اطبع هذه الصفحة


حديث وفوائد

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، ولا رب لنا سواه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعالى في علاه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن اجتباه ، وعلى التابعين وجميع المؤمنين إلى يوم نلقاه . . . أما بعد :
فهذه سلسلة مطولة من حديقة يانعة ، وأزهار مقتطفة من واحة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، نقتطف منها حديثاً أو أكثر ونتناولها بعرض بعض فوائدها ، ونبدأ على بركة الله تعالى بهذا الحديث :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " دخلت على خالتي ميمونة وخالد بن الوليد ، فقالت ميمونة : يا رسول الله ، ألا أطعمك مما أهدى إلي أخي من البادية ؟ فقربت ضبين مشويين على قنوٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلوا فإنه ليس من طعام قومي ، أجدني أعافه ، وأكل منه ابن عباس وخالد ، فقالت ميمونة : لا آكل من طعام لم يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بإناء لبن ، فشرب وعن يمينه ابن عباس وعن يساره خالد بن الوليد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس : أتأذن لي أن أسقي خالداً ؟ فقال ابن عباس : ما أحب أن أوثر بسؤر ـ بفضل ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم على
نفسي أحداً ، فتناول ابن عباس فشرب ، وشرب خالداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أطعمه الله طعاماً فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا خيراً منه ، ومن سقاه الله لبناً فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه ، فإني لا أعلم شيئاً يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن " [ حسنه الألباني في الصحيحة 5/411] .
وفي الحديث فوائد جليلة القدر ، وعظيمة الفائدة منها .
1- أن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم هي خالة ابن عباس رضي الله عنهما ، وخالة خالد بن الوليد ، وأسمها ميمونة بنت الحارث الهلالية .
تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال غير محرم بعد عودته من عمرة القضاء وبنى بها بسرف ، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة رضي الله عنها سنة سبع للهجرة بعد عودته من عمرة القضاء وقد أحل من إحرامه ولم يكن محرماً إذ ذاك ، هذا هو الصحيح لحديث أبي رافع : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالاً وكنت الرسول بينهما " [ حديث حسن أخرجه أحمد والترمذي والدارمي وابن حبان والبيهقي وابن سعد ] .
وعن يزيد بن الأصم قال : " خطبها – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو حلال ، وبنى بها وهو حلال " [ أخرجه مسلم وغيره ، وميمونة هي خالة يزيد بن الأصم ، وكان اسمها بره ، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة ] [ سير أعلام النبلاء 2/238 ] .
2- من فوائد الحديث بيان زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن :
(1) أول من تزوج صلى الله عليه و سلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها . فكانت وزير صدق له لما بعث ، و هي أول من آمن به على الصحيح . و قيل : أبو بكر . و هو شاذ ، و لم يتزوج في حياتها بسواها لجلالها وعظم محلها عنده . واختلف أيها أفضل هي أو عائشة رضي الله عنهما ؟ فرجح فضل خديجة جماعة من العلماء . وقد ماتت قبل الهجرة بسنة ونصف .
(2) ثم تزوج سودة بنت زمعة القرشية العامرية ، بعد موت خديجة بمكة ، ودخل بها هناك ، ثم لما كبرت أراد صلى الله عليه وسلم طلاقها ، فصالحته على أن وهبت يومها لعائشة ، وفيها نزل قوله تعالى : " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " الآية ، وتوفيت في آخر أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(3) وقيل : تزوج عائشة قبل سودة ، و لكنه لم يبن بها إلا في شوال من السنة الثانية من الهجرة ، و لم يتزوج بكراً سواها ، [ و لم يأته الوحي في لحاف امرأة من نسائه سواها ] ، ولم يحب أحد من نسائه مثلها ، وقد كانت لها مآثر وخصائص ، ولا يعلم في هذه الأمة امرأة بلغت من العلم مبلغها ، وتوفيت سنة سبع وقيل ثمان وخمسين للهجرة .
(4) ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الثالثة من الهجرة ، وقد طلقها صلى الله عليه وسلم ، ثم راجعها ، وتوفيت سنة إحدى وأربعين . وقيل : سنة خمسين . و قيل : سنة خمس وأربعين .
(5) ثم تزوج أم سلمة ، و اسمها هند بنت أبي أمية القرشية ، بعد وفاة زوجها أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد ، قال الواقدي : توفيت سنة تسع وخمسين . وقال غيره في خلافة يزيد بن معاوية سنة اثنتين وستين .
(6) ثم تزوج زينب بنت جحش في سنة خمس من ذي القعدة ، وفي صبيحة عرسها نزل الحجاب ، كما أخرجاه في الصحيحين عن أنس ، وقد كان وليها الله سبحانه و تعالى دون الناس ، قال الله تعالى : " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها " ، وروى البخاري في صحيحه بسند ثلاثي أنها كانت تفخر على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : " زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله في السماء " ، وكانت أول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاة بعده ، قال الواقدي : توفيت سنة عشرين ، وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(7) ثم تزوج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية ، وذلك أنه لما غزا قومها في سنة ست ، بالماء الذي يقال له : المريسيع ، وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس ، وكاتبها ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها فاشتراها وأعتقها وتزوجها . فقيل : إنها توفيت سنة خمسين . وقال الواقدي : سنة ست وخمسين .
(8) ثم تزوج صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله تعالى عنها ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم اصطفاها من مغانم خيبر ، وقد كانت في أوائل سنة سبع ، فأعتقها وجعل ذلك صداقها ، فلما حلت في أثناء الطريق بنى بها ، وحجبها ، فعلموا أنها من أمهات المؤمنين . قال الواقدي : توفيت سنة خمسين ، وقال غيره : سنة ست وثلاثين ، والله أعلم .
(9) ثم تزوج أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان ـ صخر بن حرب ـ بن أمية بن عبد شمس الأموية . خطبها عليه عمرو بن أمية الضمري ، وكانت بالحبشة ، وذلك حين توفي عنها زوجها عبيد الله بن جحش ، فولي عقدها منه خالد بن سعيد بن العاص ، وقيل : النجاشي ، والصحيح الأول . ولكن أمهرها النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار ، وجهزها ، وأرسل بها إليه رضي الله عنه .
وتوفيت أم حبيبة رضي الله عنها سنة أربع وأربعين فيما قاله أبو عبيد ، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : سنة تسع وخمسين قبل أخيها معاوية بسنة .
(10) ثم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية واختلف هل كان محرماً أو لا ؟ والصحيح أنه كان حلالاً غير محرم ، وماتت بسرف حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من عمرة القضاء ، وكان موتها سنة إحدى وخمسين ، و قيل سنة ثلاث ، وقيل : ست وستين ، و صلى عليها ابن أختها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما . فهؤلاء التسع بعد خديجة اللواتي جاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم مات عنهن ، وفي رواية في الصحيح أنه مات عن إحدى عشرة ، والأول أصح .
2- ومن فوائد الحديث : جواز الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم وجواز أخذها ، أما الصدقة فيحرم عليه أخذها .
أما قبول الهدية فجاء ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت " [ أخرجه البخاري ] .
وأما الصدقة ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه : أهدية أم صدقة ؟ فإن قيل صدقة ، قال لأصحابه كلوا ، ولم يأكل ، وإن قيل هدية ، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم " [ أخرجه البخاري ] .
لكن إذا تصدق شخص على آخر بصدقة فأخذها وأهداها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فهي هدية له لا صدقة ، قال القسطلاني : " لأن التحريم على الصفة لا على العين . [ إرشاد الساري 6/15 ] . ويدل لذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم ، فقيل : تصدق به على بريرة ، قال هو لها صدقة ، ولنا هدية " [ أخرجه البخاري ] .
وعوض الله نبيه عن الصدقة بخمس الخمس لقوله تعالى : " واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل … الآية "
فتقسم الغنائم خمسة أسهم : أربعة أسهم للغانمين ، وسهم واحد يقسم خمسة أسهم أيضاً . فالأربعة أسهم الأولى ، سهم للراجل ، وثلاثة أسهم للفارس ، سهم له وسهمان لفرسه ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أسهم للراجل ولفرسه ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه " [ أخرجه أحمد أبو داود ] ، وفي الصحيحين : " أسهم للفرس سهمين وللراجل سهماً " .
والسهم الخامس يقسم خمسة أسهم .
1- سهم لله ولرسوله .
2- سهم لذي القربى ، وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب .
3- سهم للفقراء .
4- سهم للمساكين .
5- سهم لابن السبيل .
وهذا الفيء إذا كان مأخوذاً بالقتال مع الكفار قوة وقهراً .
أما إذا تركه الكفار خوفاً من المسلمين كالخراج والجزية ومال المرتد إذا مات على ردته وغيرها ، فهذه تصرف في مصالح المسلمين العامة ومرافقهم النافعة . [ توضيح الأحكام 5/443، تيسير الكريم الرحمن 2/214 ] .
3- ومن فوائد الحديث جواز أكل اللحم المطبوخ والمشوي وهو الذي مسته النار ، والصلاة بدون إعادة الوضوء ، لأنه كان قبل ذلك يجب الوضوء مما مست النار فنسخ الأمر ، رحمة بالأمة ، وتيسيراً لأمر الدين ، ولأن البلوى تعم بذلك الأمر . فعن عروة قال : سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " توضؤا مما مست النار " [ أخرجه مسلم ] .
وعن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال : " آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار " [ أخرجه ابن خزيمة وابن حبان ] ، وهكذا ثبت في صحيح ابن حبان من حديث جابر رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل طعام مما مست النار ، ثم صلى قبل أن يتوضأ ، ثم رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبا بكر أكل طعاماً مما مسته النار ثم صلى قبل أن يتوضأ ، ثم رأيت بعد أبي بكر عمر أكل طعاماً مما مسته النار ثم صلى قبل أن يتوضأ " [ أخرجه ابن حبان ] .
قال الترمذي رحمه الله : والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم ، مثل سفيان الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، رأوا ترك الوضوء مما مست النار . وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ صحيح سنن الترمذي 1/62 ] . واستدل الترمذي رحمه الله ، بالحديث الذي رواه جابر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه ، فدخل على امرأة من الأنصار فذبحت له شاة فأكل وأتته بقناع من رطب ، فأكل منه ، ثم توضأ للظهر وصلى ، ثم انصرف فأتته بعُلاَلَةٍ من عُلاَلَةِ الشاة ، فأكل ثم صلى العصر ولم يتوضأ " [ قال الألباني حديث حسن صحيح 1/61 ، وأخرجه أبو داود ] ، فدل الحديث على أن الأمر بالوضوء مما غيرت النار ، أمر منسوخ ، وهذا من فضل الله على الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
5- ومن فوائد الحديث ، جواز أكل الضب ، فقد أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يأكل منه ، لأنه لم يكن موجوداً بأرض قومه ، فعافه ولم يأكله ، ولم يعيبه عليه الصلاة والسلام ، وهكذا كان دأبه وهديه في الطعام ، إن اشتهاه أكله وإن لم يشتهيه تركه ولم يعيبه .
أما بالنسبة للضب فهو حيوان بري ، وجمعه ضباب وأضب والأنثى ضبه ، وقيل أنه لا يشرب الماء ، ويعيش سبعمائة سنة وصاعداً ، وقيل أنه يبول قطرة واحدة في كل أربعين يوماً ولا تسقط له سن ، لأن أسنانه قطعة واحدة وليست مفرقة ، وقيل أنه يتلون ألواناً بحر الشمس كما تتلون الحرباء .
وتبيض أنثى الضب سبعين بيضة فأكثر ، وتتعاهد بيضها كل يوم حتى يفقس .
وقيل أن بين الضب والعقارب مودة ، فهو يؤويها في جحره لتلسع المتحرشين به ، إذا أدخل أحدهم يده لأخذه .
وهو كثير النسيان ، فكثيراً ما يضيع جحره ولا يهتدي إليه . ولهذا فهو لا يحفر جحره إلا عند صخرة أو مكان عال حتى لا يضل عنه إذا خرج لطلب الطعام .
وهو طويل الدم بعد الذبح وهشم الرأس .
ويقال : أنه يمكث بعد الذبح ليلة ويلقى في النار فيتحرك ، ولا يخرج من جحره شتاءً .
وقيل أن الضب إذا خرج من بين رجلي إنسان فإنه لا يقدر بعد ذلك على مباشرة النساء .
وإن اتخذ جلده ظرفاً أو وعاءً للعسل ، ثم لعق منه فإنه يهيج شهوة الجماع ، وقيل أن بعره ينفع من البرص والكلف . [حياة الحيوان الكبرى 1/425] ، هذه بعض عجائب الضب ، فسبحان الله من خالق عظيم .
واختلف العلماء في حكم أكله على قولين :
القول الأول : إباحة أكله ، وهو قول الشافعية والحنابلة ودليلهم في ذلك ، الحديث السابق .
وعن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال : " لا آكله
ولا أحرمه " [ متفق عليه ] ، وفي رواية عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه ناس فيهم سعد ، فأتوا بلحم ضب ، فنادته امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت : إنه لحم ضب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلوا فإنه حلال ، ولكنه ليس من طعامي " [ أخرجه مسلم وغيره ] ، وفي رواية في الصحيح وهي إحدى ألفاظ حديث الباب : أن خالد بن الوليد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب ، فقال : أحرام الضب يا رسول الله ؟ قال : " لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ، قال خالد : فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فلم ينهني " .
القول الثاني : تحريم أكل الضب ، وهو قول الأحناف واحتجوا بأمور :
1- أنه من الحشرات وهوام الأرض .
وأجيب على ذلك بأنه لا يقتضي تحريمه ولو كان من الهوام والحشرات ، لأن الدليل ثبت بحله.
2- أنه من الخبائث ، والله قد حرم الخبائث .
ويجاب على ذلك بأن الضب ليس من الخبائث بل هو من الطيبات ، لأنه طاهر يأكل من الأعشاب والطاهرات ، وما كان كذلك فليس هو من الخبائث .
3- حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه لحم ضب ، فأمتنع أن يأكله ، فجاءت سائلة فأرادت عائشة رضي الله عنها أن تطعمها إياه ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أتطعمين مالا تأكلين " ، قال الزيلعي في نصب الراية 4/195 : حديث غريب .
ويجاب عن الحديث ، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع التصدق بالضب ، لا يعني أنه محرم ، بل أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون الصدقة من خير الطعام ، امتثالا لقول الله تعالى :" ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " وإلا فالأدلة الصحيحة ثابتة بحل أكل الضب .
4- قولهم أن الضب من جملة الممسوخ ، والممسوخ محرم ، كالدب والقرد والفيل والخنزير ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضب ؟ فقال عليه
الصلاة والسلام : " إن أمة مسخت في الأرض وإني أخاف أن يكون هذا منها " [ أخرجه مسلم وأحمد ] .
ويجاب على ذلك ، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصرح بذلك ، بل الثابت عنه جواز أكل لحم الضب .
قال الحافظ بن حجر رحمه الله : فالأحاديث وإن دلت على الحل ، تصريحاً وتلويحاً ونصاً وتقريراً ، فالجمع بينها وبين الحديث المذكور ، حمل النهي فيه على أول الحال ، عند تجويز أن يكون مما مسخ ، وحين إذٍ أمر بإكفاء القدور ، ثم توقف ولم يأمر به ولم ينه عنه ، وحمل الإذن فيه على ثاني الحال ، لما علم أن الممسوخ لا نسل له . وبعد ذلك كان يستقذره ، فلا يأكله ولا يحرمه وأكل على مائدته بأذنه فدل على الإباحة . [ فتح الباري 9/823 ، الأطعمة للفوزان 67 وما بعدها ] .
سؤال :
هل القردة والخنازير التي هي موجودة الآن هي من نسل بني إسرائيل الذين مسخهم الله قردة وخنازير كما قال تعالى : " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك أشر مكاناً وأضل عن سواء السبيل " [ المائدة 60 ] . أم لا ؟
الجواب :
اختلف العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول : أن الممسوخ لا ينسل ، وهو قول جمهور العلماء . والقردة والخنازير كانت قبل ذلك ، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبقى لهم نسل ، لأنه قد أصابهم السخط والعذاب ، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام . قال ابن عباس : لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل " .
قال ابن مسعود رضي الله عنه ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ ؟ فقال : " إن الله عز وجل لم يهلك قوماً ، أو يمسخ قوماً ، فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة " ، فلما أعلمه الله بذلك ، ثم قدم الضب على مائدته ، أذن في أكله ولم يحرمه ، وإنما ترك أكله عليه الصلاة والسلام استقذاراً له " [ منة المنعم 3/314 ] .
والقول الثاني : أنه يجوز أن تكون القردة والخنازير الموجودة اليوم هي من نسل بني إسرائيل الذين مسخهم الله عز وجل ، قاله ابن العربي .
قال القرطبي رحمه الله : والصحيح القول الأول . [ تفسير القرطبي 1/478 ] .
قلت : لأن الأدلة تعضده وتؤيده ، وتدل عليه .
5- ومن فوائد الحديث ، أن السنة في تقديم الشراب ، أن يقدم صاحب اليمين ، أي الجالس عن يمين الشارب ، أو يقدم من هو في يمين المجلس ، إذا كان الصاب واقفاً ، حتى وإن كان في المجلس من هو من أهل الفضل والمنزلة ، ويشهد لذلك ما رواه أنس قال : حلبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة داجن ، وشيب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس ، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القدح ، فشرب وعلى يساره أبو بكر ، وعن يمينه أعرابي ، فقال عمر : أعط أبا بكر يا رسول الله . فأعطى الأعرابي الذي عن يمينه ثم قال :" الأيمن فالأيمن " وفي رواية :" الأيمنون الأيمنون ، ألا فيمنوا " [ متفق عليه ] .
وعن سهل بن سعد قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح ، فشرب منه ، وعن يمينه غلام أصغر القوم ، والأشياخ عن يساره ، فقال ، يا غلام ! أتأذن أن أعطيه الأشياخ ؟ فقال : ما كنت لأوثر بفضل منك أحداً يا رسول الله فأعطاه إياه " [ متفق عليه ] .
قال الطيبي : " في الحديثين استحباب التيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام ، وأن الأيمن في الشراب ونحوه يقدم ، وإن كان صغيراً ومفضولاً . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم الأعرابي والغلام . [ شرح الطيبي 9/2880 ] .
فائدة مهمة :
اتفق العلماء على أن لا يؤثر في القرب الدينية والطاعات ، وإنما الإيثار ما كان في حظوظ النفس . فيكره أن يؤثر غيره موضعه في الصف الأول .
قال النووي : " الإيثار في القرب مكروه ، وفي حظوظ النفس مستحب " [ مرقاة المفاتيح 8/170 – 171 ] .
6- ومن فوائد الحديث ، أهمية اللبن وأنه غذاء كامل ، فهو طعام وشراب وفيه من فضيلة الإيثار والتقرب إلى الله تعالى بدفعه إلى من يستفيد منه عن طريق الأنثى من بهيمة الأنعام ، الأجر العظيم والثواب الجزيل ، ولذا عده النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الخصال الموجبة للجنة ، قال صلى الله عليه وسلم :" أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ، ما من عامل يعمل بخصلة منها ، رجاء ثوابها ، وتصديق موعودها ، إلا أدخله الله بها الجنة " [ أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ] .
وكانت منيحة العنز أعلى الخصال لأن فيها إيثاراً للمسلمين على نفسه ، ولما فيها من عمل بالكتاب العزيز ، وتصديق بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : " إنما المؤمنون أخوة" [ الحجرات ] ، وقال تعالى : " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " [ الحشر ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " [ متفق عليه ] .
فالمؤثر على نفسه هو المفلح والمفلح هو الموفق في الدنيا بفعل الخيرات والإكثار من الطاعات والبعد عن المنكرات ، واجتناب المنهيات . وفي الآخرة من الناجين الفائزين بجنة رب العالمين .
ومعنى منيحة العنز : أي أن يعطي شخص لآخر عنزاً يحلبها ويشرب لبنها ويأكله وينتفع به ، ثم يردها لصاحبها دون مقابل . وهذا من أعظم الإيثار والبذل في سبيل الله والإحسان إلى المسلمين ، وذكر العنز في الحديث ليس قاصراً عليها فقط ، بل وما في معناها من الأنثى من بهيمة الأنعام كالبقرة والناقة والجاموسة.
ومعلوم أن التبرع باللبن من أنفع ما يتقرب به الإنسان إلى أخيه المحتاج ، لأن اللبن غذاء كامل ، فهو يغني عن الطعام والشراب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس شيء يجزئ من الطعام والشراب غير اللبن " [ أخرجه الخمسة وحسنه الألباني في الصحيح تحت رقم 5/411 ] .
ولهذا كان من فضائل اللبن أن الإنسان إذا أكل أي طعام من الأطعمة ، سُن له أن يدعو الله بأن يبارك له فيه ، وأن يرزقه خيراً منه ، أما اللبن فالسنة ، أن يدعو الله أن يبارك له فيه ، ويزيده منه ، لأنه لا أفضل من اللبن كغذاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أطعمه الله طعاماً فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا خيراً منه ، ومن سقاه الله لبناً فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه ، فإني لا أعلم شيئاً يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن " [ حسنه الألباني في الصحيحة 5/411] .
والعلم عند الله تعالى .


كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك


 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية