اطبع هذه الصفحة


عمرك بعملك

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعز من أطاع ، وأذل من عصاه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً مزيداً إلى يوم الدين . . وبعد :
الإنسان في هذه الحياة الدنيا كم يأمل أن يعيش ؟
لاشك أن عمر الإنسان لن يتجاوز الستين إلا بقدر يسير ، أما الغالب فعمر الإنسان اليوم ما بين الستين والسبعين ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ سِتِّينَ إِلَى سَبْعِينَ ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ " [ رواه الترمذي وغيره ، وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وحسنه الألباني رحمه الله في الصحيحة 2/385 ] .
لو حسبنا عمر الإنسان الحقيقي ، والذي له ستون سنة ، فإننا نجد أنه يضيع من عمره قرابة الخمسة عشر عاماً لا يعاقب عليها ، لأنه لم يبلغ الحلم ، فنطرح عمره من السنوات التي لم يُعاقب عليها فتكون النتيجة :
60 – 15 = 45 سنة ، إذن الباقي من عمر هذا الإنسان خمسة وأربعون عاماً .
وإذا كان يقضي في النوم كل يوم وليلة ثمان ساعات ، فتصبح عشرون عاماً يستغرقها في النوم ، فنطرح العمر المتبقي من سنوات النوم التي لا يُحاسب عليها ، لأن القلم مرفوع عنه ، فتكون النتيجة :
45 – 20 = 25 سنة يقضيها الإنسان ، هي عمره الحقيقي ، يُحاسب عليها ، إما خيراً ، وإما غير ذلك ، فما وجد من خير فمن الله وحده ، وما وجد غير ذلك فلا يلومن الإنسان إلا نفسه ، لأنه اتبع الشيطان والهوى ، فكانت العاقبة سيئة وخيمة .
الإنسان إذا مات فإنه يبقى رهين عمله ، مدة من الزمن لا يعلمها إلا الله عز وجل ، ربما ملايين السنين ، أو مئات الآلاف من السنين ، ثم يُبعث بعد ذلك ، ويبقى منتظراً للجزاء والحساب في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، إنها سنين طويلة جداً .
هذه السنين يختلف فيها الناس منهم من تمر عليه سريعاً ، ومنهم من تمر عليه بطيئة جداً جداً .
ولنقارن بين عبدين من عباد الله ، أحدهما قضى حياته في طاعة الله عز وجل ، والآخر قضاها في المعاصي ، ولنرى عمر هذين العبدين بعد مماتهما :
العبد الأول :
إنسان عبد الله تعالى ما بقي له من عمر ، وقلنا أن عمره الحقيقي بعد حذف السن ما قبل البلوغ ، وجريان القلم ، وعمره الذي يقضيه في النوم ، فيصبح عمره الحقيقي هو خمسة وعشرون عاماً .
فهذا الرجل الذي عبد الله تعالى ، واستقام بفعل الطاعات ، وترك المعاصي والمنهيات ، لو صام رمضان كاملاً ، فإنه سيدرك ليلة القدر لا محالة ، إن قامها إيماناً واحتساباً ، فإن أصابها ، كان له من العمر الإضافي 83,333 عاماً ، يُزاد على عمره الحقيقي ، قال تعالى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [ القدر3 ] .
وهذا العمر يقضيه في حياة البرزخ ، أي في حياة القبور ، إلى يوم البعث والنشور ، فإذا كان صام خمسةً وعشرون سنة ، فمعنى ذلك أنه سوف يُزاد في عمره ، 83سنة مضروبة في 25 سنة التي هي عمره الحقيقي ، فيصبح له من العمر الزائد على عمره 2075 سنة ، ولو كان باراً بوالديه ، زاد ذلك في عمره ، قال صلى الله عليه وسلم : " صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وصلة الرحم تزيد في العمر ، وفعل المعروف يقي مصارع السوء " [ رواه البيهقي من حديث أبي سعيد ، وقال الألباني : صحيح ، انظر حديث رقم : 3760 في صحيح الجامع ] .‌
وعلى هذا فقس من الأعمال والأقوال الصالحة ، كالصلاة والزكاة والحج وغيرها من شعائر الدين ، فيصبح لديه من العمر آلاف السنين ، ينعم بها في رحمة الله تعالى ، وبالتالي لا يشعر بفارق السنين .
فهو في معية ربه ، قضى وقته في الدنيا في طاعة ربه وخالقه ، لأنه أدرك الحكمة التي من أجلها خلق ، وهي قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات56 ] .
فالله جل وعلا ما خلق الجن والإنس ، وبعث جميع الرسل إلا لغاية سامية , هي عبادته وحده سبحانه دون سواه .
ويقول الله عز وجل : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء103 ] .
أنظر كيف أن وقتك كله لله ، فهل وقتك أيها المسلم كله لله ، فهل أكثره لله ، هل نصفه لله ، هل أقله لله ، أم أنه ليس لله في وقتك متسع ؟
من يشاهد أحوال الناس اليوم يكاد يُجزم بأن أكثرهم لا وقت لديه للاستكثار من الطاعة والعبادة ، فهو ربما اقتصر على أداء الفرائض فقط ، ومنهم من ليس لديه وقت حتى للفرائض .
ولنتأمل هذه الآية الكريمة التي يقول الله فيها : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام162 ] .
فيا عبد الله لا تضيع وقتك فيما لا فائدة منه ، ولا خير يعود عليك ، بل اجعل وقتك أو جله لله عز وجل ، وسوف ترى السعادة الحقيقة ، ستهنأ بحياتك في الدنيا ، وتسعد في الآخرة ، فاجعل هذه الحياة الفانية مزرعة لك للآخرة ، تحصد هناك ثمار أعمالك وأقوالك ، لتنعم بحياة أهل الجنان ، اللهم اجعلنا وجميع المسلمين منهم يا رب العالمين .
وتأمل أيها المسلم ، وأيتها المسلمة هذا الحديث :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، الصِّحَّةُ ، وَالْفَرَاغُ " [ رواه البخاري ] .
العبد الثاني :
عبد عاص لله تعالى ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، لا يعرف لله قدراً ، فلننظر كيف يقضي عمره في الدنيا ، وبعد الممات .
قلنا مثلاً أن عمره ستون عاماً ، يقضي منها 15 عاماً تقريباً قبل البلوغ ، و20 عاماً في النوم ، فالباقي 25 عاماً تقريباً أو أكثر بسنة أو سنتين أو ثلاث .
هذا العمر المتبقي وهو 25 عاماً إذا قضاه العبد في معصية الله تعالى ، وارتكاب الآثام والذنوب ، فمعنى ذلك ، أنه خسر عمره الحقيقي ، وعمره الذي سيقضيه في القبر ، ويوم القيامة قبل الحساب ، ثم يرى سبيله إما إلى جنة ، وإما إلى نار ، فآلاف السنين سوف يقضيها بين ألوان العذاب الجسدي والنفسي ، فانظر إلى الخسارتين التي باء بهما هذا العبد العاصي ، خسر عمره في الدنيا ، لم يتلذذ بطاعة الله عز وجل ، ولم يذق طعم الراحة الحقيقة ، ولم يقدم لنفسه شيئاً من الأعمال يقربه من الله زلفى ، ولم يقدم لنفسه عملاً يستظل به في قبره ، ويوم القيامة ، ولم يبن لنفسه بيتاً يسكنه في الجنة ، بل تتلقفه السموم والحر من كل مكان ، سوف يبقى في قبره آلاف السنين ، ثم واقفاً ينتظر الجزاء والحساب خمسين ألف سنة ، يلجمه العرق ، ويغرق في عرقه ، على قدر معاصيه وذنوبه ، عَنْ الْمِقْدَاد بْن الأَسْوَدِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ _ قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ : فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ ، أَمَسَافَةَ الأَرْضِ ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ _ قَالَ : " فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَاماً " قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ " [ رواه مسلم ] .
فكيف يهنأ عبد وراءه من الأهوال العظام ، والأخطار الجسام ، ما لا يعلم به إلا الله عز وجل ، كيف يهنأ العبد وهو يعلم أن هناك جزاءً وحساباً ، يُحصى عليه كل عمله ، وجميع أقواله ، ثم جنة أو نار ، نار يأكل بعضها بعضاً ، ويحطم بعضها بعضاً ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاساً فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " نَعَمْ " . قَالَ : " هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْواً لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْواً لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ " . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ . فَلاَ يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ . فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ قَالُوا عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا . فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ . ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ . مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ . فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ فَيَقُولُونَ عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا . - قَالَ - فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا . قَالَ فَمَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ . قَالُوا يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ . فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ لاَ نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً - حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ . فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ . فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلاَّ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ . ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا . ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ " ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا الْجِسْرُ قَالَ : " دَحْضٌ مَزِلَّةٌ . فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ . حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ . فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ . فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثيراً قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِىَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ . فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ . فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَداً مِمَّنْ أَمَرْتَنَا ، ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَداً ، ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْراً " ، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } " فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْراً قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَماً فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ أَلاَ تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ " ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ قَالَ : " فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ ، وَلاَ خَيْرٍ قَدَّمُوهُ ، ثُمَّ يَقُولُ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ ، فَيَقُولُونَ رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ . فَيَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا . فَيَقُولُ : رِضَايَ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً " [ رواه مسلم ] .
ويقول ربنا تبارك وتعالى : { فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الأعراف30 ] .
وقال ربنا سبحانه : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ هود24 ] .
وقال عز وجل : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [ الشورى7 ] .
هذه هي الفروق بين الفريقين ، فريق عبد الله ، وصبر على طاعته ، وصبر عن معصيته ، وصبر على أقداره .
وفريق زاغ عن الحق ، وأضل طريق الهدى ، واتبع سبيل الشيطان ، وما يمليه عليه الهوى ، فهذا قال الله فيه : {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } [ النساء115 ] .
أيعقل أن يشتري عاقل عذاب آلاف السنين من أجل أن يتمتع بمعصية الله تعالى 25 سنة ؟
إنها لغفلة مهلكة ، تهلك صاحبها في الدور الثلاثة : الدنيا والقبر والآخرة .
فطوبى لعبد عمل لما بعد الموت ، وويل لعبد طغى وبغى ، واتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .
وأختم بهذه الآيات من سورة النازعات ، حيث يقول الله عز وجل : { فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ 34-41 ] .
والله أسأل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، اللهم اهدنا سبل السلام ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، ومن العمل ما تحب وترضى ، اللهم إنا نسألك الجنة ، ونعوذ بك من النار ، اللهم أصلح شباب المسلمين ، من بنات وبنين ، اللهم رد ضالهم إليك رداً جميلاً ، اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .

 كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك

 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية