اطبع هذه الصفحة


المحاضن التربوية وصناعة القراءة ..

وضاح بن هادي
@wadahhade

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين القويم، وشرفنا بالأئتساء بهذا النبي العظيم، بل واصطفانا لئن نسير على منهاج المربي الأول، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ..
الحديث دائما عن التربية ومع المربين دائما ما يكون حديثا ذو شجون، خاصة ونحن نتكلم مع أرباب التربية والمحاضن التربوية، ونتكلم أيضا عن هذه القيمة الكبرى [القراءة] ..

ولا يخفى أننا حينما نتحدث عن المحاضن التربوية؛ فنحن نتحدث عن أحد خطوط الدفاع التي يُعوّل عليها في تأسيس وتثبيت وبناء المتربين اليوم ..

كما أنه ولا يخفى التأثير الإيجابي الكبير الذي يمكن أن تعكسه القراءة وسعة الاطلاع وبناء المعرفة، على أداء المربي في ممارسة عمليته التربوية، وليس الاطلاع والقراءة فقط في الجوانب التربوية فحسب، بل حتى القراءة الشرعية، القراءة الشمولية كلها تنعكس على أداء وعطاء وبناء المربي ..

وأنا هنا أذكر عبارة مسددة للشيخ المفكر محمد أحمد الراشد في كتابه نحو المعالي، وهو يستحث الدعاة والمربين ويستنهض هممهم فيقول : "ولهذا يكون الإعراض عن القراءة من كبائر الناس كبيرة، ولعلها "الموبقة الحادية عشرة"، بعد إذ أمرنا رسول الله باجتناب العشر الموبقات.."
ثم يقول :
"إن من مصائب أمتنا أنها لا تقرأ.. وطريق الاستدراك طويل، ويبدأ بيقظة الخاصة ليقودوا البقية، ولقد عرفتُ شباب الإسلام فوجدتهم أنقى الناس سريرة، لكن كثافة المطالعة تنقصهم، ولو أنهم أحنوا ظهورهم على كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ طويلا، واكتالوا لهم من الأدب والثقافة العالمية العامة جزيلا؛ لكمُلت أوصافهم، ولتفردوا في المناقب.."

وليس بجديد على المربين - وهو مما يؤكد على ما ذكرنا - عناية المربي الأول، ومنقذ البشرية من العمى والجهالة صلى الله عليه وسلم، تجاه القراءة والتحبيب في العلم؛ نقرأ موقفه في قصة أسارى بدر، وفداءهم مقابل تعليم صبية الصحابة القراءة والكتابة، ونقرأ توجيهه عليه الصلاة والسلام لزيد بن ثابت بتعلم لغة يهود، وتشجيعه أن يكون قارئه لأي رسالة تأتي من بني يهود ..
ويكفينا من هذا كله؛ أنه عليه الصلاة والسلام – وهو المربي الأول - لم يسأل ربه الاستزادة من شيء، إلا من العلم "وقل ربي زدني علما"..

ونحن حينما نقول بضرورة القراءة على مستوى المربي؛ كون العملية التربوية ليس لها أن تقوم بالخبرة والممارسة وحدها، وإن كانت الخبرة عامل مهم في استيعاب القضايا التربوية، لكن هناك خط لا يمكن أن ينفك وهو ‘الاطلاع والمعرفة‘، فهما خطان متوازيان لا يُغلّب أحدهما على الآخر ..
والأدهى حينما يكتفي المربي بخبرات اكتسبها ومارسها هو أو من قَبْلَه من المربين قبل عشر أو خمسة عشر سنة، ثم هو يريد أن يسيّر بها العملية التربوية والمواقف التربوية التي تطرأ عليه اليوم، بتلك الخبرات السالفة ..
فالواقع قد تغيّر، والمعطيات قد تغيٍّرت، والمتربين أيضا قد تغيٍّروا..

ويجب أن نؤمن ونُدرك أننا نعيش في واقع أضحى يوسم بـ(عصر الثورة المعلوماتية ، أو عصر الانفجار المعرفي)، وهذا العصر مكّن المتربين قبل المربين من سهولة الوصول للمعارف والعلوم والخبرات أيضا ..
وبالتالي هم – أي المتربين - أضحوا أكثر نضجا ووعيا وثقافة ومعرفة، بل وأكثر نقاشا وجدالا لقضايا لم نكن نتصور أن نُناقَش حولها ربما ..

ومن الغبن حقيقة لهؤلاء المتربين أن يكون لدينا إيمان نحن المربين بأننا نعيش في عصر كهذا، ثم لا نُسلّح أولئك المتربين بأدوات التعامل الرشيد مع ذلك السيل المدرار من المعارف، حسنها وسيئها ..

وأحسب أن أحد أولوياتنا اليوم في العملية التربوية؛ هو الضرب على مستوى الجذور، بدلا من التركيز فحسب على الأغصان والأوراق الظاهرة ..
وأحد القيم الجذرية التي يجب أن نعمقها في نفوس متربينا هي "تحبيب وتقريب القراءة بين أيديهم"؛ فالقراءة هي أحد القيم الكبرى، القيم العليا التي تنضوي تحتها كثير من القيم الدنيا ..
فمثلا كثير من المعالجات السلوكية الظاهرة نستطيع أن نعالجها أو نحجّمها أو حتى نقضي عليها بربط المتربي بالكتاب، وللأسف أقولها في الوقت الذي لازلنا نشكك في جدوى هذا؛ فالغرب قد قطع أشواطا كبيرة في العلاج بالقراءة، واليوم في كبرى مستشفيات العالم الأول نشهد عيادات خاصة للعلاج بالقراءة، يعالجون من خلالها الإنفصاميين والنفسانيين والمنحرفين سلوكيا وأخلاقيا، من خلال القراءة الموجّهة ..

فلو كان لديك طالب يعاني من مشكلة في العشق أو في الحب غير المحمود، ولم تستطع أن تفاتحه، بإمكانك أن تهديه أو ترشده بأسلوب غير مباشر لكتاب "الداء والدواء"، وكذا لو كان طالبا يعاني من عدم استيعاب المرحلة الانتقالية لمرحلة البلوغ؛ يمكن أن تُهديه كتاب "يا بني لقد أصبحت رجلا".. وهكذا المتربي إن كان لديه مشكلة في اختيار تخصصه، فتدفع له كتاب "عشرة أمور تمنيت أن أعرفها قبل دخولي للجامعة"، أو متربي يُعاني من بناء المنهجية في طلب العلم، فتحيله لكتب الطلب وبناء السلالم المنهجية.. وهكذا.
وبهذا تكون القراءة وسيطا تربويا فاعلا، خاصة إن كانت هذه القراءة قراءة ممنهجة وموجّهة، ونحن كمربين لا نستطيع أن نوفّي ولا أن نلاحق كل حاجات واحتياجات المتربين اليوم ..

ولذا حين نحبب القراءة إلى المتربين فكأنّا ملّكناهم أداة من أدوات "التربية الذاتية"، من خلال سد الفجوات التي تعتريهم، والقراءة بحق وحب الكتاب هي من أعظم ما يبقى مع المتربي لأطول وقت ممكن، فهو بعد هذا كلما اعتراه نقص أو دعته حاجة لسد فجوة معرفية أو إيمانية أو سلوكية فهو سيلجأ إلى القراءة في الكتاب الذي يسدّ له هذا النقص، وكذا كلّما واجه صدمة أو عقبة في حياته؛ فبإمكانه من خلال القراءة أن يُعالجها أو يتجاوزها، كون القراءة تطرد الجهل والخرافة ..

ولو أردنا أن نلخّص مقالنا هذا لقلنا : أنه بقدر ما يقرأ المربي، ويمنهج حياته لئن تصبح القراءة أحد أولوياته واهتماماته الرئيسية؛ ستنعكس هذه القيمة لا محالة على مستوى متربيه، وسيلمس المتربين بين يديه قيمة وأثر القراءة في حياة مربيهم، بل وسيشعرون أيضا بظلالها إن هي كانت أحد أولوياته واهتماماته ..

دمتم بود

 

وضاح هادي
  • القراءة
  • التربية والدعوة
  • مشاريع قرائية
  • قراءة في كتاب
  • تغريدات
  • أسرة تقرأ
  • الصفحة الرئيسية