اطبع هذه الصفحة


الْحُثَالَةُ

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين ، ولي المؤمنين ، ولا عدوان إلا على الظالمين الكافرين ، وأذنابهم من المنافقين ، علمانيين ولبراليين ، ورافضة وملحدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الخلق أجمعين ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله للثقلين ، ورحمة للعالمين ، صلى الله وسلم عليه في الدارين ، وعلى آله وصحبه والتابعين . . أما بعد :
فإن الحديث عن الحثالة مهم في كل وقت وزمان ، لما له من آثار سيئة ، ونتائج مؤلمة ، لما ورد فيهم من أحاديث تحذيرية ، تحذر أفعالهم وأقوالهم وأنهم سبب لفتنٍ كثيرة تصيب الأمة ، لهذا أحببت أن أُشارك في هذه العجالة لأبين لعقلاء الناس من هم حثالتهم في كل زمان ومكان .
فعن عبدالله ابن عَمرو رضي الله عنهما قال : " شَبَّكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَصابعه وقال : كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا بقيتَ في حُثالة قد مَرِجَتْ عهودهم وأماناتهم ، واختلفوا فصاروا هكذا _ يعني شبك بين أصابعه كما في بادية الحديث وما تبينه أحاديث أُخر _ قال : فكيف أصنع يا رسول الله ؟ قال : " تأخذُ ما تعرِف ، وتَدَعُ ما تُنْكِرُ ، وتُقبل على خاصتك ، وتَدَعُهم وعوامَّهم " [ رواه البخاري ] .
وفي رواية أوردها رزين : أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " كيف بكم وبزمان تُغَرْبلُ الناس في غَرْبلة ، ثم تبقى حُثَالَة من الناس ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودهم وأماناتُهُم ، واختلفوا هكذا _ وشبك بين أصابعه _ قالوا : كيف بنا يا رسول الله ؟ قال : " تأخذون ما تعرفون ، وتذَرون ما تُنكِرون ، وتُقْبِلون على أمرِ خاصَّتكم ، وتذَرون أمر عامَّتكم " .
وفي أخرى ذكرها أيضاً قال : " بينما نَحْنُ جُلُوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذَكر الفتنة فقال : " إذا رأيتم الناس مرِجت عهودهم ، وَخفّت أماناتهم ، وكانوا هكذا _ وشبَّك بين أصابه _ قال ابن عمرو : فقمت إليه ، ققلت : كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك ؟ قال : " الزَمْ بيتك ، وأمْلِكْ عليك لسَانَكَ ، وخذ ما تعرف ، ودَعْ ما تنكر ، وعليك بأمر خاصَّةِ نَفْسِكَ ، ودَعْ عَنْكَ أمر العامة " .
الحُفالَةُ والحُثالَةُ مِن الناسِ : مَن لا خَيْرَ فيه . وهو أيضاً : الرَّذْل مِن كلِ شيء [ تاج العروس ] .
والحثالة ما يبقى في نهاية المشروب كالقهوة ونحوها ، فحثالة الشيء لا تُشرب عادة .
مرجت : اختلفت وفسدت ، ولم يعودوا يوفوا بها ، ويؤدوها كما هي .
يغربل : أي يذهب خيارهم وعقلاؤهم ويبقى أشباه مثقفيهم وحملة الشهادات بلا معلومات ، الذين يستعملون المعميات والرموز تعمية على الناس ، وهو ما نراه اليوم من سفهاء الأحلام ، الذين درسوا في الغرب ثم أتوا إلينا بكل غث وغثيث ، تعرفهم بسيماهم ، ولا يخفى عليك معتقدهم من العلمانيين والليبراليين والخوارج والشيعة ومن حذا حذوهم ، وقد جاء وصفهم في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفويسق ، والتافه ، والسفيه الذي يتكلم في أمر العامة ، دون الرجوع إلى كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ " ، قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ " السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ " [ رواه أحمد ] .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً ، يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ " ، قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : " الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ " .
وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ " ، قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : " الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ " [ رواه ابن ماجة ] .
فالحثالة هم سقط الناس وسفلتهم ، هم الطابور الخامس ، هم أخف الناس عقولاً ، وأسخفهم رأياً ، الذين لا هم لهم إلا أنفسهم ، ولو هلك الناس كلهم ، الذين لا دين لهم ، دينهم ضعيف ، وعقيدتهم ميتة ، وشهادتهم مردودة ، وأمورهم مشبوهة ، يأكلون أموال الناس بالباطل ، يسطون على الأموال العامة والخاصة ، يستولون على أراض الغير ظلماً وعدواناً ، وهكذا هم أولئك الغوغاء السفهاء ، وهم كثير لا كثرهم الله .
ومن الحثالة من عقله مؤجر لغيره ، يتبع أفواه الحثالة ، ويأخذ آراءهم ، يريد ما يحقق له شهوته ونزوته ، لا يستطيع أن يبدي رأياً لعدم حكمته ، وضعف رأيه ، وقلة مروءته ، وهؤلاء يمثلون غالب المجتمعات ، تراهم سكارى وما هم بسكارى ، ولكن الشهوة غلبت على عقولهم وفهمهم ، فسقطوا في الفتنة والعياذ بالله .
الحثالة . . يحاربون أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، يحاربون الصالحين والعلماء والفضلاء والعقلاء من الناس ، لا هم لهم إلا بطونهم وشهواتهم ، وأظن أن أمرهم لا يخفى على كل ذي لب أو عقل .
فهاهي الفضائيات تعج بهم وبسقطاتهم وترهاتهم ، يدعون إلى الحرام ، ويقعون في المتشابه ، ضُلال الأفكار ، شذاذ الآفاق ، أفكارهم السوداء تدل على قلوبهم السوداء ، لا يعرفون معروفاً ، ولا ينكرون منكراً ، تراهم يحاربون رجال الحسبة والعلماء ، ويستهزئون بهم ، ويسخرون منهم ، ويسفهون أقوالهم ويحرضون العامة عليهم في الصحف والمجلات والشاشات واللقاءات والمنتديات ، قاتلهم الله أنى يؤفكون .
وهكذا يقف أئمة الضلال ومحترفو الجدل قادةً لمرحلة الضياع الفكري ، ويؤازرهم المنافقون المتشدقون الذين يستخدمون علمهم في تبرير الأوضاع ، والتماس الأعذار للسقوط والشر والجريمة والفساد ، وتبعهم في ذلك كثير من الساقطين والساقطات ، في تحريم الحلال ، وإباحة الحرام ، وخلط الحقائق حتى لا تكاد جمهرة الأمة تعرف المعروف من المنكر ، وللأسف أن أولئك الحثالة يتصدرون الساحات المختلفة ، وميادين العمل المتقدمة ، فيحجبون الحق ، ويظهرون الباطل ، وبسببهم تزوى النماذج الصالحة ، وتتألق النماذج الهابطة جاهاً وسلطاناً ومالاً ، وتغدق عليها الأموال والألقاب والمناصب ، فلا يكاد ينفذ أصحاب الحق إلى الحق ، ولا يكاد القابضون على الأمر يشعرون بما يعانيه أهل الحق القابضون على الجمر ، بل ويحرضون ولاة المر على الصلحاء والعلماء والدعاة ، كي تنقطع الجسور بين أولي العلم وأولي الأمر ، فلا يبقى إلا الصراع الخافت والظاهر ، ولا يُنتبه لما بين ذلك ، وتتعرض السفينة الاجتماعية كلها للضلال والضياع ، فهلا عقل ولاة الأمر ذلك ؟ وهلا تنبه الناس لذلك ، حتى لا تغرق سفينة المجتمع ، وتميع الحسنة ، وتظهر السيئة .
إن التمزق الفكري الداخلي للأفراد أو للأمم هو أول داء تصاب به ، وعن طريق هذا الخلل الفكري تدخل صنوف الخلل السلوكية ، نتيجة حتمية لخلل الفكر لدى الحثالة ؛ لأن سلامة الفكر هي الضامن لسلامة السلوك ، وهي السور الذي يحجز ويمنع ، وما أعظم تقوى الله في القلوب ، ومراقبته سبحانه وتعالى في السر والعلن ، فإذا كان الله موجوداً في القلوب أقبلت على الطاعة ، وابتعدت عن المعصية ، أما إذا فقد ذلك فحدث ولا حرج عما يحصل من فتن وفساد في البلاد ، يقول أحد الفلاسفة : " إذا لم يكن الله موجوداً فكل شيء مباح " .
حتى أصبح الإسلام وتعاليمه اليوم تهجر وتغرب في قلوب الناس بسبب الفضائيات ودعاة النار ، فتجد أكثر الناس مسلمون بالبطاقة ، أما الصلاة والزكاة وأركان الإسلام الأخرى لا تكاد ترى لها أثراً واضحاً في بلاد الإسلام ، ناهيك عن غيرها من البلدان ، وكأن الناس يعيشون في غربة من الدين ، نظراً للحرب القائمة على الإسلام وأهله وبتشجيع من بعض الرؤساء والمسؤولين في كل قطر إسلامي ، فبدأت تمحى بعض معالم الدين الإسلام ، وتموت كثير من السنن المحمدية ، كي يصبح الإسلام غريباً ، عن كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مِلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْحِجَازِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا ، وَلَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنَ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الأُرْوِيَّةِ _ الشاة _ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ ، إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيباً وَيَرْجِعُ غَرِيباً ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ : الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي " [ رواه أحمد والترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ " ، قَالَ : قِيلَ : وَمَنِ الْغُرَبَاءُ ؟ قَالَ : " النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ " [ رواه أحمد وابن ماجة والدارمي ] .
والنُّزَّاعُ : أي الغريب الذي بعد عن أهله .
ولهذا إذا مرجت الفتن وظهرت فعلى المسلم الحذر من الخوض فيها ، وعليه بوصية النبي صلى الله عليه وسلم ، فَعَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ فَقَالَ : " إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ ، وَكَانُوا هَكَذَا _ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ _ " قَالَ : فَقُمْتُ إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ : كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ ؟ قَالَ : " الْزَمْ بَيْتَكَ ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ " [ رواه أبو داود ] .
وتأملوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حيث أمره بما يلي :
تقوى الله : لأن التقوى ملاك كل أمر ، التقوى هي مخافة الله ، التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية ، وذلك بفعل الطاعات ، واجتناب المنهيات ، المتقون هم أولياء الله عز وجل حيث يقول سبحانه : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{62} الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ{63} لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{64} [ يونس ] .
عليك بنفسك : اهتم بنفسك واتجه في الفتن إلى العلماء ، فهم مصابيح الدجى ، وأنوار الهدى ، هم صمام الأمان في الفتن والمحن ، لأنهم أعلم الناس بكتاب الله عز وجل ، وأعلم الناس بسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، هم ورثة الأنبياء ، وخيرة الأصفياء ، هم الأوفياء ، هم من يكشف الله بهم الظلام ، وهم المرجع في المدلهمات والخطوب الملمات .
واحذر عامة الناس ، وهم سقطهم وسفلتهم وفسقتهم وتوافههم والذين تحدثنا عنهم قبل قليل ، والزم بيتك : فهو أحصن لك من مواجهة الفتن وتوافه الناس إذا فسد المجتمع .
وَعَنْ مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ أَسْلافًا حَتَّى لا يَبْقَى إِلا حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ ، لا يُبَالِي اللَّهُ بِهِمْ " [ رواه البخاري ] .
وعنه رضي الله عنه _ مرداس الأسلمي _ وكان من أصحاب الشجرة : سمعه قيْسُ بن أبي حازم يقول : " يُقْبَض الصالحون ، الأولُ فالأولُ ، ويبقى حُثالة كحثالةِ التمر والشعير ، لا يعبأ الله بهم شيئاً " .
وفي رواية : قال النبيُ صلى الله عليه وسلم : " يذّهَبُ الصالحون : الأولُ فالأولُ ، وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمرِ ، لا يُباليهم الله بالة " [ رواه البخاري ] ، ويقال : حُفالة ، وحُثالة .
مرجوا : أَيْ يُمْزَج بَعْضهمْ بِبَعْضٍ وَتَلَبَّسَ أَمْر دِينهمْ فَلَا يُعْرَف الْأَمِين مِنْ الْخَائِن وَلَا الْبَرّ مِنْ الْفَاجِر .
مرجت عهودهم ، وخفت أماناتهم : أَيْ لَا يَكُون أَمْرهمْ مُسْتَقِيمًا بَلْ يَكُون كُلّ وَاحِد فِي كُلّ لَحْظَة عَلَى طَبْع وَعَلَى عَهْد يَنْقُضُونَ الْعُهُود وَيَخُونُونَ الْأَمَانَات .
فعند ذلك فالْزَمْ أَمْر نَفْسك ، وَاحْفَظْ دِينك ، وَاتْرُكْ النَّاس وَلَا تَتْبَعهُمْ ، وقيل : إن في هَذَا رُخْصَة فِي تَرْك الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر إِذَا كَثُرَ الْأَشْرَار وَضَعُفَ الْأَخْيَار .
في خضم الفتن والشهوات والشبهات يكثر دعاة الفساد ويكثر متبعوهم ، ويقل دعاة الخير ، ويقل متبعوهم ، لأن النفس ميالة إلى الشهوة أياً كانت الشهوة ، شهوة مال أو فاحشة أو منصب أو نحو ذلك .
ولهذا نجد العلماء اليوم يحذرون من الفتن وعدم الخوض فيها ، بل يجب البعد عنها لعامة الناس وطلبة العلم الصغار حتى لا يقعوا في شركها ، فيخطئون ويتضررون ، كما نجد أن الحرب قائمة على قدم وساق ضد العلماء ودعاة الخير والصلاح والإصلاح ، ونجد أيضاً قلة من يتبعهم ويسمع قولهم ، وهذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ : " طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ " ، فَقِيلَ : مَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ " [ رواه أحمد والترمذي ] .
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل" 1، ورواه أبو بكر الآجري الحنبلي، وعنده: "قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس" 2، ورواه غيره، وعنده: "قال: الذين يفرون بدينهم من الفتن". ورواه الترمذي عن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي"، ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص، ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء؟ قال: قوم صالحون قليل، في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" 1، قال الأوزاعي في تفسيره: أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد، أو رجلان.
روى مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلي" 3. وعن الحسن البصري: "لو أن رجلاً من الصدر الأول بُعث، ما عرف من الإسلام شيئاً إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله، لئن عاش على هذه المنكرات، فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته، وصاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله، وقلبه يحن إلى ذلك السلف، ويتبع آثارهم ويستن بسنتهم، ويتبع سبيلهم، كان له أجر عظيم".
فاربأ بنفسك أيها المسلم الأبي التقي النقي أن تكون من تلك الفئة الضالة الحثالة الحفالة ، وكن عزيزاً بدينك ، فاضلاً عفيفاً ، صالحاً مصلحاً ، تؤثر على نفسك ولو كان بك خصاصة ، فهذه صفة المؤمن التي ورد ذكرها في كتاب الله تعالى ، لا تكن أنانياً محباً لنفسك مجرماً في حق غيرك ، أحب للناس ما تحت لنفسك ، لا تفرح بمصيبة غيرك ، بل احزن لحزنه وافرح لفرحه ، هذا هو المؤمن الذي نفتقد الكثير منه اليوم ، وإليك بعض النصوص الدالة على ذلك :
قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر9-10 ] .
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " [ متفق عليه ] .
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " [ متفق عليه ] .
ألا وإن من الحثالة الذين لا قيمة لهم في المجتمع أولئك الذين لا يأبهون بأبنائهم وبناتهم وزوجاتهم فيتركونهم هملاً وسبهللاً ، في الأسواق والشوارع يسرحون ويمرحون ، ثم يا عجبي له وهو ينام قرير العين ، بل ويراهم على المنكرات وسوء الأخلاق ولا يأمرهم ولا ينهاهم ، لا يعرف إلا ما يملأ بطنه وما علم المسكين أنه مسؤول أمام الله تعالى عن تلك الأمانة الملقاة على عاتقه .
وكذلك ذلكم الرئيس في عمله يرى الأخطاء تتوالى ، والظلم يتفشى في دائرته وهو مغمض العينين ، ساد الأذنين ، لا يتفوه ببنت شفه .
وعلى ذلك فقس ، حتى تعلم أن الحثالة كثير وكثير ، فهنا عليك بعلماء الأمة الأفاضل الأماجد تمسك بهم ، وخذ برأيهم ، واستشرهم فيما تأتي وتذر ، فهناك النجاة بإذن الله ، لأنهم هم الذين قال الله فيهم : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء83 ] .
وأولوا الأمر هنا : هم العلماء ، كما قاله المفسرون .
فيا أخي المسلم . . ويا أُختي المسلمة . . إياكم أن تكونوا حثالة ، فتبوءوا بالخسارة ، علماً بأن الساعة لا تقوم إلا على حثالة الناس ، عَنْ عِلْبَاءَ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى حُثَالَةِ النَّاسِ " [ رواه أحمد والحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ] .
اللهم جنبنا الفتن ، ما ظهر منها وما بطن ، اللهم ارزقنا علماً نافعاً ، وعملاً صالحاً ، وقلباً صادقاً ، ويقيناً لا ريب فيه ، اللهم علمنا ما ينفعنا وزدنا علماً يا رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك


 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية