المصلين في الحرم المكي في شهر رمضان عام 1429هـ، ولكن أحزننا وأحزن كثيراً من الغيورين صدورُ رأي غريب له؛ حيث انتهى إلى نتيجة في مسألة الغناء عبَّر عنها بقوله: (فإن الذي أدين الله تعالى به، هو أن الغناء حلال كله، حتى مع المعازف)!؟!
عجباً ماذا دهى الشيخ؟ ما هذه القفزة الغريبة؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ كيف يجرؤ الشيخ على نشر هذه المسألة أمام الملأ ؟ من أوعز إليه بذلك وهو لم يُعرف بالفتوى أصلاً ؟ وكيف وصل الأمر عنده إلى التشنيع على مخالفيه ومنتقديه ووصفهم بالجهل واتباع الهوى وعدم البحث وأنهم حاملوا شعار أبي جهل! كما جاء في بحثه الأخير المنشور في الصحف والمواقع، ونخشى – والله - أن يكون ذلك الرأي سلسلة لما بعده من الأقوال الغريبة والشاذة؟! فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك..

بصراحة لا أدري كيف أبدأ.. تنتابني والله حالة حزن كبيرة جداً، على حال بعض الدعاة في زمننا الذين يسلكون مسلك: (خالفت فاعرفوني) ثم انشروا صوري وأشهروني؛ فأنا العالم المتنور، والداعية الأنيق، والشيخ المتجدد، ومن يخالفني فهو الحاقد المتحجر! المقلد المتشدد! والله المستعان.

الغناء وما أدراكم الغناء.. مسألة قديمة متجددة كتب فيها من كتب، وألف فيها من ألف؛ وفي هذا المقال لن أناقش كل ما جاء في بحث الشيخ فذلك يطول جداً، ولن أتطرق لهذه المسألة من حيث العموم؛ حيث إنه سبق أن تكلم فيها علماء أفاضل من أمثال الشيخ الألباني- رحمه الله تعالى – في كتابه: "تحريم آلات الطرب"، والشيخ حمود التويجري - رحمه الله تعالى – في بعض ردوده، والشيخ: عبد الله رمضان بن موسى في كتابه الواسع: "الرد على القرضاوي والجديع.." وغيرهم الكثير الكثير، وقد راجعتها واستفدت منها كثيراً في هذا المقال.
والمقصود في هذا المقال التطرق إلى بعض الإشكالات المنهجية التي جاءت في بحث الشيخ الكلباني – وفقه الله - الذي نشر مؤخراً، ولعل من أبرزها: من أعدَّ البحث العلمي للشيخ؟ كما سيأتي ذلك في ثنايا المقال.
ويا أيها الأخوة المسألة لا تحتاج إلى كثير عناء وبحث، فو الله الذي لا إله إلا هو إن كثيراً من العوام بفطرتهم السليمة ومعرفتهم لمقاصد الدين لا يشكون في حرمة هذا الغناء المزعوم حله! ويكفي باحثَ الحق في تحريم هذه المسألة الدليلُ الصريح الصحيح الذي قال فيه الإمام البخاري في صحيحه: قال هشام بن عمّار: حدثنا صدقة بن خالد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثنا عطية بن قيس، عن عبد الرحمن بن غَنْمٍ، قال: حدثني أبو مالك أو أبو عامر، ووالله ما كذبني أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ).
وهذا الحديث جاء موصولاً عن هشام بن عمار من غير هذا الطريق من أكثر من عشرة طرق، وبهذا سقطت حجة من ضعف الحديث بحجة أن البخاري رواه معلقاً. (ينظر كتاب تغليق التعليق لابن حجر)
والغريب أن ابن حزم نفسه ذكر أنه لو صح هذا الحديث لقلنا به؛ لكن قد يُعذر على أنه لم يطلع على هذه الطرق كلها، لكن لا يعذر غيره ممن جاء بعده واطلع عليها؛ إضافة إلى أن الحديث قد صححه أئمة كبار أعلم بالحديث من ابن حزم وابن طاهر القيسراني وغيرهما ممن قدح في صحة الحديث.
ووجه الدلالة من الحديث بينَّها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/535) في قوله: (وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي – صلى الله عليه وسلم - يذكر الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف على وجه الذم لهم وأن الله معاقبهم. فدل هذا الحديث على تحريم المعازف. والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها).
توضيح للغناء الذي أباحه بعض السلف:
جاء في لسان العرب في تعريف الغناء: (كلُ من رَفَع صوتَه ووالاه؛ فصوتُه عند العرب غناء). ولذلك فإن من تأمل في لغة العرب واستعمالهم للغِناء وجد أنهم يريدون به الشعر، أو الكلام المسجوع؛ حيث يطلقون عليه: غِناءً، يقول حميد بن ثور:
عجبت لها أنّى يكون غناؤها ** فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فَمَا
فتحسين الصوت إذن من الغناء عند العرب، ويظهر هذا في قوله– صلى الله عليه وسلم - : (ما أذِنَ الله لشيء أذنه لنبي أن يتغنَّ بالقرآن). أي: يحسن صوته به.
فإذا تقرر هذا؛ فليعلم أن ما جاء عن بعض السلف يُحمل على هذا المعنى كما نص عليه غير واحد من أهل العلم، منهم:
القشيري نص في رسالته (ص150) على أن ما روي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن أبي جعفر بن أبي طالب من جملة سماع الأشعار بالألحان.
وكذلك ابن رجب في رسالته في السماع، يقول: (وقد روي عن بعض السلف من الصحابة وغيرهم ما يوهم عند البعض إباحة الغناء، والمراد بذلك هو الحداء والأشعار).
وابن الجوزي يقول: (كان الغناء في زمانهم إنشادَ قصائد الزهدِ إلا أنهم كانوا يُلحِّنونها).
وابن حجر الهيتمي في كتابه كف الرعاع يقول: (لم يحفظ عن أحد ولم يرو عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة المجتهدين من قال بإباحة المعازف).

ولـمَّا كتب أحد الكتاب من مصر كلاماً يجوز فيه الغناء بآلات اللهو والطرب، ويستدل فيه ببعض النصوص من المرويات عن بعض السلف في إباحة الغناء، قال عنه أحمد بن الصديق الغماري: - وهو من علماء المغرب، وإن كان فيه لوثةٌ اعتقادية - ( وأما استدلالهم بذلك فعجيب!! فإن إبليس داخلٌ في إجماع العقلاء على تحريم ذلك الغناء).
(وينظر فيما سبق كتاب: الغناء في الميزان، ص: 12، 45).
وعلى ذلك يتبين أن استدلال الشيخ ومن معه ببعض الآثار التي جاءت عن السلف وأهل المدينة في سماع الغناء وإباحته فالمراد به: الحداء والألحان والأناشيد، وليس المراد بذلك المعازف إطلاقاً، وأما ما ورد عن بعضهم من جواز الغناء ولو مع آلات اللهو والطرب فلا يخلو من أمور:
• إما إنه لم يصح النقل عنهم وهذا وارد جداً. (ينظر كتاب الشيخ عبد الله رمضان فقد ذكر كثير ممن استشهد بهم الشيخ أن ذلك لا يصح عنهم).
• وإما أن بعض العلماء المتأخرين وهم قلة لم يفرق بين الحداء والغناء الذي ورد عن السلف فأجازه كما سيأتي لا حقاً.
• وإما شذوذ من بعضهم، لا يجوز أن يتابع عليه، إذ لا أسوة في الشر كما يقوله ابن مسعود – رضي الله عنه -.
* * * * * * *

? عن سماع أهل المدينة للغناء:

جاء في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر الخلال (ص: 169) سُئِل الإمام مالك- رحمه الله- عن الغناء فقال: (إنما يفعل ذلك عندنا الفسّاق). وصحح إسناده الشيخ الألباني.
وسُئِل الإمام الشافعي- رحمه الله-: حيث سأله يونس، فقال: سألت الشافعي عن السماع الذي أراده أهل المدينة؟ فقال الشافعي: (لا أعلم أحداً من أهل المدينة كره السماع إلا ما كان على الأوصاف، وأما ما كان من إنشاد الشعر والحداء وذكر المرابع، فإنه مباح).

وقال الإمام أحمد - رحمه الله - قال: (الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب: أتيناكم أتيناكم). فتح الباري لابن رجب: (6/83 )

ومعلوم من مالك، وما علمه بعمل أهل المدينة!

* * * * * * *

? موقف العالم الأصولي الفقيه ابن قدامة المقدسي فيمن يقول بإباحة الغناء:

ذكر ابن رجب - رحمه الله - في ذيل طبقات الحنابلة: (2/141) عند ترجمته لعبد الرحمن بن نجم الشيرازي المشهور بـ (ابن الحنبلي) وهو من كبار الفقهاء في مذهب الإمام أحمد، لما قدِم إلى ابن قدامة في العام الذي توفي فيه، قال له ابن قدامة: لقد سررت بمقدمك، فإني خشيت أن أموت فيقع وهَنٌ بالمذهب ويقع الخلافٌ بالأصحاب.

فلما استشكل وخلط بين الغِناء والحداء، وكتب ابن الحنبلي في ذلك كتاباً عنّف عليه ابن قدامة بقوله: (وشَرَع بالاستدلال لمدح الغناء بذكر الحداء، وهذا صنيعُ من لا يفرق بين الحداء والغناء ولا قول الشعر على أي وجهٍ كان، ومن كان هذا صنيعه فليس أهلاً للفتيا).

والذي قال هذا القول هو نفسه الذي قد ذكر في كتابه "المغني" أن الغناء محلُّ خلاف عند العلماء من الأصحاب، فأي غناءٍ أراد ؟

الجواب: أراد الحداء، فإنه قبل وفاته بعامٍ قد شنّع على ابن الحنبلي وذكر اتفاق العلماء على تحريم الغناء.

هذا مع أن كلام ابن الحنبلي غير متوجه في الغناء بآلة؛ لأنه قد نص في رسالته لابن قدامة على تحريم الملاهي والمعازف، وجعل تحريمها إجماعاً واستثنى الشبابة، ومع ذلك عَظُم إنكار ابن قدامة عليه.
فإذا كان هذا الشأن في الغناء بدون آلات ومعازف؛ فعمرك الله كيف يقال في من استحله مع هذه الآلات والمعازف ؟
(ينظر كتاب الشيخ عبد العزيز الطريفي الغناء في الميزان ص: 12)

* * * * * * *
? إشكالات علمية في البحث:

وذكر جميع الإشكالات العلمية في البحث يطول، لكن من أبرزها:

? عدم فهم القول وتنزيله على ما يريده الباحث:

مثل تنزيل قول من يبيح الغناء، وهو يقصد الشعر والحداء، أو يقصد الغناء المطرب من غير آلة الذي اختلف فيه أهل العلم؛ على أنه يريد الغناء مع آلات اللهو أو بعضها، وهذا مرده إما لضعف الفهم أو التخليط، وسبق توضيح هذه النقطة.

خذ مثلاً: جاء في البحث: (ونص على إباحة الغناء ابن رجب الحنبلي العالم الشهير).

وهذا نقل موهم، وفيه خلط بين الغناء والحداء الذي وقع فيه خلاف بين السلف، والغناء المجمع على تحريمه، فابن رجب له كلام واضح في ثلاثة مواضع من كتبه خذ واحداً منها نصاً والباقي إحالة: حيث قال: (وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى). فتح الباري لابن رجب (6/83) وينظر أيضاً نزهة الأسماع في مسألة السماع، دار طيبة: (ص 25) و (ص 60)

? الرجوع إلى مراجع غير أصلية في البحث:

للأسف فإننا لو تأملنا في مراجع البحث وجدنا أن مرجعها كتب تاريخية أو أدبية لا تهتم بصحة نسبة القول إلى قائله مثل: كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي ومعلوم ما فيه من الأحاديث والآثار الضعيفة والواهية جداً، أو كتاب: تهذيب تاريخ دمشق، أو كتاب: العقد الفريد، أو كتاب: الأغاني لأبي فرج الأصبهاني، وغيرها من المراجع التي لا يعتد بها في نسبة الأقوال إلى قائليها، ولا شك أن هذا صنيع من يعتقد قبل أن يستدل فيحاول أن يحشد لرأيه أي قول وافقه ولو شاذا أو ضعيفاً أو واهياً.

? المنهجية العلمية في نقل الخلاف:

الخلاف خلاف من سبق من السلف، فإذا أجمع السلف على أمر فلا يعتبر بخلاف المتأخرين من بعدهم! وفي البحث نقولات لبعض المتأخرين الذين لا يعتد بخلافهم، لإجماع السلف في حرمة ذلك؛ فكيف يذكر في البحث خلاف لعالم متأخر قد يكون لم يطلع على الإجماعات في المسألة، أو لا يرى حجية الإجماع، أو لم يفرق بين الغناء والحداء.

* * * * * * *

? حكم من حكى خلافاً في آلات الطرب والمزامير عن العلماء:

خرَّج الإمام النسائي في سننه: (4135) أن عمر بن عبد العزيز كتب كتاباً إلى عمر بن الوليد جاء فيه: (وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك جمة السوء). وصحح إسناده الشيخ الألباني في تحريم آلات الطرب (ص:120)

ويقول ابن حجر الهيتمي: في كتابه كف الرعاع: (ومن حكى خلافاً في الغناء فإنه قد وهِمَ وغَلِط، وغلب عليه هواه حتى أصمّه وأعماه).

ويقول ابن رجب الحنبلي: (وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى). فتح الباري لابن رجب (6/83)

* * * * * * *

? خلاصة متميزة من ابن تيمية رحمه الله تعالى:

حيث قال - رحمه الله تعالى -: (وأما التصفيق بأحد اليدين على الأخرى، وأما الضرب بقضيب على فخذ وجلد، وأما الضرب باليد على أختها أو غيرها على دف أو طبل كناقوس النصارى والنفخ في صفارة كبوق اليهود، فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته. وأما إذا فعلها على وجه التمتع والتلعب فذهب الأئمة الأربعة: أن آلات اللهو كلها حرام فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره، أن النبي أخبر أنه سيكون من أمته – صلى الله عليه وسلم - من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير.
و"المعازف" هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة. جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها: أي يصوت بها.

ولم يذكر أحد من اتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً؛ إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ذكر في اليراع وجهين بخلاف الأوتار ونحوها؛ فإنهم لم يذكروا فيها نزاعاً.

وأما العراقيون الذين هم أعلم بمذهبه وأتبع له فلم يذكروا نزاعاً لا في هذا ولا في هذا بل صنف أفضلهم في وقته أبو الطيب الطبري شيخ أبي إسحاق الشيرازي في ذلك مصنفاً معروفاً. ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو، هل هو حرام ؟ أو مكروه ؟ أومباح ؟

وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال وذكروا عن الشافعي قولين ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعاً.

وذكر زكريا بن يحيى الساجي - وهو أحد الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي - أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة وما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي وأبو القاسم القشيري وغيرهما: عن مالك وأهل المدينة في ذلك فغلط . وإنما وقعت الشبهة فيه لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم ؛ بل قال إسحاق بن عيسى الطباع: سألت مالكا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك وهم أعلم بمذهبه ومذهب أهل المدينة من طائفة في المشرق لا علم لها بمذهب الفقهاء ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه وإنما نبهت على هذا لأن فيما جمعه أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن طاهر المقدسي في ذلك حكايات وآثار يظن من لا خبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق). انتهى من مجموع الفتاوى: (11/576-577-578).

* * * * * * *

? من أعد بحث الشيخ ؟

في الحقيقة كنت لا أريد أن أتطرق لهذه النقطة لحساسيتها؛ ولكن حين رأيت إصرار الشيخ – عفا الله عنا وعنه - على هذا القول، والتوسع فيه ومحاوله نشره في كل مكان، وإظهاره لنفسه في المقال بصورة العالم الباحث؛ خاصة فيما جاء في بحثه: (قال أبو عبد الإله: فبهذا يتبين لك أنه حين كثر الجدل في هذه الأيام حول ما أبديته من رأي في حل الغناء، أني لم آت بما لم تأت به الأوائل، بل إن الحدث قد كشف عوار أمة تحمل لواء النص، وتزعم اتباعه، وتنهى عن التقليد المقيت، ثم هي تقلد أئمتها دون بحث أو تمحيص).

اضطررت اضطراراً، لا فرحاً واختياراً؛ إلى إظهار هذا الأمر، فقد حدث نقاش بيني وبين الشيخ في هذه المسألة قبل حوالي ثلاثة أسابيع، وكان الشيخ مرتبطاً بموعد مسبق، فدعا أحد الإخوة الباحثين – من أهل اليمن- الذين يعملون معه، وطلب أن يكمل معي النقاش فذكر لي هذا الباحث أن له بحثاً حول هذه المسألة، ثم قام بطباعة البحث، وبدأ يقرأ علي ما جمعه، وبعدها سلمه إلي، وعدد صفحات البحث عشرة صفحات، وكان معي أحد الإخوة..
ثم إن الشيخ نشر مقاله، وحين راجعت المادة العلمية في مقال الشيخ وجدتها موافقة لما في البحث سوى ذكر المراجع والصفحات.

وللحق قد يكون الشيخ كتب المقدمة أو الخاتمة أو بعض المواطن؛ أما بالنسبة للبحث العلمي وجمع الأقوال والتأكد من صحتها فلا أظن ذلك حسبما جاء في المقال والبحث الذي بحوزتي، والعلم عند الله.
صحيح؛ أن المرء قد يستعين بأحد الباحثين لإفادته، لكن لا بد من الذي يريد نشر البحث وتبنيه؛ أن يتأكد من جميع الأقوال والأدلة التي جمعها له الباحث، وصحة نسبتها، وما سياقاتها، وما قوة مراجعها؟ ومن الأفضل والأحرى أيضاً- ولكي لا يؤخذ بخطأ غيره؛ خاصة إذا كانت مسألة مهمة يتعلق بها مخالفة لإجماع منقول، أو قول لأكثر العلماء - أن يتأنى ويعرضها على العلماء المحققين قبل نشرها، وأن لا يعتد برأيه؛ فآفة العلم الرأي والهوى..عصمنا الله وإياكم منهما.

* * * * * * *

? بعيداً عن المسائل العلمية:

في ختام هذا المقال أود أن يكون الحديث في هذه النقطة صريحاً من القلب إلى القلب، حديث ننطلق فيه من محبتنا للشيخ وإرادة الفوز والفلاح له في الدنيا والآخرة، حديث لا تنقصه الصراحة فليتحملنا الشيخ فيه وهو أهل لذلك..

يا أبا عبد الإله إن الغناء الذي أباحه بعض المعاصرين لو اطلع عليه من أباحه قبلهم كابن حزم الظاهري أو ابن طاهر أو الشوكاني لحرموه لما فيه من فاسد القول من التفحش والكلام الرديء والدعوة إلى العشق والغرام، فإذا كنتم توافقونهم على ذلك فبالله عليكم ماذا يغني كلامكم وضوابطكم من غناء هذا العصر؟!

وأين يوجد هذا الغناء الذي تزعمون؟! وما واقع من يسمع الغناء اليوم من الشباب والفتيات ماذا يسمع؟! ولمن يسمع؟!

يا أبا عبد الإله عُرفت منذ زمن بالقرآن وترتيله وتدريسه.. فهل تريد أن تعرف بعد ذلك بالغناء وإباحته؟!

لماذا لم يسعك ما وسع أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم - وسلفهم الصالح من تدافع الفتيا، وإحالتها لمن تصدى لها، أو على الأقل أن تعدها من الشبهات، وتتقيها فهو أسلم لدينك وعرضك..

يا أبا عبد الإله إن الأمة في هذا الزمن تموج في بحر من الشبهات والشهوات، وتحتاج إلى النهوض بها وإعادتها إلى ريادتها وسيادتها، وإن شباب الأمة هم عمادها وصحوتها، والمتأمل في حالهم اليوم يحزن كثيراً حين يرى تخلفهم وانهماكهم في آلات الطرب واللهو؛ فهم لا ينامون ولا يسافرون ولا يأكلون إلا والأغاني صاخبة في آذانهم؛ فهل هم بحاجة إلى مزيد شرعنة ودفع نحو هذه الهوة السحيقة!

ولقد أثبتت الدراسات الغربية أن الشاب المدمن على سماع الموسيقى والطرب وما تستلزمه من حب وغرام أنه شاب محدود التفكير، وأنه غير منتج، وغالباً ما يكون فاشلاً في مجتمعه.. واسأل الشباب المجرب يُفِدْك بذلك قطعاً!

أليس الأولى بنا أن ندعو الناس إلى سماع القرآن وتلاوته وتدبر معانيه خاصة مع قدوم شهر القرآن؟ وليس بإضفاء الشرعية لهم في عمل المزيد من سماع هذا البريد الخبيث، والتلذذ بإباحته!

أخيراً يا أبا عبد الإله لعلك تكرماً تقف قليلاً مع هذا النص الذي يحمل توقيع الإمام الدارمي، ومن ثم تراجعه وتتأمله حيث يقول: (إن الذي يريد الشـذوذ عن الحق يتبع الشاذ من قول العلماء ويتعلق بزلاتهم، والذي يؤم الحـق في نفسه يتبع المشهور من قول جماعتهم وينقلب مع جمهورهم، فهما آيتان بينتان يستدل بهما على اتباع الرجل من ابتداعه). (الرد على الجهمية، ص: 129)

تأمل يا شيخ عادل ما جاء في هذا الكلام النفيس من فقه ومنهج!

وأعيذك بالله من الابتداع، كما أسأله – سبحانه - أن يجعلك من المتبعين، وأن تكون من أهل القرآن والداعين إلى تدبره في حياتك كلها، جعلك الله من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.. اللهم آمين.

 

عبداللطيف التويجري
  • مقالات قرآنية
  • كتب ومؤلفات
  • مقالات نقدية
  • مقالات علمية
  • خواطر وتأملات
  • خطب
  • مواد مرئية وسمعية
  • متفرقات
  • الصفحة الرئيسية