اطبع هذه الصفحة


التربية في زمن التحديات

وضاح بن هادي
@wadahhade

 
بسم الله الرحمن الرحيم


يتكرر الحديث عن التربية؛ لأن التربية هي حديث اليوم والأمس والغد، فهي حديث اليوم وكل يوم، بل التربية هي حديث الإنسان منذ أن أوجده الله : "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين"،، بل هي دعوة الصالحين وعلى رأسهم الأنبياء؛ وقد قال الله على لسان نبيه إبراهيم : "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه..."،، بل عدّ من سمات عباده الصالحين الذين أسهب في صفاتهم في سورة الفرقان قال في آخر دعائهم : "والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما" ..

إذاً نحن نتحدث عن التربية التي هي هم فوق كل الهموم ..

ثم الحديث عن التحديات التي تواجه هذه التربية اليوم ..

لو أردنا أن نعدد التحديات التي تواجه التربية اليوم، فقط تعداد لما وسعنا المقام، لكن حسبنا أن نُشير إلى أبرز هذه التحديات وأولاها وأكثرها ظهورا في واقعنا الأسري والتربوي :


أحسب أنه يأتي في أولى قائمة هذه التحديات (الحياة المادية) .. غلبة الحياة المادية، وهذا سواء على مستوى الحياة المعيشية ومتطلباتها، أو حتى على مستوى حاجات الأبناء وتطلعاتهم ورغباتهم المادية ..
وفي دراسة حديثة للمجتمع الأمريكي، قرر فيها (إدوارد ليتن) : أننا نعيش في عصر يحكمه الأبناء؛ كيف هذا؟ قال : (فبدلاً من أن يوجّه الآباء أبناءهم، فإن الأبناء أضحوا هم الذين يوجّهون سلوك آبائهم، فهم الذين يختارون البيت، ويشيرون بمكان قضاء العطلة، وإذا دخلوا متجراً مضى كل طفل إلى ما يعجبه، وما على الأب إلا أن يفتح حافظته ويدفع)، وهذا ما نسميه اليوم ب(الثقافة الاستهلاكية) ..

بل أيضا أضحت النظرة المادية حتى على مستوى نظرة الإنسان للإنسان الآخر، أصبح ليس فقط الحكم على الشخص بل حتى التعامل أصبح بميزان ما يلبسه وما يركبه وما يسكنه، وهذه نظرة مادية سوداوية قاتمة بالغة الخطورة، ونبينا يقول : "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ..

وليس من قائل اليوم أن المال ليس حاجة أو ضرورة؛ بل المال لم يكن هامشيا في حياة الناس في أي مرحلة من مراحل التاريخ، وكيف يكون هامشيا ولا بقاء للإنسان من غير الأكل أو الشرب والدواء والملبس والمسكن والتعليم؛ وهذه كلها لا تستقيم إلا بالمال ..

لكن الملاحظ أنه كلما مضى الناس في سُلّم الحضارة زادت حاجاتهم، بل وتحوّلت كثير من هذه الحاجات إلى ترفيات لا يُستغنى عنها ..

وهنا قاعدة بشرية مجتمعية تقول (أن المعروض من المال أقل دائما من المطلوب)، لأن حاجة النفس الإنسانية دائما في تطلع ورغبات ونوازع وحب للفضول والتملك ..

هذا كله ليس جديدا؛ إذاً أين التحدي؟

التحدي يكمن في طغيان هذه الحياة المادية على حساب التنمية الأخلاقية، التنمية الاجتماعية، التنمية العلمية، التنمية الروحية سواء لذواتنا، أو من نعول ممن هم تحت أيدينا ..

أيضا التحدي حينما يفرض هذا البحث عن المال تلو المال لأن يتحول الأب إلى (جابيا)، ينصَب من الصباح وحتى المساء، وقد استنفد كل طاقته النفسية والجسدية من أجل الحصول على ما ينفقه على نفسه وبيته ..

واليوم اُضيف إلى هذا الركب في كثير من أسرنا إلى أن تكمل الأم هذه المسيرة، فأصبحت هي أيضا تخرج الصباح أو المساء في التكسب، وللأسف نقولها : أن هذا كله على حساب ماذا؟ على حساب المهمة الجليلة المناطة بالأم والأب في المقام الأول (ألا وهي التربية)، التربية وليست الرعاية .. والفرق بينهما جلي وواضح.


أيضا من التحديات والتغيّرات الكبرى التي تواجه التربية اليوم (ضئالة دور الأسرة)، أو ما يمكن أن نطلق عليه (قصور الدور التربوي للأسرة)..

وهذه الضئالة أو القصور أو الفجوة التي أصبحت بين دور الأسرة الحقيقي ودورها الواقعي الحالي، تكتنفه عدة أسباب؛ وهي لا تخفى : الحياة المادية المعقدة التي يصارع من أجلها الآباء والأمهات على حد سواء، أيضا ضيق نظرة الوالدين لحقيقة التربية ..


وفرق بين الرعاية وبين التربية؛ الرعاية لا تكلفنا شيء إلا أن نوفّر الملبس والمأكل والمشرب والمسكن المناسب، وهذا يستطيعه كل أحد، بل ربما لو أسندته إلى غيرك لقام به خير قيام، بينما التربية هي التي تتعامل مع حاجة النفس حاجة الروح تتعامل مع الإنسان من حين وهو جنين وحتى حمله للقبر، وهي المسئولية الحقيقية الملقاه على عاتق الآباء والأمهات والمربين ..


ولو أردنا أن نضع قائمة لأهم حاجيات الأبناء اليوم للعيش بكفاءة في هذا العصر؛ لقلنا : هو أن تتكشف لديهم قدراتهم وإمكاناتهم وميولهم، ومن ثم توظيفها واستثمارها فيما يعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالنفع؛ وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال أب وأم متفرغين لهؤلاء الأبناء، من خلال الجلوس الطويل معهم وسماع أحاديثهم ومناقشة أفكارهم ..

بل وهذا كله إن لم يشبعه الأب أو الأم سيشبعه غيرهم؛ لأنه غريزة وحاجة بشرية، وهذا سبب رئيس في خلق الفجوة بين الأبوة والبنوة .. من دخل لسد هذه الفجوة؟

أطراف أخرى متشاكسة (الأصدقاء، بيئة المدرسة، وسائل التواصل والتقنية التي فتحت العالم بثقافاته واعتقاداته وأخلاقه على مصراعيها، القدوات الخدّاعة؛ لاعب مصارع، ممثّل، مغنّي ..


أحد التحديات والمعاناة التي يصرخ منها الأسر والآباء والأمهات على وجه الخصوص، ما يمكن أن نطلق عليه (صراع الأجيال) أو (تنافر الأجيال) أو الوصول أحيانا إلى (صدام الأجيال) ..

وهو ما نعني به : البون الشاسع والمتسع بين تفكير الآباء وتفكير الأبناء، بين سلوكيات الآباء وسلوكيات الأبناء، بين نظرة الآباء ونظرة الأبناء ..

وأحد مظاهر هذه المعاناة هي : عزوف الأبناء عن مجالسة الآباء، وإذا أردنا أن نوسّع الدائرة نقول عن مجالس الكبار، بكل ما تحمله من خبرات وتجارب وصلات تُثمر للأبناء حياتهم ومستقبلهم ..


وهنا نقول : لماذا هذا الصراع بين الجيلين؟


أحد أبرز الأسباب وراء ذلك هو عدم فهم طبيعة المرحلة، ولا أقصد فقط من ناحية الآباء، بل حتى من ناحية الأبناء أنفسهم، الشاب بمجرد أن يدخل لسن التكليف يُطلق عليه بمراهق، ونظرة الأبناء لمرحلة المراهقة أنها مرحلة طيشان، فلّة، لا مبالاة لا مسئولية، لا اهتمامات رفيعة، لا لا لا قيود ..

والأسرة بما تحمله أيضا من نظرة لهذا الابن وهذه المرحلة إما أن تؤكد هذه النظرة لدى الابن أو تصححها ..

نحن نلحظ اليوم مبادرات شبابية.. مشاريع شبابية.. طاقات كبيرة وأسماء كبيرة برزت في جوانب مختلفة هم من الشباب، ولا شك أن وراء ذلك المحضن (الأسرة) ومدى تأديتها لدورها في توجيه الابن للأهداف والمسئوليات السامية، من حين وهو طفل تبدأ معه في توليته مسئولية سريره، ألعابه، غرفته، ثم تتدرج هذه المسئولية حسب المرحلة العمرية التي يمر بها الابن ..

أيضا من أسباب هذا الصراع الذي أشرنا إليه : كثرة اللوم والعتب والانتقاد والتجريح والصراخ، وهذا كله لا يولّد إلا نفورا وبعدا وعصيانا، بينما ملاعبة الابن وهو طفل، ومصادقته وهو شاب، هذا منهج نبوي في التربية السوية ..


أيضا أحد التحديات المهمة والصعبة التي أضحت تواجه التربية اليوم؛ أن التربية لم تعد بين جدران أربعة مغلقة، يسيطر عليها الآباء أو الكبار فقط، بل أضحينا نربي في بيئات مفتوحة وملوّثة ..

فنحن بلا شك أننا في عصر يمكن أن نُطلق عليه (عصر التقنية) أو بالمفهوم الأوسع (عصر العولمة)، حيث أضحى العالم كله قرية واحدة تتجول بين أرجائها بكبسة زر كما يقولون، وهذه التقنية قد فتحت علينا أبواب نفع لمن استطاع أن يستثمرها، ولكنها فتحت علينا في المقابل أبواب الشرور على مصاريعها؛ من ذلك أنه ما كان معدودا بالأمس من قبيل الأسرار، اليوم هي صارت منشورة أمام أعين الصغار قبل الكبار على نحو مقرف ومخجل، المبادئ التي كانت مبادئ لدى جيل الأمس، هي اليوم محل نقاش وجدال من قبل جيل الأبناء؛ وهذه التغيّرات وغيرها صنعتها التقنية والعولمة الشرسة ..


ويمكننا القول أن كثير من التغيّرات ليست الصناعية والاقتصادية والسياسية فحسب، بل التغيّرات التفكيرية والدينية والاجتماعية مرهونة في علاقتنا مع التقنية، هل هي علاقة إيجابية أم علاقة سلبية؟!


وهذا يجعلنا نقول أمام هذا الزحف التقني الشرس الذي يغتال أبناءنا من بين أيدينا؛ أن نُعيد ونُكرّر على التربية الذاتية (تربية الرقابة الذاتية)، (تربية الحس الرقابي الذاتي)، وليس تربية التجسس والتصنت على كل همسة وحركة يقوم بها الأبناء، بل التربية الإيمانية التي تقوم على {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}، التربية الرقابية التي تقوم على {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، {يا بني إنها تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتي بها الله إن الله لطيف خبير} ..

كذلك تجعلنا نمارس التدخل المبكر في (صناعة الصداقة الحسنة لأبنائنا)، فالصاحب ساحب كما يقولون، وقل من تصادق أقل لك من أنت، والمجالسة عدوى، هذا كله يحتّم علينا أن نُساهم في اختيار الصداقة لأبنائنا، يحتّم علينا اختيار المدرسة، اختيار الحي، اختيار المسكن.. .


كيف لو أضفنا إلى كل هذه التحديات، تحد هو أولاها وأبرزها وأعظمها وهو : أننا في العملية التربوية نتعامل مع نفس إنسانية، نفس إنسانية ذات أمزجة وأفكار وأحاسيس ومشاعر مختلفة ومتقلّبة، أي أننا نتعامل مع نفس إنسانية هي ليست آلة نُحرّكها كما نشاء يمينا أو يسارا (لا)، بل هي نفس إنسانية صعْبت المراس ..

ونحن كثيرا ما نُعاني مع أنفسنا التي بين جنبينا، فكيف بأنفس الأبناء التي تختلف عنا تماما ..

وهذا يدفعنا لأن نقول : أنه من الظلم التربوي أن نتعامل مع أبناءنا الثلاث أو الأربع، وأحيانا في مراحل مختلفة، بنفس الأسلوب أو النظرة أو التعامل، وهذا قصور تربوي؛ بل لكل مرحلة حاجتها، ولكل شخص استعداداته وتوجهاته وحاجاته .. لا نستطيع أن نتعرف عليها إلا من خلال المعايشة والمصادقة وطول المجالسة.


وإلى حديث أكثر تفصيلا حول ما يمكن أن نُقدّمه من حلول وإسهامات في معالجة ومواجهة كل هذه التحديات ..


 

وضاح هادي
  • القراءة
  • التربية والدعوة
  • مشاريع قرائية
  • قراءة في كتاب
  • تغريدات
  • أسرة تقرأ
  • الصفحة الرئيسية