اطبع هذه الصفحة


الجهر بالسوء

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


نقف في هذه الخاطرة مع تفسير قوله تعالى : { لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } [ النساء 148 ] .
قال أهل التفسير في هذه الآية نقلاً عن ابن عباس رضي الله عنهما : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ } يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : { إِلا مَنْ ظُلِمَ } وإن صبر فهو خير له .
وعن عائشة رضي الله عنها : " أنها سُرِقتْ مِلْحَفَة لها فجعلت تدعو على من سرَقَها ، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تُسَبْخي عنه " [ أخرجه أبو داود وهو حديث ضعيف ] [ تفسير ابن كثير 2/442 ] .
ومعنى لا تسبخي عنه : لا تخففي العقوبة عنه يوم القيامة وتنقصي أجرك هناك ، أي لَا تُخَفِّفِي عَنْهُ الْإِثْمَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِالسَّرِقَةِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظَّالِمَ يُخَفَّفُ عَنْهُ بِدُعَاءِ الْمَظْلُومِ عَلَيْهِ [ سبل السلام 6/71 ] .
زَادَ أَحْمَد " وَدَعِيهِ " وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا وَهِيَ فِي الْغَضَب فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْغَضَب تَتْمِيم الْعُقُوبَة لَهُ وَالدُّعَاء عَلَيْهِ يُخَفِّف الْعُقُوبَة عَنْهُ فَاللَّائِق بِذَلِكَ تَرْك الدُّعَاء ، وَمُرَاده صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتْرُك الدُّعَاء لَا أَنْ تَتِمّ لَهُ الْعُقُوبَة كَذَا فِي فَتْح الْوَدُود [ عون المعبود 10/427 ] .
ونحن نرى اليوم الكثير من الناس لا يسمع عن إنسان شيئاً سيئاً إلا ويدعو عليه وهو لا يعرفه ولم يتثبت مما سمع أو قرأ أو قيل عن ذلك الإنسان ، فهنا يحرم الدعاء على الناس ، وهذا أمر لا يحبه الله عز وجل ، فاحذر من عقوبة الله لك ، لا تدعو على الناس فتبوء بالإثم والعياذ بالله ، إلا من ظُلم فإنه يدعو على من ظلمه ، وإن صبر واحتسب الأجر عند الله فهو خير له ، وإن دعا لمن ظلمه بالهداية فهي منزلة علية عظيمة ، وإن عفا وصفح وسمح فله الأجر العظيم عن الله تبارك وتعالى ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ " [ رواه مسلم ] .
وقال الحسن البصري : لا يدع عليه ، وليقل : اللهم أعني عليه ، واستخرج حقي منه ، وفي رواية عنه قال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه .
وأعظم من ذلك خطورة أن يدعو الإنسان على والديه أو أحدهما ، فهذا منكر وكبيرة من الكبائر مهما حصل منهما من ظلم وتعسف ، فقد أمر الله تعالى ببر الوالدين ولو كانا على الكفر ، لكن في غير معصية الله تعالى ، قال الله عز وجل : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لقمان15 ] .
وإن جاهدك- أيها الولد المؤمن- والداك على أن تشرك بي غيري في عبادتك إياي مما ليس لك به عِلم, أو أمراك بمعصية مِن معاصي الله فلا تطعهما؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, وصاحبهما في الدنيا بالمعروف فيما لا إثم فيه, واسلك- أيها الابن المؤمن- طريق مَن تاب من ذنبه, ورجع إليَّ وآمن برسولي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إليَّ مرجعكم, فأخبركم بما كنتم تعملونه في الدنيا, وأجازي كلَّ عامل بعمله .
وإن حصل ظلم من الوالدين للابن أو البنت فلا يجوز له ولها الدعاء عليهما لأنهما أصل وجوده بعد الله عز وجل ، ولكن يقول : اللهم خذ بحقي ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، وإن تنازل وصبر وغفر فهو خير له عند ربه .
المقصود أنه لا يجوز للإنسان أن يدعو على أحد إلا من ظلمه أما غيره فلا ، ومن فعل ذلك فقد فعل فعلاً لا يحبه الله عز وجل .
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا ، وما أعلنا وما أسررنا ، وتجاوز عن سيئاتنا وتفريطنا في أمرنا أنت مولانا .
 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك



 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية