اطبع هذه الصفحة


هلاك المترفين

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله حمداً يليق بجلاله وعظمته ، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تنجينا من عذابه وسطوته ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن قام بسنته . . وبعد :
في خاطرتنا هذه تناول آية من آيات الله البينات يؤلها كثير من الناس على غير تأويلها ، وهي قوله سبحانه وتعالى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ الإسراء16 ] .
ربما يقول البعض : كيف يأمر الله الناس بالفسق ليهلكهم ؟
وهذا مفهوم خاطئ لمعنى الآية ، لأن الله عز وجل لا يأمر بالمنكر ولا بالفحشاء ولا بالمعصية ، بل يأمر عباده بالمعروف والطاعة والصلاح ، وفي ذلك وردت الأدلة من الكتاب والسنة ، قال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف28 ] .
والآية جاء في تفسيرها أن الكفار إذا أتوا عملاً قبيحًا اعتذروا عن فعله بأنه مما ورثوه عن آبائهم , وأنه مما أمر الله به ، فرد الله جل وعلا كذبهم بأنه سبحانه لا يأمر عباده بقبائح الأفعال ومساوئها , أتقولون على الله أيها المشركون ما لا تعلمون كذبًا وافتراءً ؟
ويقول سبحانه عز شأنه : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النحل90 ] .
إن الله سبحانه وتعالى يأمر عباده في هذا القرآن بالعدل والإنصاف في حقه بتوحيده وعدم الإشراك به, وفي حق عباده بإعطاء كل ذي حق حقه, ويأمر بالإحسان في حقه بعبادته وأداء فرائضه على الوجه المشروع, وإلى الخلق في الأقوال والأفعال, ويأمر بإعطاء ذوي القرابة ما به صلتهم وبرُّهم, وينهى عن كل ما قَبُحَ قولا أو عملا وعما ينكره الشرع ولا يرضاه من الكفر والمعاصي, وعن ظلم الناس والتعدي عليهم, والله -بهذا الأمر وهذا النهي- يَعِظكم ويذكِّركم العواقب; لكي تتذكروا أوامر الله وتنتفعوا بها .
ويقول الخالق عز جلاله : { إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ الزمر7 ] .
إن تكفروا- أيها الناس- بربكم ولم تؤمنوا به, ولم تتبعوا رسله, فإنه غنيٌّ عنكم, ليس بحاجة إليكم, وأنتم الفقراء إليه, ولا يرضى لعباده الكفر, ولا يأمرهم به, وإنما يرضى لهم شكر نعمه عليهم. ولا تحمل نفس إثم نفس أخرى, ثم إلى ربكم مصيركم, فيخبركم بعملكم, ويحاسبكم عليه. إنه عليم بأسرار النفوس وما تخفي الصدور .
مما سبق يتضح لنا أن معنى الآية التي في سورة الإسراء أن الله جل وعلا إذا أراد أن يهلك أهل قرية لظلمهم ومعاصيهم وتماديهم في الغي والطغيان ، والفسوق والعصيان ، قال : أَمَرْنا مترفيهم ورؤسائهم بطاعة الله وتوحيده وتصديق رسله، وغيرهم تبع لهم، فعصَوا أمر ربهم وكذَّبوا رسله، فحقَّ عليهم القول بالعذاب الذي لا مردَّ له، فاستأصلناهم بالهلاك التام .
فليحذر الرؤساء وولاة الأمر وأهل الحل والعقد ومن تسنموا أمور الدول والشعوب ، ليحذروا من عاقبة تغيير شرع الله تعالى ، وتغيير شرع رسوله صلى الله عليه وسلم ، فعاقبة ذلك وبيلة ، وخسارته ثقيلة ، ووباله عظيم ، وخطره جسيم ، فها نحن نرى اليوم كيف أن الأمور انقلبت رأساً على عقب في بعض الدول العربية والإسلامية جراء تحكيم القوانين الوضعية ، واستبدالها عوضاً عن القوانين الربانية الإلهية ، إن مخالفة شرع الله المطهر ، ومخالفة أوامره ونواهيه ، آذان بعذاب وهلاك شامل ، للقرى والبلاد ، فليس بين الناس وبين ربهم نسب ، إنما هو الإيمان والتقوى والإخلاص والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذه الآية رسالة إنذار للرؤساء والأمراء والملوك عامة ، وللآباء خاصة ، لأنهم ولايتهم خاصة في بيوتهم ، فليحذروا من مخالفة أوامر الله تعالى ، وأوامر رسوله عليه الصلاة والسلام ، فالأمانة شأنها عظيم ، لم تستطع حملها السموات والأرض والجبال على عظم خلقها وقوة تحملها ، ولكن حملها الإنسان الضعيف لجهله وظلمه ، فعلى كل مسؤول أن يقوم بواجبه تجاه مسؤولياته حتى لا يهلك مع الهالكين ، بل ربما نجت دول وشعوب وقرى بسبب توبتها ورجوعها عن غيها ، كما حصل لقوم يونس عليه السلام ، عندما خرج غاضباً بعد دعوتهم إلى الله ولم يذعنوا له ، فلما خرج وعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام ، فلما عرفوا صدقه ووقع العذاب بهم ، قال تعالى موضحاً حكايتهم ومبيناً شأنهم ونهايتهم : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس98 ] .
لم ينفع الإيمان أهل قرية آمنوا عند معاينة العذاب إلا أهل قرية يونس بن مَتَّى, فإنهم لـمَّا أيقنوا أن العذاب نازل بهم تابوا إلى الله تعالى توبة نصوحا, فلمَّا تبيَّن منهم الصدق في توبتهم كشف الله عنهم عذاب الخزي بعد أن اقترب منهم, وتركهم في الدنيا يستمتعون إلى وقت إنهاء آجالهم .
فالله الله بالإيمان الصادق والعودة إلى الله قبل أن يحل الأجل ، ولا يقبل العمل .
وبحمده بدأنا ، وبه انتهينا ، وصلى الله وسلم على من به اهتدينا .
 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك


 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية