اطبع هذه الصفحة


الشِّحَاذَةُ

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله العزيز الرحيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغني الحليم ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . وبعد :
التسول والشحاذة أصبحت ظاهرة ومشكلة تواجهها الجهات الأمنية والدينية لما تجره من فساد في الأرض ، وإيذاء للناس في المساجد والأسواق وعند الإشارات وغيرها ، لأجل أكل أموال الناس بالباطل .
وأذكِّر كل من تسول له نفسه بسؤال الناس دون الله عز وجل أن فعله هذا حرام لاسيما إذا سأل الناس وتسول في المساجد ، فالمساجد لم تُبن لهذا الغرض الدنيء ، وإنما بُنيت لعبادة الله عز وجل ، وقد وجه النبي الكريم الأمة إلى أمر ربما غفل عنه الكثيرون وهو منع البيع والشراء في المساجد وكذلك منع نُشدان الضالة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ _ يشتري _ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا : لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا : لاَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ " [ رواه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ] ، فمن ضاع له شيء فلا يجوز له أن يسأل المصلين عنه داخل المسجد ، بل يسأل عنه خارج المسجد ، وهما أمران مهمان _ أقصد البيع والشراء وفقدان الضالة _ فالبيع والشراء مباحان ، والبحث عن المفقود أمر مهم لصاحبه ، لكنها حُرِّمت داخل المساجد ، لأن المساجد بنيت للصلاة والذكر ، ولم تبن للتسول والشحاذة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ : لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا " [ رواه مسلم ] .
فإذا كان من ينشد ضالته ، ويطلب من يعرف مفقوده ، حرام في المساجد ، فكيف بمن يشحذ الناس أموالهم ، ويسألهم أشياءهم بغير وجه حق ، لهو أجدر وأحرى أن يكون حراماً ، وأن يتناوله الناس بكلامهم وتوجيههم له ، ويقولوا له : لا أربح الله تجارتك ، بل وما يكسبه فهو حرام جمر يأكله في جوفه ، ونار يتلظى بها ، وياليت شعري لو أن الناس فقهوا ذلك ، لسلمنا من شر الشحاذين والمتسولين ، ولقضينا على ظاهرة مؤرقة مزمنة ، أو على أقل تقدير نخفف منها ، ونجفف شيئاً من منابعها .
وتأملوا خطاب الله لكم معاشر المسلمين في بيان من هو الفقير والمسكين الذي يجب علينا البحث عنه وتفقده والتصدق عليه ، إنه الفقير العفيف النظيف الذي لا يسأل أحداً مع فاقته وحاجته ، لكنه يستحيي أن يطلب أحداً مع شدة عوزه ومسكنته قال الله تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة 273 ] .
وقوله تعالى : { لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْض } يعني : سفرًا للتسبب في طلب المعاش ، والضرب في الأرض : هو السفر ؛ قال الله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } [ النساء : 101 ] ، وقوله سبحانه : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } أي : الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء ، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم ، وجاء في هذا المعنى الحديث المتفق على صحته من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ " ، قَالُوا : فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ ، عَلَيْهِ وَلاَ يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئاً " [ رواه البخاري ومسلم ] .
ألا فليستح أولئك الشحاذون والمتسولون ولا يسألون الناس شيئاً وهم في غنى عما في أيدي الناس ، وإنما يسألون تكثراً وزيادة وهذا حال الأغلب الأعم ، والسواد الأعظم منهم ، وبعضهم لديه من الأموال في البنوك والعقارات ما يكفيه وأهله مدى عمره ، فأين الخوف من الله عز وجل ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّراً ، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْراً ، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ " [ رواه مسلم ] .
وقال النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ " [ رواه مسلم ] .
أيها المتسول اتق الله العظيم في نفسك وفي أهلك وفي مالك ، لا تأكل إلا حلالاً ولو قل ، وإياك والحرام وإن كثر ، فهو طريق إلى نار جهنم ، تعفف يعفك الله ، واصبر يصبرك الله ، واقنع بما رزقك الله ، فهو أعلم بحالك منك ، وهو أرحم بك من نفسك ، ولا تسخط على ربك ، وتعترض على قضائه وقدره ، فهو خير لك وأنت لا تعلم ، وابحث عن عمل يليق بك ، ولا تنظر إلى من هو فوقك غنى وجاهاً ، حتى لا تزدري نعمة الله عليك ، كُل حلالاً ، وعِش كفافاً ، فهكذا كان نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، كان يتلوى من الجوع ، يربط بطنه بالحجر من شدة الجوع ، مات ولم يشبع من خبز البر صلوات ربي وسلامه عليه ، اقنع بما أعطاك الله ولو كان قليلاً فالقناعة كنز لا يفنى ، العمل متوفر فابحث وستجد ما يسد جوعك وحاجتك وعوزك ، والله من وراء القصد .
 

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك


 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية