اطبع هذه الصفحة


وقفات مع نعم الله تعالى

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله التواب الرحيم ، الحليم العليم ، أحمد ربي وأشكره على فضله العميم ، وأشهد أن لا إله إلا الله العلي العظيم ، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمد عبده ورسوله الموصوف بكل خلق كريم ، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ذوي المنهج القويم .
أيها الأخوة : أسعدكم الله بطاعته ، وهداكم لطريق جنته ، وجعل أيامكم ولياليكم سروراً ، وألبسكم من تقواه نوراً ، إن كتاب الله تعالى بينة بصائره ، نفيسة جواهره ، فيه الحجج الظاهرة ، والعظات الزاخره ، حوى من الحكم أعجبها ، ومن الأحاديث أصدقها وأعذبها ، وبما أن حديثي معكم في هذه الدقائق عن نعم الله وشكره وحمده ، فلنرتحل مع سورة من سور القرآن الكريم ، ونتأملها ونتدبرها ، سورة سميت سورة النعم ، لكثرة ما عدد الله فيها من النعم على عباده ، إنها سورة النحل ، ولنقف وقفات مع بعض نعم الله تعالى في هذه السورة :

الوقفة الأولى :

فيها من دلائل وحدانية الله تعالى وألوهيته الشيء الكثير ، نزلت في أخريات مقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعدما احتدم الصراع بين المؤمنين والمشركين ، ولم يكتمل للمسلمين نصراً يشد أزرهم ، ولم ينزل بالمشركين حدثاً يقصم ظهرهم ، وكأن المشركون يقولون أين ما تعدوننا به من العقاب الأليم ، والنكال العظيم ، فكان الجواب حاسماً في أول السورة : { أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النحل 1 ] .

الوقفة الثانية :

ذكر الله تعالى في هذه السورة العظيمة سورة النحل أصنافاً من النعم ، حيث ذكر أصولها ومكملاتها ، ففي أول السورة نعمة الوحي وإرسال الرسل داعية إلى التوحيد ، وأعظم به من نعمة : { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } [ النحل 2 ] ، فسمى الوحي روحاً ، كما أن جبريل يسمى روحاً ، لأن الإنسان بغير الوحي جسد بلا روح مثله كمثل الميت .

الوقفة الثالثة :

ثم ذكر الله تعالى نعمته بخلق السموات والأرض ، وخلقه الإنسان من نطفة ، ونعمته بخلق الأنعام ، ونعمة إنزال الماء ، ونعمة إرساء الجبال ، وشق الأنهار ، وتمديد الطرق ، وتزيين السماء بالنجوم ، واهتداء الخلق بها ، في نظم عجيب ، وآيات باهرة ختمها الله تعالى بقوله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل 18 ] .
إنه لا موعظة أعظم من القرآن ، ولا بيان أبلغ من آيات الله ، ويصور القرآن الكريم تلك النعم السالفة الذكر في هذه الآيات العظيمة ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ* يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ* خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ* وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ* هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل1- 18 ] .

الوقفة الرابعة :

ثم ذكر الله تعالى أدلة التوحيد وأمر به ، وبين أنه دعوة الرسل من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وذكر حال السعداء والأشقياء ، ثم عاد فقال : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل53 ] ، فلا تصرفوا العبادة إلا لله سبحانه فهو المنعم على الحقيقة .
وعجباً لبعض المسلمين ممن يستعينون بنعم الله على معصيته سبحانه ، السيارة نعمة ، فكيف تستعملها في المعصية بتشغيل الأغاني المحرمة ، أو زيادة السرعة المميتة المنهي عنها ، حتى قال بعض العلماء : من زادت سرعته عن مائة وعشرين فهو قاتل لنفسه .
ومن الناس من يستعمل نعمة الجسد فيما حرم الله عليه ، وكم في الجسد من نعم لا تعد ولا تحصى ، العين يستعملونها في النظر إلى الحرام ، وكذلك السمع ، واللسان ، واليد ، والرجل ، والفرج ، وهذا حديث يبين ذلك ويصفه وصفاً دقيقاً لمن تأمله ووعاه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة : فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه " ، وفي رواية لمسلم قال : " كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة : فالعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطا ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه " [ متفق عليه ] .
فالإنسان في هذه الجوارح مستقل وقاف عند حدود الله تعالى ، يغض طرفه ، ويحفظ سمعه وجوارحه من اقتراف السيئات والموبقات والمهلكات ، ومنهم مستكثر غير مكترث بأوامره عز وجل ونواهيه ، فيطلق لنفسه العنان والغوص في مستنقعات الفساد والفسق والمعصية ، فهما فريقان لا يستويان .
وبعد تبيان الله تعالى لعباده نعمه التي لا تحصى ، ولا يمكن أن تستقصى ، بين أن الإنسان ظالم لنفسه ، وكافر للنعمة جاحد لحمدها وحقها ، فقال سبحانه وتعالى : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم34 ] .
ومع ذلك فهو سبحانه لا يؤاخذ بأول الذنب ، بل يمهل ويملي للظالم لعله يتوب ، ويرجع إلى ربه وإلا فإن أخذ الله أليم شديد ، وعقابه أكيد ، فقال الله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل18 ] .
وإن تحاولوا حَصْرَ نِعَم الله عليكم لا تَفُوا بحَصْرها; لكثرتها وتنوعها ، إن الله لَغفور لكم رحيم بكم ؛ إذ يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعم , ولا يقطعها عنكم لتفريطكم , ولا يعاجلكم بالعقوبة .

الوقفة الخامسة :

وتمضي السورة في تعداد أصناف أخرى من النعم ، وألوان من المنن ، فذكر من الأشربة اللبن : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ النحل 66 ] ، واللبن من أفضل الأطعمة على الإطلاق ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وأطعمنا خيراً منه ، وإذا سقي لبناً فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن " [ رواه أبو داود وحسنه الألباني وهو في صحيح الجامع برقم 381 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا شربتم اللبن فتمضمضوا منه فإن له دسماً " [ رواه ابن ماجة من حديث أم سلمة رضي الله عنها ، وهو في صحيح الجامع برقم 628 ] ، قال الترمذي رحمه الله : " وقد رأى بعض أهل العلم المضمضة من اللبن وهذا عندنا على الاستحباب ولم ير بعضهم المضمضة من اللبن " .‌
وفي الجنة أربعة أنهار منها : نهر من لبن ، قال الله تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } [ محمد15 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة بحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر اللبن ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار بعد " [ رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2122 ] . ‌
واللبن شراب الفطرة السليمة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء الطويل : " ليلة أسري بي رأيت موسى ، وإذا هو رجل ضرب كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى فإذا هو رجل ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس ; ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به ; ثم أتيت بإناءين في أحدهما لبن ، وفي الآخر خمر ، فقيل لي اشرب أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربته ، فقيل لي : أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك " [ رواه البخاري ومسلم ] .
وقيل : أن من رأى في المنام أنه يشرب لبناً ، فقد هدي إلى الفطرة السليمة ، قال صلى الله عليه وسلم : " اللبن في المنام فطرة " [ رواه البزار ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 5488 ] . ‌
واللبن أحب الطعام والشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ‌

الوقفة السادسة :

وفي سياق الكلام عن نعم الله عز وجل في سورة النحل ، ذكر الله العسل في معجزة النحل : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل 69 ] ، والعسل من وسائل العلاج النبوية ، وهو مفيد بجميع أنواعه ، ففيه شفاء لكثير من الأمراض لمن عرف قيمته وقدره ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشفاء في ثلاث : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنا أنهى أمتي عن الكي " [ رواه البخاري ] .
وعن أبي سعيد قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال : " اسقه عسلاً " فسقاه ، ثم جاء فقال يا رسول الله : قد سقيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسقه عسلاً ، فسقاه ، ثم جاءه فقال يا رسول الله : قد سقيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله وكذب بطن أخيك ، اسقه عسلاً " ، فسقاه عسلاً فبرأ " [ رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ووافقه الألباني ] .
وفي العسل زكاة ، قال صلى الله عليه وسلم : " في العسل في كل عشرة أزق زق " [ رواه الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4252 ] . ‌
قال الألباني رحمه الله تعالى : " المناحل التي تتخذ اليوم في بعض المزارع والبساتين لا زكاة عليها ، اللهم إلا الزكاة المطلقة بما تجود به نفسه على النحو الذي سبق ذكره في عروض التجارة " .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل ، كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها في المتفق عليه .‌
ورؤية العسل في المنام ، تدل على الاستقامة والاهتداء إلى الطريق المستقيم ، والتمسك بحبل الله المتين ، والعمل بكتابه عز وجل قراءة وحفظاً وتعلماً وتدبراً ، دليل ذلك :
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إني رأيت الليلة ظلة ينطف منها السمن والعسل ، ورأيت الناس يستقون بأيديهم ، فالمستكثر والمستقل ، ورأيت سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض ، وأراك يا رسول الله أخذت به فعلوت ، ثم أخذ به رجل بعدك فعلا ، ثم أخذ به رجل بعده فعلا ، ثم أخذ به رجل فقطع به ، ثم وصل له فعلا به ، فقال أبو بكر : أي رسول الله بأبي أنت وأمي والله لتدعني أعبرها ؟ فقال : " اعبرها " ، فقال : " أما الظلة فظله الإسلام ، وأما ما ينطف من السمن والعسل ، فهو القرآن لينه وحلاوته ، وأما المستكثر والمستقل ، فهو المستكثر من القرآن ، والمستقل منه ، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه ، فأخذت به فيعليك الله ، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ، ثم يأخذ بعده رجل آخر فيعلو به ، ثم يأخذ رجل آخر فينقطع به ، ثم يوصل له فيعلو ، أي رسول الله : لتحدثني أصبت أو أخطأت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أصبت بعضاً ، وأخطأت بعضاً " ، قال : أقسمت بأبي أنت وأمي لتخبرني ما الذي أخطأت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تقسم " [ رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وكذلك قال الألباني ] .
العسل يخرج من النحل ، والنحل له أكثر من عشرين ألف نوع ، وهناك نوع وحيد يصنع العسل ، وهو نحل العسل .
ومجتمع النحل من أنشط المجتمعات ، وليس للتسول بينها مقام ، وهو مجتمع لا يعرف اليأس ، معروف بطاعته لكبيره ، والاستكانة لأميره وقائده .
ومن عجيب أمرها أن الملكة تعيش ما بين ثلاث إلى سبع سنوات ، أما الذكور فتكثر في فصل الربيع وهو موسم التلقيح ، أما في الخريف فتقوم الشغالات بطرد الذكور فتموت من شدة البرد .
ويحرم قتل النحل ، ودليل ذلك :
عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، نهى عن قتل أربع من الدواب : " النملة والنحلة والهدهد والصرد " [ رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني ] ، وفي رواية : " والضفدع " ، قال الطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار : " وأما النحلة فليست من هذا الجنس في شيء ، ولكنها مما ينتفع بها ، ومما لا منفعة في قتلها ، فقتله إياها يجمع بين أمرين :
أحدهما : قطع لمنافعها .
والآخر : عدم الانتفاع بها ، فزاد جرم قاتلها على جرم قاتل الهدهد والصرد .
وإذا حدث منه إيذاء جاز قتله لكن بغير النار ، ولا يقتل إلا بشرط الإيذاء .
ويحرم أكل النحل لأنه غير مستطاب .
ويجوز بيعه لأن فيه منفعة .
ومما أودع فيها من الذكاء والفطنة وفن العمارة والبناء ، أن جعلت الشغالات من بيوتها أشكالاً سداسية ، لأن جميع الأشكال ما عدا المسدس إذا ضمت إلى بعضها فإنه يبقى بينها فراغ .

وللعسل أسماء عديدة منها :
1- السنوت ، قال صلى الله عليكم وسلم : " عليكم بالسنى والسنوت ، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام " قيل يا رسول الله : وما السام ؟ قال : " الموت " [ رواه ابن ماجة وقال الألباني : صحيح بشواهده ] .
السنى : نبات كأنه الحناء ، زهره إلى الزرقة ، وحبه مفرطح إلى الطول ، وأجوده الحجازي ويعرف بالسنى المكي .
والسنوت : العسل ، وقيل : الكمون ، وقيل : الشبت ، والله أعلم .
2- السلوى ، لأنه يسلي عن كل حلو .
3- الحافظ ، لأنه يحفظ ما يودع فيه .
4- الأمين .

الوقفة السابعة :

ثم ذكر الله تعالى نعمته بأن جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ورزقكم الأولاد والأحفاد .
ومن فقد الولد سعى جاهداً لإيجاده ، ودفع في سبيل ذلك الغالي والنفيس ، في حين أن الله قد قسم الأرزاق بين العباد ، فمن الناس من تكون ذريته إناث ، ومنهم من تكون خلفته ذكور ، ومنهم من يحوز الأمرين ذكوراً وإناثاً ، ومنهم من لا يولد له أبداً ، حكمة من الله وقَدَرَاً ، قال تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ الشورى 49-50 ] .
ومع هذه النعمة الإلهية الربانية ، إلا أن بعض الناس لم يشكر نعمة الله ، بل اعترض عليها والعياذ بالله ، وهذه كارثة ومصيبة قد تذهب بدين العبد وهو لا يشعر ، فتجد بعض الناس إذا رزق بالبنات اعترض وامتعض ، وغضب وهدد الزوجة بالطلاق ، وقطع الساق ، وهي لا تملك ذلك ، فالله هو الذي يهب البنين والبنات ، وهذا أمر لا يجوز ، لأنه من فعل الجاهلية ، كما قال الله تعالى في هذه السورة : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ النحل 58-59 ] .
كانوا في الجاهلية العمياء ، والظلمات الدهماء ، إذا أنجبت المرأة أنثى حلت بهم المصيبة خوفاً من عارها ، حتى وصل بهم الأمر إلا أن يدفنوها حية والعياذ بالله ، قال الله تعالى : { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ } [ التكوير8 ] .
وإذا البنت تدفن حية خوف العار والحاجة ، سئلت تبكيتاً لقاتلها .
فجاء الإسلام بحسن تشريعاته ، ويسر أوامره ، فأعطى المرأة مكانة عظيمة عالية ، لم تكن قد حصلت عليها فيما مضى من قرون وأقوام ، فأصبحت لها مكانتها في الإسلام ، وعرفت البشرية قدر الأم والأخت والبنت والخالة والعمة والجدة وسائر النساء الأجنبيات ، وتوالت الآيات بأداء حقوق المرأة ، والتحذير من بخسها ، بل نزلت سورة كاملة سميت سورة النساء ، لعظم حق المرأة ومكانتها .
فعلى المسلم أن يحذر من التلبس بعادات الجاهلية الجهلاء ، والأثرة العمياء ، وعليه أن يعتز بدينه ، ويعرف قدر الأنثى ، فكم من بنت كانت خيراً وبراً وصلاحاً لأبيها ، أكثر من إخوانها الذكور ، وهذا أمر مشاهد وملموس .

الوقفة الثامنة :

ويمضي تعداد النعم فذكر الله عز وجل نعمة العلم والتعليم وتهيئة أسباب ذلك : { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل78 ] .
العلم الشرعي هو أشرف العلوم على الإطلاق ، وعلم القرآن الكريم أفضل العلوم ، وقد امتدح الله العلم وأهله ، ورفع شأنهم ، وأعلى مكانتهم ، فلذلك لحوم العلماء مسمومة ، لا يجوز لأحد من الناس أن يسب عالماً أو يقع في عرضه ، كما نشاهده اليوم ونقرؤه عبر وسائل الإعلام ، وللأسف الإسلامية ، يريد منها التقليل من شأن العلماء ، وانتقاص مكانتهم بين الناس ، حتى لا تسمع أقوالهم ، ولا يؤخذ بفتواهم ، فيصبح الناس حيص بيص ، يأخذون العلم والفتوى من كل شارد ووارد .

الوقفة التاسعة :

إن نعم الله تعالى فوق الحصر ، وبين كل نفس ونفس تتنزل نعم وتترادف أفضال ، ويذكر الله تعالى نعمة المساكن والبيوت : { وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [ النحل 80-81 ] .
ولو نظرنا اليوم إلى كثير من دول العالم حولنا ، لوجدنا أننا في نعمة لا يعلم بعظمها إلا الله ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون .
أناس يعيشون في خيام ، وفي جريد النخل ، وبين الأخشاب والحديد ، لا يقيهم ذلك حر الصيف ، ولا برد الشتاء ، ولا هطول الأمطار ، ونحن ننعم بنعمة السكن ، والفاره من المنازل والبيوت ، فلله الحمد من قبل ومن بعد ، وله الشكر والعرفان ، على مزيد نعمه ، وعظيم كرمه ، وجزيل مننه .

الوقفة العاشرة :

مقابل الشكر ، مزيد العطاء ، ألا فاشكروا نعمة الله ، فإن الشكر مع المزيد أبداً ، قال جل وعلا : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم 7 ] ، وقال تعالى آمراً عباده بشكره على نعمه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة172 ] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، ويشرب الشربة فيحمده عليها " [ رواه مسلم ] .
ومن لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها ، من الناس من يأكل ويشرب ويلبس ويتنعم بنعم الله ، ولا يكلف نفسه شكره وحمدها ، وقد ذمهم الله بذلك فقال سبحانه : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ } [ النمل73 ].
وقال تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ سبأ13 ] .
وقال تعالى : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف17 ] .
ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا ، وأن نعمل صالحاً ترضاه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الوقفة الحادية عشرة :

في ختام هذه السورة العظيمة سورة النحل _ سورة النعم _ وبعد التذكير بالنعم ، ذكر الله تعالى مثلين :
المثل الأول : من شكر نعمة الله وهو إبراهيم الخليل عليه السلام حيث قال سبحانه : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل 121 – 122 ] .
أما المثل الثاني : فهو لمن كفر نعمة الله : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ* وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [ النحل 112 – 113 ] .
ويذكرنا هذا المثل أو هذه الآية بآيات في سورة سبأ لمن جحد نعمة الله فقال الله عز وجل : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } [ سبأ 15-16 ] .

الوقفة الثانية عشرة :

وهي سنة الله التي تجري في كل زمان ومكان ، ألا وهي الإمهال ، دون الإهمال ، فالله تعالى يمهل ولا يهمل ، وسنن الله لا تحابي أحداً ، فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسباً ولا قرابة ولا وساطة ، إلا من خاف الله واتقاه ، وخشيه ورجاه ، وأتمر بالأوامر ، وانتهى عن النواهي ، وهذه من أعظم نعم الله على خلقه ، أنه لا يأخذهم مع أول ذنب ، وبدء الإثم ، بل يؤخرهم ويملي لهم لعلهم يحدثون توبة أو أوبة ورجعة إليه سبحانه ، وندماً على ما اقترفوا من السيئات والذنوب والمعاصي ، فقال سبحانه : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ النحل61 ] .
وقال في سورة فاطر : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } [ فاطر45 ] .
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا _ من المعاصي _ ما ترك على ظهرها _ الأرض _ من دابة _ نسمة تدب عليها _ ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى _ يوم القيامة _ فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً ، فيجازيهم على أعمالهم يإثابة المؤمنين ، وعقاب الكافرين .
فالله تعالى يتفضل على خلقه بإنعامه وإفضاله ، ويمهلهم ويملي لهم ، حتى إذا لجوا في طغيانهم ، واستكبروا وعميت أبصارهم ، وقالوا من أشد منا قوة ، أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، يأتيهم أمره من السماء ، أو من الأرض ، أو من فوقهم ، أو من تحت أرجلهم ومن بينهم ، أو من تحتهم ، قال الله القوي المتين : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } [ الأنعام65 ] .
وتتنوع وسائل الكوارث والمصائب ، تأتي الكوارث في طوفان ، أو زلزال ، أو بركان ، أو حروب ، أو وباء ، أو انهيارات اقتصادية ، وزعزات سياسية ، وقد قال الله تعالى في هذه السورة ، سورة النحل : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل 45 – 47 ] .

الوقفة الثالثة عشرة :

وإن من العجيب في البشر أن يد الله تعمل من حولهم ، وتأخذ بعضهم أخذ عزيز مقتدر ، فلا يغني عنهم مكرهم وتدبيرهم ، ولا تدفع عنهم قوتهم ولا علمهم ومالهم ، ومع ذلك وهم يقرءون كتاب الله عز وجل ، إلا أنهم في طغيانهم يعمهون .
قال الله تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل 84-88 ] .

الوقفة الرابعة عشرة :

ويظل الناجون آمنون لا يتوقعون أن يأخذوا كما أخذ غيرهم ، ولا يخشون أن تمتد إليهم عقوبة الله في صحوهم أو منامهم ، في غفلتهم أو في استيقاظهم ، وهذا هو الأمن المذموم .
قال الله تعالى : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل 45-47 ] .

الوقفة الخامسة عشرة :

إن ما يحدث من كوارث ونوازل تهدد العالم وتؤثر فيه ، هي والله آية كيف تتلاشى أسطورة المال وتندك قلاع الربا وتنهار القوى وينتهي كل شيء في دقائق معدودات ، ويصبح الناس على ذهول مهول ، أين القوة والجبروت ، أين الهيمنة الاقتصادية ؟ في لحظات وبلا مقدمات ينتهي كل شيء ، إنها والله آية وعظة ، وإنها لنذر ليراجع الناس ربهم ويعودوا لخالقهم ، وليعلموا أن القوة لله جميعاً ، قال عز وجل : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [ البقرة165 ] .
وقال الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ } [ النحل 104-109 ] .
وقال الله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ فصلت 13-18 ] .
دعاء :
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، اللهم وفقه ونائبه وإخوانهم وأعوانهم لما فيه صلاح العباد والبلاد .
اللهم انصر المستضعفين من المسلمين في كل مكان ، اللهم كن لهم مؤيداً ونصيراً ، ومعينا وظهيراً ، اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم أصلح أحوال المسلمين ، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، واجمعهم على الحق يارب العالمين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين ، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يارب العالمين ، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك

 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية