صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







إنه الله عالم الغيب

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله الحليم الشكور ، يجير بين البحور ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، يدرك ما بين السطور ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له الرحيم الغفور ، يقي من فتنة القبور ، ويدفع دعوة الثبور ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الصبور ، والرسول الوقور ، حذر من الكفر والشرور ، ومن الركون لدار الغرور ، صلى الله وسلم وبارك عليه بالعشي والبكور ، وعلى آله وأصحابه على مر الدهور ، وجريان العصور ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحبور .
من المسلمات في ديننا ، ومن الأصول المعتقدة في شريعتنا ، ومن الثوابت في عقيدتنا ، أن الله وحده استأثر بعلم الغيب ، قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ التغابن18 ] ، قال الطبري رحمه الله : " عالم الغيب والشهادة : يعني الذي يعلم السرّ والعلانية الذي لا يخفى عليه بواطن أموركم وظواهرها " .
لقد نفى الله جل جلاله أن يعلم الغيب أحد من الخلق أجمعين سواه سبحانه المتفرد بالعبودية والربوبية والألوهية ، فقال عز من قائل عليماً : { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ النمل65 ] .
وقال تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام59 ] ، مفاتيح الغيب الخمسة لا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له ، قال الله جل شأنه : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ لقمان34 ] .
الملائكة عباد الله الذين يطيعونه ولا يعصونه ، فقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة : " فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه آخر ما عليهم " ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم6 ] .
بل يسبحونه بالليل والنهار ، لا يفترون ولا يسأمون ، قال تعالى : { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ }[ الأنبياء19-20 ] .
وقد خلقهم الله لعبادته وتنفيذ أوامره ، فكل منهم له عمل مخصوص ، ومع ذلك فهم مفطورون على عبادة الواحد الأحد ، ويرون أنهم مقصرون في حق ربهم وخالقهم ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " . . . إِنَّ لله في سَماءِ الدُّنْيا ملائِكَةً خُشوعاً لا يَرْفَعونَ رُؤُوسَهُمْ حَتّى تَقومَ السّاعَةُ، فَإِذا قامَتِ السَّاعَةُ رَفَعوا رُؤُوسَهُمْ ثُمَّ قالوا: رَبَّنا ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ . . . " [ أخرجه الحاكم ، وقال صحيح على شرط البخاري ] ، وعن جابر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " مَا فِي السَّماوَاتِ السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ ولا شِبْرٍ ولا كَفٍّ إِلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ ، ومَلَكٌ رَاكِعٌ ، أَوْ مَلَكٌ سَاجِدٌ ، فًّإذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ قَالُوا جَمِيعاً : سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ، إِلاَّ أَنَّا لَمْ نُشْرِكْ بِكَ شَيْئاً " [ أخرجه الطبراني في الأوسط ، وفيه : عروة بن مروان ، قال الدار قطني : ليس بقوي في الحديث ، وبقية رجاله رجال الصحيح ] .
ومع كل ما يتمتع به الملائكة الكرام من قرب من ربهم تبارك وتعالى ، وما يحظون به من مكانة عظيمة ، ورفعة كبيرة ، إلا أنهم لا يعلمون الغيب ، ولا يطلعون عليه ، فقد اختص الله به سبحانه نفسه العلية الكريمة ، قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن26- 27 ] ، يخبر الله جل وعلا أنه لا يعلم الغيب أحد من الملائكة ولا الرسل إلا من أطلعه الله على بعض الأمور الغيبية ، فلما مات الرسول البشري انقطع علمه من الله تماماً بموته ، وكذلك انقطع خبر السماء عن أهل الأرض بوفاته ، لأن الرسل هم الواسطة بين الله وخلقه ، هم الذين يبلغون عن ربهم ، وهم الذين اختصهم الله لذلك ، وانتدبهم لهذا الأمر العظيم ، فلما ماتوا وبلغوا رسالة ربهم ، بقي الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك .
الرسل الكرام _صلوات الله وسلامه عليهم _ هم أفضل البشر على الإطلاق ، وخير الناس إلى الأبد .
وأفضلهم أولوا العزم الخمسة وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد _ عليهم أفضل الصلوات وأعظم التسليمات _ وأفضل هؤلاء الخمسة ، هو خاتمهم وآخرهم محمد بن عبد الله _ صلى الله عليه وسلم _ ومع تلكم المكانة المرموقة لأنبياء الله عند ربهم ، ورفع منازلهم ، إلا أنهم لا يعلمون الغيب ، فقد قال أولهم نوح عليه السلام : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } [ هود31 ] .
وقال آخرهم وخاتمهم محمد بن عبد الله _ صلى الله وسلم عليه _ : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف188 ] .
وأكرم الخلق على الله بعد رسله وأنبيائه ، متبعوهم ومحبوهم ، لاسيما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي عنهم أجمعين ، فقد تركوا الأموال والديار والأهل ، محبة لله ولدينه ، واتباعاً لنبيه _ صلى الله عليه وسلم _ قدموا جماجمهم لإعلاء كلمة التوحيد ، وشعار الإسلام عالية خفاقة ، ضحوا بكل ما يملكون في سبيل نصرة دين الله تعالى ، فوعدهم الله أجراً عظيماً ، وجنات تجري تحتها الأنهار ، قال تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ الفتح29 ] ، وقال سبحانه : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } [ آل عمران195 ] ، وقال جل من قائل عليماً : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة100 ] ، ومع ما وعد الله به الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان بالمغفرة ، والبشرى بالجنة ، إلا أنه نفى سبحانه أن يكون أحدهم قد اطلع على الغيب أو علمه ، قال تعالى : { مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران179 ] ، وهذا نفي منه سبحانه أن يكون أحد من البشر أو الملائكة قد علم الغيب أو علم ما كان قبل وقوعه ، أو ما سيكون ، وهذا تعجيز من الله تعالى لعباده جنهم وإنسهم .
الجن خلق من خلق الله تعالى ، منهم الكافر ومنهم المؤمن ، قال تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ الأحقاف 29-32 ] ، وقال تعالى على لسان الجن : { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن 14-15 ] .
فالقرآن الكريم يثبت وجود الجن ، ولا ينكر ذلك إلا جاحد لصحة القرآن ، ويثبت كتاب الله تعالى أيضاً أن هناك من الجن مؤمن وكافر ، مردة وفساق وأهل فساد ، ومع ذلك فهم لا يعلمون الغيب ، ولم يطلعوا عليه قط ، إلا ما يسترقونه من السمع ، عندما يقضي الله أمراً فيسمعون من الملائكة ، ومع ذلك يحرقهم الله بالشهب ، قال تعالى : { إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } [ الحجر18 ] ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا قضى اللَّهُ الأمرَ في السماء ، ضَرَبَتِ الملائكةُ بأجنِحَتِها خُضعاناً لقوله ، كالسِّلسلة على صفوان ، قال عليُّ وقال غيرُهُ : صفوانٍ يَنُفَذُهم ذلك ، فإذا فزِّعَ عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربُّكم ؟ قالوا للذي قال : الحقَّ وهو العليُّ الكبير، فيسمعُها مُسترقو السمع ، ومسترقو السمع ، هكذا واحدٌ فوقَ آخر ، وَوَصَفَ سفيانُ بيدِهِ وفرَّجَ بين أصابع يدهِ اليمنى ، نَصبَها بَعضَها فوق بعض ، فرُبما أدركَ الشهابُ المستمعَ قبل أن يَرمِيَ بها إلى صاحبِهِ فيُحرِقَه ، وربما لم يُدركهُ حتَى يرميَ بها إلى الذي يَليه _ إلى الذي هو أسفلَ منه _ حتى يُلقوها إلى الأرض ـ وربما قال سفيانُ : حتى تنتهي إلى الأرض ـ فتُلقى على فم الساحِر ، فَيَكذبُ معها مائةَ كَذبة ، فَيُصَدَّقُ ، فيقولون _ أي الناس _ : ألم يُخبرنا يومَ كذا وكذا ، يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً ؟ للكلمةِ التي سُمعت من السماء " [ أخرجه البخاري ] .
وكما قلت فهم لا يعلمون الغيب ، بل يسترقون علم السماء ، فيموتون قبل إيصاله إلى الأرض ، ومن يصل منهم سالماً لم يصله ممن هو فوقه شيء ، وإن وصله أمر يسير كذب معه مائة كذبة ، ثم ألقاها على فم الساحر ، فيكذب الساحر معها مائة كذبة أيضاً ، قال تعالى في قصة سليمان عليه السلام ، وكان قد قيضهم الله لنبيه ، يطيعونه ولا يعصونه ، يخافون عقوبته ، منة من الله على عبده ونبيه سليمان عليه السلام ، ومع اضطهادهم وإرادتهم الخلاص من سليمان عليه السلام ، فلم يعلموا أنه قد مات وهو مرتكز على عصاه ، إلا بعد أن أكلتها دابة الأرض ، ويصور الله تعالى ضعف الجن وقصورهم عن معرفة الغيب في قوله سبحانه : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [ سبأ14 ] .
مما سبق ذكره من اختصاص الحق تبارك وتعالى بمعرفة الغيب ، واطلاعه عليه وحده لا شريك له ، يجب أن يعلم كل مسلم أن من ادعى علم الغيب من الكهنة والمشعوذين والسحرة والمنجمين ومن يقرءون الكف والفنجان أنهم جميعاً كفار مرقوا من الدين ، وخرجوا عن طاعة رب العالمين .
ومما تأسف له النفوس ، أن هناك جهلة وضعفاء دين من المسلمين انطالت عليهم حيل الكذابين ، فانساقوا وراء ترهات الأحلام ، وخرافات الأوهام ، حتى صدقوا المشعوذين والمبتزين ، فوقعوا ضحايا للأبراج والنجوم ، وما علموا أنهم قد تقحموا النار على بصيرة والعياذ بالله ، يتابعون الأبراج عبر الصحف والمجلات والقنوات ، فتقذفهم ذات اليمين وذات الشمال وهم في غمرة ساهون ، وعن الحساب غافلون ، وفي الغفلة غارقون ، ويوم القيامة لا محالة نادمون .
وكم هي الرحلات والزيارات التي يقوم بها المسلمون لأولئك السحرة والمشعوذين ، دون خوف من الله تعالى ، أو تفكير في عقابه سبحانه ، أو تأمل في وعيده لهم ، عن بعضِ أَزواجِ النبـيِّ صَلَّـى الله عَلَـيْهِ وَسَلَّـمَ ، عن النبـيِّ صَلَّـى الله عَلَـيْهِ وَسَلَّـمَ قالَ : " مَنْ أَتـى عَرَّافاً فَسَأَلَهُ عن شيءٍ ، لـم تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أربعينَ لـيلةً " [ أخرجه مسلم ] .
وعيد شديد ، وتهديد أكيد من الله تعالى لمن عصاه وسأل كاهناً أو عرافاً بمجرد السؤال فقط ، لا من أجل أن يصدقه ، أن لا تُقبل له صلاة أربعين ليلة والعياذ بالله .
فإن سألهم وصدقهم فهي الكارثة التي لا كارثة بعدها ، لأن في ذلك خروج من حوزة الإسلام والإيمان ، إلى دائرة الكفر والعصيان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " [ أخرجه أحمد وغيره ] ، وأخرج البيهقي من حديث عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ : " مَنْ أَتَـى ساحراً أَوْ كَاهِناً أَو عَرَّافاً فَصَدَّقَهُ بـما يقولُ ، فَقَدْ كَفَرَ بِـمَا أُنْزِلَ علـى مـحمدٍ صَلَّـى الله عَلَـيْهِ وَسَلَّـمَ " .
فاحذر أيها المسلم ، وأيتها المسلمة أن تأتي عرافاً أو كاهناً أو ساحراً ، لأي غرض من أغراض الدنيا ، لا للعلاج ، ولا لكشف غمة ، ولا لأذى تلحقه بالآخرين ، ولا لإيجاد مفقود ، ولا لفك سحر ، فكل ذلك حرام أشد الحرام ، وهو شرك بالله الواحد القهار ، الذي لا يعلم الغيب سواه ، قال سبحانه : { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ المؤمنون92 ] .
وبالرّغم من صراحة الآياتِ في تحريم ادعاء علم الغيب ، والحذر من تصديق من ادعى ذلك ، فإنّك تأسَف لحالِ بعضِ جهَّال المسلمين وسفهائهم ، وقد وقَعوا في مثلِ هذه البلايا ، فأهلكوا أنفسهم ، وتنصلوا من دينهم ، بأنواعٍ من البدَع والضلالات ، وتعلَّقوا بالسحرة والمنجمين لمعرفة غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ، وتوجَّهوا إلى المشعوذين في طلبِ الحاجات ودفعِ الكربات ، حتَّى عمّت الفتنةُ كثيراً من بلاد المسلمين ، واتخذ الناس فيها رؤوساً جهالاً من الدجالين الكذابين ، ومن المعلوم أنه متى ما ظهر الجهل وأطبق ، ظهر السحرة والكهنة وأمثالهم ممن يدعون علم الغيب وشفاء المرضى والدلالة على المفقود ، لعباً بعقول المسلمين لابتزاز أموالهم ، ونهب مقدراتهم ، فيطلب الناس منهم ما لا يُطلب إلا مِن الله ، ويسوقون إليهم الهدايا والأموال ، ويقدِّمون النذورَ ، ويطلبون جلبَ النفع ، ودفعَ الشرور ، ونسوا أن النافع الضار هو الله الواحد القهار ، قال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس107 ] ، وقال سبحانه : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [ الأنعام17 ] .
فما من مصيبة تصيب العبد ، ولا هم ، ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا آجره الله عليها ، فترفع له الدرجات ، وتكثر الحسنات ، ولو عقل الناس ذلك لما لجئوا لغير الله تعالى في تفريج الكربات ، وقضاء الحاجات ، ودفع الشرور والأخطار ، قال تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } [ الأنعام63-64 ] .
ولو تدبر العاقل الحصيف ، واللبيب الأريب ، أن المصائب كفارات للذنوب ، ماحيات للخطايا ، ما تركوا سبيل الرشاد ، وطرقوا سبيل الغواية والضلال ، عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنهما ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " ما يُصيبُ المسلمَ من نَصبٍ ولا وَصَبٍ ولا همّ ولاَ حَزَن ولا أذى ولا غَمّ ـ حتى الشَّوكةِ يُشاكها ـ إلا كفَّرَ اللهُ بها من خَطاياه " [ متفق عليه والفظ للبخاري ] ، وفي لفظ لمسلم ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا ، إِلاَّ رَفَعَهُ اللّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً " .
فالمؤمن مبتلى مفتون في هذه الحياة الدنيا ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، ليتفاوت الناس في الدرجات العلى إلى الجنة ، ولهذا قال تعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت 2 ] ، عن سعد رضي الله عنه قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : " الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، فيبتلىٰ الرجل على حسب دينه ، فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذاك ، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذاك ، قال : " فما تزال البلايا بالرجل حتى يمشي في الأرض وما عليه خطيئة " ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده ، وفي ماله ، وفي ولده ، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة " [ أخرجهما أحمد في مسنده ] .
فياله من فضل عظيم يؤتاه العبد المسلم ، ولكن أكثرهم لا يعلمون .
وما أعظم أجر الصبر إذا صبر العبد على البلايا ، واحتسب المصائب والمنايا ، قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر10 ] .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز وجل : " إذا ابتَلَيتُ عبدي بحبيبتيهِ _ عينيه _ فصَبَر عوضتُه منهما الجنة " [ أخرجه البخاري ] .
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه ، أن رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال : " يقولُ اللّهُ تعالى : ما لعبدي المؤمِن عندي جَزاءٌ إذا قَبَضتُ صفيَّه مِن أهلِ الدنيا ثمَّ احتَسَبه إلا الجنّة " [ أخرجه البخاري ] .
لقد فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الإرشادات القرآنية الربانية ، والتوجيهات النبوية الإيمانية فهماً لم يفهمه كثير من الناس اليوم ، لذلك صبروا لما أصابهم ، وما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا ، ولم يتجهوا لغير الله تعالى لتفريج ما بهم من ضائقات الأمور ، وفواجع الدهور ، بل تشبثوا بحبل رب العالمين ، خالق الإنس والجن وجميع المخلوقات ، فمن كان تعلقه بالله أكبر ، كان جزاؤه أعظم ، وفي نهاية المطاف جنات تجري من تحتها الأنهار ، عن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ قُلْتُ : بَلَىٰ ، قَالَ : هٰذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللّهَ لِي ، قَالَ : " إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ" ، قَالَتْ : أَصْبِرُ ، قَالَتْ : فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ ، فَادْعُ اللّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ ، فَدَعَا لَهَا " [ متفق عليه ] .
فنسأل الله تعالى أن يلهمنا الصبر والاحتساب ، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، اللهم إنا نعوذ بك من السحرة والكفرة والمردة ، اللهم إنا نعوذ بك من كيد الكائدين ، وحسد الحاسدين ، وحقد الحاقدين يا ذا الجلال والإكرام ، سبحان الله وبحمده ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .


كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية