اطبع هذه الصفحة


الذنوب الخفية

يحيى بن موسى الزهراني

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . . وبعد :
مراتب الدين ثلاثة : الإسلام والإيمان والإحسان ، والحديث عن الإحسان ، وهو المراقبة لله تعالى ، والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
وكم سقط الناس ورسبوا في هذه المرتبة العظيمة من مراتب الدين .
قال ابن رجب رحمه الله : " وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس " .
وقال أحدهم : " كم من معصية في الخفاء منعني منها قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن46 ] .
إن الحسرة كل الحسرة ، والمصيبة كل المصيبة ، أن تجدك راحتك حينما تعصي الله تعالى ، وقد حرم عليك المعصية وتوعد عليها بالعذاب ، قال سبحانه : { وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء 14 ] ، وقال عز وجل : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً } [ الأحزاب 36 ] .
ذنوب الخلوات خطيرة ، فربما مات العبد وختم له بخاتمة سيئة بسبب خلوته بمحارم الله ، واستيلاء الشيطان عليه وانتهاكها ، ولو كان بين الناس ومعهم لاستحيا منهم ، فالله أحق أن يستحيا منه ، قال الله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } [ النساء108 ] ، يا عبد الله . . لا تجعل الله أهون الناظرين إليك ، بل راقبه تعالى في السر والعلن ، في الظهور والخفاء ، فهو معك أينما كنت ، ألم تقرأ قوله سبحانه : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الحديد4 ] .
وكم خشي العلماء والحكماء والفضلاء والعقلاء من ذنوب الخلوات ، بل ربما فعل العبد ذنباً في خلوة ونسي الله وهو مسجل في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ، ثم عرضت عليك أعمالك فإذا فيها ذنوب نسيتها ، ولكنها مسطرة في صحيفة أعمالك ، فإذا نسيت فإن الله لا ينسى ، قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر47 ] .
ذنوب الخلوات من أسبابها خلوة الإنسان بنفسه بغير تقوى ولا خوف من الله عز وجل ، فينظر ويشاهد ما حرم الله من شاشات متلفزة أو إنترنت أو غير ذلك ، أو ربما فعل فعلاً لا يرضاه الله بل يأباه ، مما يجري عليه وباله عاجلاً وآجلاً ، ولقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من الخلوة والوحدة ، عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ " [ رواه أحمد وأبو داود والنسائي وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 5701 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد " [ رواه أحمد وفيه ضعف أما معناه فصحيح لا غبار عليه ] .
وعن ابْن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ صلى الله عليه وسلم : " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مِنَ الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ " [ رواه البخاري ] .
فاحذر أيها المسلم من عواقب ذنوب الخلوات فهي مهلكة ، ومؤذنة بنهاية مؤلمة ، وخاتمة سيئة ، تذهب الحسنات ، وتأتي بالسيئات .
عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : " لأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِى يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً " ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ؟ قَالَ : " أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا " [ رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5028 ] .

ومن وقع في ذنوب الخلوات فليتب إلى الله رب البريات ، فهو قابل التائبين ، والعافي عن المذنبين ، عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " قَالَ اللَّهُ : يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ : لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ _ السحاب _ السَّمَاءِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ : إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ _ ما يقاب ملأها _ الأَرْضِ خَطَايَا ، ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً " [ رواه الترمذي وأحمد ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 4338 ] .
قال الشافعي رحمه الله :

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل --- خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة --- ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
غفلنا العمر والله حتى تداركت --- علينا ذنوب بعدهن ذنوب
فيا ليت إن الله يغفر ما مضى --- ويأذن في توباتنا فنتوب


فيا عبد الله . . ويا أمة الله . . كونوا على حذر من ذنوبكم ولا تستصغروا شيئاً منها ، فربما يصبح الصغير كبيراً ، ولا تستطيع أن تنفك عنه ، فتبوء بالخسارة في الدارين ، بل راقب الله تعالى في كل أحوالك ، واعلم أنه معك بعلمه مطلع عليك في كل شؤونك ، فاستحيوا من الله حق الحياء ، واحذروا سطوته وغضبه ، فهو سبحانه رحيم ، غفور ، تواب ، كريم ، فلا تغضبوه سبحانه بارتكاب ما حرم عليكم .



 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية