اطبع هذه الصفحة


مائدة رمضان

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله شرع رمضان للمنافسة في الخيرات ، وكثرة الطاعات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بالصيام والصلاة ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله حث على التراويح وكثرة القيام بالليل والناس نيام ، صلوات ربي و سلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين . . وبعد :
أضحى رمضان شهر أكل وشرب ، بل وتنوع في ذلك ومفاخرة ومباهاة بين الناس ، الذين غفلوا عن المعنى الحقيقي للصيام في رمضان ، إذا كان الاعتقاد السائد عند الناس لاسيما النساء ، فتكثر المشتريات ، وتزداد كمية الطعام ، وأنواع المشروبات ، وتمتلئ حاويات الزبالة ، وترمى كميات الطعام الباقية فيها ، بلا حمد ولا شكر ، ففي هذه الحال يُخشى من تغير الحال ، وزوال النعم ، وحلول النقم ، والآيات في ذلك كثيرة قال الله تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [ النحل 112 ] ، وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ إبراهيم 28 ] .
ويقول الله عز وجل محذراً لعباده من التمادي في الغي والطغيان والإسراف والأشر والبطر ، بعد تمام النعمة عليهم : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } [ 11 ] .
فاحذروا عباد الله من مخالفة أمره ، فعاقبة ذلك وبال وخسران مبين ، انظروا إلى المجاعات من حولكم ، والحروب الطاحنة ، والخوف ، وعدم الاستقرار ، وتخطف الناس ، والقتل والترمل واليُتم ، كل ذلك بسبب مخالفة أوامر الله تعالى ، ولا اشد مخالفة من رمي الطعام في سلات المهملات ، وصناديق الزبالة ، أهكذا يكون شكر الله المنعم على نعمه ، في حين أن المجاعات قد ضربت المسلمين في القرن الإفريقي لاسيما الصومال المسلمة ، فأين الشعور بالوحدة والأخوة الإسلامية ، ألا يكفينا أقل القليل مما يسد الجوع ، ويظمئ العطش ، ثم نتبرع وندفع الأموال لإخواننا هناك ، فهم يعانون أشد أنواع الجفاف والمجاعة والتي راح ضحيتها آلاف الناس ، أخرج البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم : مثلُ الجسد ، إِذا اشتكى منه عضو : تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى " ، وفي رواية : " المؤمنون كرجل واحد ، إِذا اشتكى رأسُه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " [ رواه البخاري ومسلم ] ، ولمسلم : " المسلمون كرجل واحد ، إِن اشتكى عينُهُ اشتكى كُلُّه ، وإِن اشتكى رأسُهُ اشتكى كُلُّه " .
اليوم ومع ضعف الإيمان ، نشاهد التباهي بالسفر ، بل والشكر من قبل أزواج سفهاء لزوجاتهم عبر أشرطة الفضائيات ، وكأنهم في جوع وقلة طعام ، مع انهم يرفلون في نعم لا يعلمها إلا الله وحده ، السفرة تعج بأصناف الطعام ، من لا يأكل إلا شيئاً يسيراً ، ومنهم من يأكل بنهم وشره وكأن الموت يطارده من الجوع ، فيملأ بطنه ثم لا يستطيع أن يؤدي أي فريضة بعد ذلك ، فهو يحتاج إلى وقت طويل حتى يهضم ما أكله ، ومنهم من يذهب للمستشفى لأجراء عملية تنظيف للمعدة .
رويدكم . . رويدكم معاشر المسلمين ، فما تلك هي الحكمة من رمضان ، بل الحكمة أن تقلل من الطعام والشراب ، لتتقوى على الصلاة والقيام وقراءة القرآن وذكر الله عز وجل وأعمال الخير والبر ، لا ملء البطن بالطعام والشراب ، فإن ذلك يسبب الكثير من الأمراض والكسل وعدم الرغبة في العبادة .
عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ " [ رواه الترمذي ] ، وَرواهُ ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَتَمَامُهُ : " فَحَسْبُ ابْنُ آدَمَ أَكَلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لَا مَحَالَةَ " ، وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَةْ : " فَإِنْ غَلَبَتْ ابْنَ آدَمَ نَفْسُهُ فَثُلُثًا لِطَعَامِهِ ، وَثُلُثًا لِشَرَابِهِ ، وَثُلُثًا لِنَفَسِهِ " ، وهذه الأحاديث وما في معناها ، دَلِيلٌ عَلَى ذَمِّ التَّوَسُّعِ فِي الْمَأْكُولِ وَالشِّبَعِ وَالِامْتِلَاءِ ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَرٌّ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الدِّينِيَّةِ ، وَالْبَدَنِيَّةِ ، فَإِنَّ فُضُولَ الطَّعَامِ مَجْلَبَةٌ لِلسَّقَامِ وَمُثَبِّطَةٌ عَنْ الْقِيَامِ بِالْأَحْكَامِ ، وَهَذَا الْإِرْشَادُ إلَى جَعْلِ الْأَكْلِ ثُلُثَ مَا يَدْخُلُ الْمِعْدَةَ مِنْ أَفْضَلِ مَا أَرْشَدَ إلَيْهِ سَيِّدُ الْأَنَامِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ يُخَفِّفُ عَلَى الْمِعْدَةِ وَيَسْتَمِدُّ مِنْ الْبَدَنِ الْغِذَاءَ وَتَنْتَفِعُ بِهِ الْقُوَى وَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَدْوَاءِ ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ الْكَلَامِ النَّبَوِيِّ شَيْءٌ كَثِيرٌ فِي ذَمِّ الشِّبَعِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا رِجَالُهُ ثِقَاتٌ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : " أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جُحَيْفَةَ لَمَّا تَجَشَّأَ فَقَالَ : " مَا مَلَأْت بَطْنِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً " ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ : " وَأَهْلُ الشِّبَعِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْجُوعِ غَدًا فِي الْآخِرَةِ " ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ : " الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ " ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا عَظِيمَ الْبَطْنِ فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ هَذَا لَكَانَ خَيْرًا لَك " .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مُخْتَصَرًا { لَيُؤْتَيَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَظِيمِ الطَّوِيلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } } وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَهُ جُوعٌ يَوْمًا فَعَمَدَ إلَى حَجَرٍ فَوَضَعَهُ عَلَى بَطْنِهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَا رُبَّ نَفْسٍ طَاعِمَةٍ نَاعِمَةٍ فِي الدُّنْيَا جَائِعَةٍ عَارِيَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَلَا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ أَلَا رُبَّ مُهِينٌ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ لَهَا مُكْرِمٌ } وَصَحَّ حَدِيثُ { مِنْ الْإِسْرَافِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْت } .
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ أَكَلْت فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ أَمَّا تُحِبِّينَ أَنْ لَا يَكُونَ لَك شُغْلٌ إلَّا جَوْفَك ؛ الْأَكْلُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ الْإِسْرَافِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } وَصَحَّ { كُلُوا وَاشْرَبُوا ، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ } وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ { سَيَكُونُ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي } .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ إذَا امْتَلَأَتْ الْمِعْدَةُ نَامَتْ الْفِكْرَةُ وَخَرِسَتْ الْحِكْمَةُ وَقَعَدَتْ الْأَعْضَاءُ عَنْ الْعِبَادَةِ ، وَفِي الْخُلُوِّ عَنْ الطَّعَامِ فَوَائِدُ وَفِي الِامْتِلَاءِ مَفَاسِدُ فَفِي الْجُوعِ صَفَاءُ الْقَلْبِ وَإِيقَادُ الْقَرِيحَةِ وَنَفَاذُ الْبَصِيرَةِ ، فَإِنَّ الشِّبَعَ يُورِثُ الْبَلَادَةِ وَيُعْمِي الْقَلْبَ وَيُكْثِرُ الْبُخَارَ فِي الْمَعِدَةِ وَالدِّمَاغِ كَشَبَهِ السُّكْرِ حَتَّى يَحْتَوِيَ عَلَى مَعَادِنِ الْفِكْرِ فَيَثْقُلُ الْقَلْبُ بِسَبَبِهِ عَنْ الْجَرَيَانِ فِي الْأَفْكَارِ وَمِنْ فَوَائِدِهِ كَسْرُ شَهْوَةِ الْمَعَاصِي كُلِّهَا وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ، فَإِنَّ مَنْشَأَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الشَّهَوَاتُ ، وَالْقُوَى وَمَادَّةُ الْقُوَى الشَّهَوَاتُ وَالشَّهَوَاتُ لَا مَحَالَةَ الْأَطْعِمَةُ فَتَقْلِيلُهَا يُضَعِّفُ كُلَّ شَهْوَةٍ وَقُوَّةٍ ، وَإِنَّمَا السَّعَادَةُ كُلُّهَا فِي أَنْ يَمْلِكَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَالشَّقَاوَةُ كُلُّهَا فِي أَنْ تَمْلِكَهُ نَفْسُهُ [ سبل السلام ] .

 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك


 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية