اطبع هذه الصفحة


المترفون والمطر

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين . . وبعد :
البلاد والعباد والبهائم تعيش حالة الحاجة إلى المطر والرحمة من الرحيم الغفور ، والمسلمون يصلون صلاة الاستسقاء ، صلاة خلف صلاة ، ولا أثر لرحمة الله ، فلماذا هذا يا عباد الله ؟
سؤال يسأله كل أحد من المسلمين ، أيعقل ألا يكون في أولئك الناس رجل مستجاب الدعوة ؟ أم أن هناك خلل في التزام الناس وتمسكهم ؟
الواقع يدل على أن هناك خلل طغى على حده ، وخرق اتسع على الراقع ، يحتاج الناس معه إلى عودة صادقة إلى دين الله تعالى ، فما مُنع الناس المطر إلا لأجل كثرة المعاصي ، وتوالي الذنوب ، وتراكم الآثام ، ووجود الران على قلوب الكثير من المسلمين والمسلمات ، فأصبحوا لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً إلا ما أُشرب من هواهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فضاقت بهم الأرض بما رحبت ، حتى أضحوا يدعون فلا يستجاب لهم ، وهذا مصداق لقول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ " [ رواه الترمذي وغيره وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ] .
إن الدعوات قائمة على قدم وساق من قبل العلمانيين والليبراليين والمنافقين أذناب الكفار ، يدعون لفصل رأس جهاز الحسبة واقتلاعه من جذوره من بلاد الحرمين الشريفين ، من بلاد التوحيد والعقيدة الصافية ، بلاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الدعوات قائمة وهائمة وعائمة وهادمة لهذا الجهاز الذي أمر الله به في كتابه العزيز ، بل جعلنا خير أمة أخرجت للناس لأننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، فأي دعي زنيم مأفون هذا الذي يناقض أمر الله ، ويتعدى حدوده ، ويريد تعطيل شعيرة من أعظم شعائر الدين ، بل هي صمام الأمان للأمة في مدلهمات الأمور والدروب ، وشدائد الفتن والخطوب ، قال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [ آل عمران110 ] .
إن هؤلاء الذين يدعون إلى قتل هذا الجهاز ، واغتيال هذه الشعيرة ، لهم منافقو الأمة ، وشذاذها وفساقها ومترفوها ، فهؤلاء الناس هم سبب منع المطر أن ينزل على البلاد والعباد والبهائم والأشجار ، لقد أفسدوا في الأمة فساداً ظاهراً وباطناً ، ولم يعد فسادهم وخطرهم وضررهم وشرهم يخفى على أحد من الناس ، بسبب هذه الشرذمة أمسكت السماء مطرها ، وأجدبت الأرض ومنعت بركتها ، ألا تأملوا قول ربكم تعالى حيث يقول : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ الإسراء16 ] .
إذا الله إهلاك أهل قرية لظلمهم ، أَمَرْنا مترفيهم بطاعة الله وتوحيده وتصديق رسله ، وغيرهم تبع لهم ، فعصَوا أمر ربهم وكذَّبوا رسله ، وحادوا عن طريق الصواب ، واقتحموا طريق الضلال والنكال والنار ، فحقَّ عليهم القول بالعذاب الذي لا مردَّ له ، فاستأصلناهم بالهلاك التام ، فإذا حصل التدمير ، منع الخير ، وها نحن نرى اليوم أن الكثير من الناس يستمعون ويذعنون لأوامر كبرائهم ومنعميهم ورؤسائهم في تعدي حدود الله عز وجل ، وارتكاب نواهيه ، فهم تبع لهم ، ويحيق بهم من مكر الله ما يحيق بمن يأمرونهم بالمعاصي والذنوب ، وليس الله بظلام للعبيد ، وقال الله تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [ الزخرف76 ] .
فالمطر مرتبط بالمترفين في كثير من الأحوال .
ثم إننا اليوم نرى صراعاً على خطب الاستسقاء من قبل جهلة الناس وكأن المطر إذا نزل بعد خطبته أنه سبب في ذلك ، وهذا من أعظم الجهل ، وليس هذا دأب السلف الصالح ، فقد كانوا رحمهم الله يتدافعون الفتوى فيما بينهم ، كل يريد أن يكفيه صاحبه ، وكل يريد أن يخطب أخوه ، وكان أحدهم يرطب شفتيه حتى لا يُرى أثر الصيام عليه ، وبعضهم يكتحل حتى لا يُرى أثر البكاء على عينيه ، فأين خلفنا عن سلفنا ؟
أيها الأخوة في الله . . إذا أردنا أن نرزق المطر فعلينا بالضعفاء ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : " هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ " [ رواه البخاري ] .
والضعفاء هم : الأطفال والنساء والفقراء والمساكين ، فلو خطب بالناس فقير أو مسكين أو طفل مميز ، لسوف يخطب عن حاجة ، وربما سالت دموعه طلباً لرحمة الله لما يعانيه من حاجة وفقر وعوز ، يطلب الله تعالى بإخلاص وصدق نية ، أما غيره ممن أنعم الله عليه فلا تجد إلا شفتيه تتحركان والقلب لاهٍ غافل ساهٍ في أودية الدنيا أعاذنا الله منها ، ولا أُعمم _ حاشا وكلا _ فنسأل الله أن يستعملنا في طاعته ، ويجنبنا معصيته ، وأسباب سخطه ، وأن ينشر علينا رحمته إنه هو الولي الحميد .
سباق محموم إلى المعاصي بأنواعها ، والمخالفات بألوانها ، والمنكرات بدرجاتها ، وقع فيها الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، حتى ضاقت نفوس الناس ذرعاً بما كسبت أيديهم ، ويطلبون المهرب والمخرج والملجأ منها ، وما علموا أن الحل والمخرج هو اتباع الكتاب والسنة ، ومع ذلك فلو أخذ الله الناس بما كسبوا ، ولو عاجلهم بالعقوبة بما اقترفوا بقي على وجه الأرض من أحد ، ولكن اقرأ قول الله بتدبر وتأمل وتعقل حيث يقول سبحانه وتعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ النحل 61 ] .
ويقول سبحانه : { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } [ الكهف 58 ] .
ويقول سبحانه : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } [ فاطر45 ] .
تغيرت الطقوس ، واختلف المناخ ، والناس يصلون الاستسقاء ويدعون ولا مجيب لهم ، اكفهر وجه الأرض ، يطلب الناس المطر ولا يجدون إلا برداً شديداً ، وحراً مزيداً ، غبار وأتربة ، وأجواء غير ملائمة ، بسبب النساء الكاسيات العاريات ، بسبب تشبه الشباب والشابات بالكفار والمجرمين ، كبراء القوم يستوردون المحرم ، لعرضه في الأسواق ، والسفهاء من كل حدب وصوب يقبلون على المعصية ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ، المترفون يعرضون الفساد عبر القنوات ، ولا تكاد ترى قناة خاصة بدولة أو حكومة إلا وهي أفسد من أُختها ، وأفسق من قرينتها ، يعرض فيها كل ما يخدش الحياء ، ويمرض القلب ويقسيه ، ويقتل الغيرة ، ويغتال البراءة والفضيلة ، وينشر الرذيلة ، بل كل ما يسب الدين وينتقص أهله ، ويسيء إلى رموزه ، كل ذلك عبر قنوات المسلمين ، وليست قنوات الكفار ، وإذا أردت أن تعُدَّ تلك القنوات فسوف تخطئ العدد لكثرتها وكثرة فسادها ، فأي رحمة من الله يرجون ؟ وهم يبارزونه بالمعاصي ليلاً ونهاراً ، خُفية وجهاراً ، المعاصي أهلكت الحاضر والباد ، وأكلت الأخضر واليابس في البلاد ، قال الله تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } [ الأحزاب 66-68 ] .
هؤلاء هم المترفون ، وهذا هو نتيجة عملهم وعمل من يتبعهم ، إمساك للخيرات ، ومنع للأمطار ، بل وكثرة المشاكل والأخطار ، لعل الناس أن يعودوا إلى دينهم ، وصدق الله إذ يقول : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الروم41 ] .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ : خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الِّذِينَ مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ " [ رواه ابن ماجة وهو حديث حسن ] .
وما أصدق هذا الحديث على واقعنا اليوم ، فقد اعتدى على أراضي المسلمين وديارهم وأموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم وخيراتهم الكفار من يهود ونصارى ورافضة وغيرهم ، فهل من توبة قبل الموت ؟ هل من عودة صادقة لدين الله ، الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين ، هل هناك رجوع حقيقي لدين الله ، بترك المعاصي والدعوة لها ، واللجوء إلى الله عز وجل والدعوة إلى دينه ، ومحاربة البدع والمنكرات والمخالفات الشرعية ، فالله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، يقول الله تعالى : { مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً } [ النساء147 ] ، لدي الكثير والكثير ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ، والله من وراء القصد وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل .


 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية