اطبع هذه الصفحة


الولاية للأصلح

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله رب العالمين ، ولي الصالحين ، وناصر عباده المؤمنين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، والخسران للمعتدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين ، خير المؤتمنين ، صلوات ربي وسلامه عليه في العالمين ، وعلى آله وأصحابه الميامين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . . أما بعد :
فيا أيها الأخوة في الله ، لا يخفى على كل مسلم صادق عرف ربه وصدق به ، وعلم أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً وآمن به ، من علم ذلك حقاً ، وآمن به موقناً ، فلابد أن يدرك أن الله تعالى أمر بالأمانة ، وتولية الرجل الأمين ، على الأمر العالي المبين .
وإن الناظر لواقع المسلمين اليوم ليجد كمداً ، ويرى عجباً ، عندما يرى الأمور خرجت عن نصابها ، وفقد زمامها ، وسقط خطامها ، عندما تولى بعض أمر المسلمين من ليس أهلاً للولاية ، وليس لديه الكفاية ولا الدراية .
خان الأمانة مع الله تعالى ، فكيف بالخلق ، لا شك أنه سيخون أي أمانة أؤتمن عليها ، لاسيما على الأموال والممتلكات ، والجمعيات الخيرية وغير ذلك ، مما يتعلق بالأموال والمساكين والضعفاء والأرامل واليتامى .
ولقد رأى الناس عياناً بياناً أن هناك ثلة ممن وثق بهم ولي الأمر فأمَّرَهُم وأمِنَهُم على إخوانهم الضعفاء والمحتاجين ، فخانوا الأمانة ، فأعطوا من لا يستحق ، ومنعوا المستحق .
ومنهم من اغتنى فور وصوله لذلك الكرسي ، وذاك المنصب ، فأصبح له مزارع ، ومساكن ، وسيارات ، وجمع من الخدم والحشم ، فمن أين له هذا ؟
هذا ما سوف يُسأل عنه يوم القيامة ، عند من لا تخفى عليه خافية .
وبعضهم منع الخير عن الناس ، أن يعملوا به ، أو يأتوا إليه ، حسداً من عند أنفسهم ، ابتغاء الحياة الدنيا ، وابتغاء الغواية .
وإني في هذه الأسطر لأذكر كل من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين ، أن يتق الله تعالى ويخشه ، ويخاف عقابه وعذابه ، ويختار لهذه المهمة رجالها من أهل العلم والخير ، الذين يشهد لهم القاصي والداني ، بأنهم أهل فضل وعلم وورع وزهد ، وأنهم لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً .
ومن فرط في ذلك وأمَّرَ على المسلمين من ليس بأهل لأجل قرابة أو صداقة أو محاباة لأحد ، أو لأجل مصلحة أو غير من أمور الدنيا ، فقد غش المسلمين ، وعرض نفسه لوعيد الله تعالى ، وأليم عقابه ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ولي من أمر المسلمين شيئاً ، فغشهم فهو في النار " [ رواه الطبراني في الأوسط والصغير وصححه الألباني رحمه الله تعالى ] .
وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من إمام ، ولا وال ، بات ليلة سوداء غاشاً لرعيته ، إلا حرم الله عليه الجنة " [ رواه الطبراني بإسناد حسن ، وقال الألباني رحمه الله : حسن صحيح ] .
وفي الحديث الصحيح لغيره ، قال صلى الله عليه وسلم : " ما من إمام يبيت غاشاً لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ، وعرفها يوجد يوم القيامة مسيرة سبعين عاماً " .
وفي الحديث الصحيح ، عن ابن مريم عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه أنه قال لمعاوية : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين ، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم ، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة ، فجعل معاوية رجلاً على حوائج المسلمين " [ رواه أبو داود واللفظ له والترمذي ] ولفظه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة ، إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته " [ ورواه الحاكم بنحو لفظ أبي داود وقال صحيح الإسناد ] .
فيالها من حياة تعيسة لمن تخلى وانخلع عن حاجة الضعفاء والمساكين ، وأغلق بابه دون مساعدة الأرامل واليتامى والمحتاجين ، وفتح بابه لغير أولئك ممن يعلم أنه لا حاجة بهم ، وإنما مداهنة وخيانة للأمانة ، فويل له يوم القيامة ، ويل له من الجبار القهار ، سوف يدخله النار ، والعياذ بالله .
فمن حلق لحيته ، وأسبل ثوبه ، وشرب الدخان ، وتعاطى الخمر ، وسمع الأغاني ، وشاهد المسلسلات ، فليس بأهل أن يتولى أصغر أمر من أمور المسلمين ، ولو بلغ من العلم مبلغه ، وأُتي من الحكمة منتهاها ، لأنه خان الأمانة مع الله تعالى ، فالناس أولى أن يخونهم ، ويغدر بهم ، ويجحد أماناتهم .
فليحذر ولاة الأمر أن يولوا أمر المسلمين ، لاسيما الجمعيات الخيرية ، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم ، والمؤسسات والهيئات الخيرية والدعوية لأناس فجرة ، لا يخافون الله ولا يهابونه ، ولا يتورعون عن أكل أموال المساكين والفقراء بالباطل ظلماً وعلواً ، وكثير ما هم .
بل يجب أن يتولى مثل هذه الأمور رجال عرفوا بالتقوى ، واتباع سبيل المؤمنين والهدى ، ممن لهم قدم راسخة في المشروعات الخيرية ، ولا عبرة بالمناصب والشهادات والمكانات ، فهي أمور ثانوية ، وليست ذات أهمية يعول عليها .
بل المهم الدين والخلق والصدق ، وصفاء العقيدة ، وسلامة المنهج ، والإخلاص لله تعالى .
ومن ولى على المسلمين رجلاً عرف أن فيهم من هو خير منه ، فقد أوقع نفسه في فتنة ومحنة ليس لها من دون الله كاشفة ، عن يزيد بن أبي سفيان قال : قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إلى الشام ، يا يزيد : إن لك قرابة ، عسيت أن تؤثرهم بالإمارة ، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعدما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ولي من أمر المسلمين شيئاً ، فأمَّر عليهم أحداً محاباة ، فعليه لعنة الله ، لا يقبل الله منه صرفاً ، ولا عدلاً ، حتى يدخله جهنم " .
وفي الحديث : " أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين " .
وويل لمن غش الله ورسوله وغش المسلمين ، فقد جاء الوعيد الشديد ، والتهديد الأكيد لمن فعل ذلك ، في حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية ، يموت يوم يموت وهو غاش رعيته ، إلا حرم الله تعالى عليه الجنة " ، وفي رواية : " فلم يحطها بنصحه ، لم يرح رائحة الجنة " [ رواه البخاري ومسلم ] .
وعلى ذلك فيجب على كل من ولي شيئاً من أمر المسلمين أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه ، وأمثلهم وأفضلهم ، أداء للأمانة ، وبعداً عن الخيانة [ الموسوعة الفقهية 45/146 ] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما ، أو ولاء عتاقة ، أو صداقة ، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس ، كالعربية والفارسية والتركية والرومية ، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب ، أو لضغن في قلبه على الأحق ، أو عداوة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الأنفال27 ] [ السياسة الشرعية 17-18 ] .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك


 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية