اطبع هذه الصفحة


الغضب المصبوب

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين ، وقابل التائبين ، وناصر المستضعفين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين ، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، وعلى آله وصحبه الغر الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . . وبعد :
لقد خلق الله العباد لعبادته سبحانه ، فقال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ( الذاريات 56 ) ، ولقد كرم الله الإنسان ورفع مكانته وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً ، وميزه بالعقل الذي يفرق به بين الحق والباطل ، والخير والشر ، ثم أعلى منزلته وأعزه وأكرمه ووهب له جميع النعم ولذلك حرم ماله ودمه وعرضه فمن استحل ذلك فقد أتى كبيرة وأمراً حراماً ، فالمؤمنون كالجسد الواحد إذا مرض منه عضو سهرت له جميع الأعضاء ، فهم رحماء بينهم أشداء على أعدائهم مجتمعهم مجتمع الرحمة والرأفة والود والعطف والشفقة .
ثم أنزل الكتب ، وأرسل الرسل ، ليبين للناس الحلال والحرام ، ليكونوا على بصيرة من ذلك ، فيفعلوا الحلال ، ويجتنبوا الحرام .
ولكن ومع مغريات الحياة الزائفة وكثرتها واندماج أهلها بها ، وتقبلهم لانفتاحيتها الكاذبة وبهرجتها الزائفة ، وتقبل الناس لها وانسياقهم وراء الغزو الفكري والعقدي المباشر وغير المباشر الموجه من قبل أعداء الإسلام مع ذلك كله انغر كثير من المسلمين بتلك الدعايات والشعارات الزائفة حتى استبدلوا الطيب بالخبيث والخير بالشر والحق بالباطل والمعروف بالمنكر والرحمة بالقسوة والرأفة بالسطوة ، فكانوا خير المعين ونعم النصير لأعدائهم ليبثوا بينهم سمومهم وينشروا شرهم ، فعملت الأطباق الفضائية ( الدشوش ) عملتها وفعلت المجلات الساقطة فعلتها ، ودمر الإنترنت كثيراً مما بقي من الخير في مجتمعات المسلمين والتي خطط لها الأعداء فاصبح جُل المسلمين معاول هدم وأدوات دفن للعقيدة والدين من النفوس فعمت البلوى وانتشرت اللأوى فضاقت الصدور وذهلت العقول واندثرت القيم والأخلاق وعميت القلوب والأبصار فكان من نتائج ذلك أن حصل التشبه المقصود وغير المقصود بالكفرة والملحدين والأعداء الحاقدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) [ متفق عليه ] . والسؤال الذي يطرح نفسه ، ماذا يُعرض في تلك القنوات ؟

إن جُل ما يعرض فيها دعاة مغرضون يغرون الشباب بعلم عقيم ، وفتاوىً فاسدة لا تمت للدين بصلة ، أو دعوة لهتك الأعراض والقيم وتدمير للأخلاق وخرم للمروءة وقتل للحياء والعفة وعرض لاضطهاد الضعفاء والمساكين والفقراء والمنكسرين وإثارة للشهوة والرغبة ودعوة للاختلاط والتبرج والسفور وفيها ما يدعوا بل ويوجب على الناس حراماً نزع الحجاب ، فإلى الله المشتكى وإليه الملتجا فأصبح المسلمون أو بعضهم يستقون ويرتضعون عادات الغرب الفاضحة ويتقمصون تقاليدهم الماجنة الساقطة ، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ، بل لقد تخبط الكثير منهم في ظلمات الجهل والعصيان ، ووقعوا في دياجير الظلم والأثام ، وقبعوا تحت وطأة الإباحية الكاذبة ، والحرية الزائفة ، ونسوا أنهم عبيد لله تعالى ، { إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } ( مريم 93 ) ، فأين الحرية التي يريدها ويدعيها أعداء الدين والتي سار وراءها المجرمين ، وصدقها العاصين ، وهم عبيد لرب العالمين ، هل الحرية بأكل الربا ؟ أم بفعل الزنا ؟ أم بتعاطي المخدرات والمسكرات ؟ أم بالنظر المحرم إلى العاهرات الفاتنات ؟ لقد زاغت أبصارهم وتاهت عقولهم فهم يتخبطون في لجج المعاصي والأثام ، وزلة بهم عن طريق النجاة الأقدام ، فإن أرادوا النجاة من العذاب والفوز بالجنات فعليهم أن يراجعوا دينهم ويحكموا كتابهم وسنة نبيهم .

والسؤال الذي يطرح نفسه ، ماذا جنى المسلمون من تلك الفضائيات المدمرة أو الإنترنت قاتل الحياء والعفة ؟
والجواب كلها سم بين الأفلام مدسوس ، فهاهم الشباب ما بين تفحيط وتنطيط ، وسماع للغناء وارتكاب للحرام حتى أصابهم الذهول من هول ما هم فيه من التخبط والضياع ، بسبب تقليد الرعاع ، ووقعت المصيبة العظمى والطامة الكبرى بتعاطي الربا واستباحة الزنا ، وأشد من ذلك وأنكى عقوق الوالدين ، وفعل الفواحش بالمحارم ، فبالله من المسؤول ؟ وإن مما أذهل الأعداء وأفرحهم سرعة انتشار الدخان والمخدرات وغيرها من المغريات ، والملهيات ، فعلموا أن أكثر المسلمين يغطون في نوم عميق بل ويُسمع شخيرهم من مكان سحيق ، انهمكوا في ظلمات المعاصي حتى اسودت الوجوه والأبدان ، جراء ما اكتسبته اليدان والقدمان .

فيا ترى متى سنصحو من غفلتنا ؟ ومتى نفيق من نومنا ؟
أم هل سنبقى قابعين تحت سيطرة اليهود والنصارى الحاقدين ؟
فإلى من نشكو حالنا ؟ وقلة حيلتنا ؟ وهواننا وضعفنا ؟
لا شك أن ربنا سيفرح بتوبتنا وإنابتنا وعودتنا إلى ديننا ، فهيا بنا نرفع أكف الضراعة إلى ربنا سبحانه وتعالى سائلين الحياة لقلوبنا بعد مماتها والصحوة لعقولنا بعد سباتها ، فهو ربنا وخالقنا وفارج همنا ، وكاشف كربتنا ، يقول تعالى : (( ففروا إلى الله )) [ الذاريات 50 ] ويقول تعالى : (( وإني لغفار لمن تاب وأمن وعمل صالحاً ثم اهتدى )) [ طه 82 ] .
فلنتكاتف ولنتعاون ولنضع أيدينا في أيدي بعضنا ونجمع كلمتنا على الحق والدين ونلم شعثنا ونوحد صفوفنا ثم لنري ربنا منا صدق النية وقوة العزيمة رغبة في النعيم المقيم وخوفاً من الحميم والجحيم .

فوالله لا نجاة لنا ولا عز لنا ولا مجد لنا ولا نصر لنا إلا بتمسكنا بديننا دين الإسلام واجتماعنا حول سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال : (( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله )) [ رواه مسلم ] . وقال عليه والصلاة والسلام : [ تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ] ( رواه بن ماجة والطبراني في الكبير ) ، فهذه وصية نبينا وقائدنا وإمامنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم بأن نتمسك بديننا وأن لا نتبع الأراء والأهواء فنقع فريسة تحت براثن اليهودية والنصرانية والعلمانية التي لن ترضى عنا حتى نفارق ديننا ونتبع دينهم قال تعالى : (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير )) [ البقرة 120 ] ، يقول بن جرير الطبري في تأويل الآية : [ وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا الله فإن الذي تدعوهم إليه هو الحق الذي لا مراء فيه ولا جدال واعلم أن اليهودية ضد النصرانية ، والنصرانية تخالف اليهودية ولن يجتمعان في شخص واحد أبداً . ولن يرضوا عنك إلا أن تكون يهودياً نصرانياً وذلك مما لا يكون أبداً لأنك شخص واحد ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة ، وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك سبيل ، لم يكن لك إلا إرضاء ربك فالزم هدى الله الذي لجميع الخلق دين صحيح قويم ، وإن اتبعت أهواءهم ومقاصدهم وغيهم وضلالهم ووافقتهم على باطلهم فمالك من ولي يلي أمرك ولا نصير ينصرك من الله فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته ] انتهى ملخصاً .

فعلينا معاشر المسلمين الوقوف صفاً واحداً ضد تلك التيارات الهدامة التي يبثها أعداؤنا ليلاً ونهاراً ، عياناً بياناً ، للقضاء على الفتيان والفتيات ، فكل واحد منا على ثغر وحصن فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك فتكون عالة وعاراً على دينك ووطنك فكل منا مسؤول والخير منه مأمول فكن آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر محذراً من مغبة اتباع الساقطين والسافلين من أعداء الدين والمؤيدين لهم والناصرين ، في بيتك ومقر عملك في الصحف والمجلات والفضائيات والقنوات وعبر الرسائل والكتب والمكتبات .
فيارب الأسرة كن حذراً من مخططات الأعداء وحافظ على أسرتك أن تتقاذفهم الأهواء فكن صادقاً مع الله مخلصاً لله مخبتاً إلى الله ، أخرج تلك الوسائل المدمرة من بيتك فأنت المسؤول أمام الله الواحد القهار فاحذر أن يصيبك من أعدائك العيار فيحل بك الخزي والعار ، يقول صلى الله عليه وسلم : (( كلكم راع ومسؤول عن رعيته ، فالأب راع ومسؤول عن رعيته )) [ متفق عليه ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ] ( متفق عليه ) ، فإذا أردت الجنة فأحسن التربية والتنشئة حتى تحصد ثمار ذلك خيراً وفيراً وأبناءً بارين قبل أن يتعلقوا بعنقك يوم القيامة فيقولون يا رب خذ بحقنا من أبينا فقد أدخل علينا ما يفسد علينا إيماننا ويجردنا من مروءتنا ويخل بديننا ، أدخل علينا ما يجلب الشيطان ويطرد الملائكة الكرام ويغضب الرحمن ، فسيطول بك القيام يوم لا ينفع فيه الندم ولا الكلام ، فاعقد العزم على إخراج ( الدشوش ) والإنترنت والمجلات الخليعة والأشرطة الغنائية التي هي للوقت مضيعة وللشيطان تسلية .

وأنت يا صاحب المال كن خير معين لأبناء وطنك بتبرعك السخي لكل ما من شأنه تبصير الناس بأمور دينهم وردهم إلى ربهم وخالقهم ، فساهم يا رعاك الله في نشر الشريط الإسلامي والمطوية والكتاب الذي فيه دعوة للحق وإزهاق للباطل حتى يكون مالك شاهداً لك وقائداً إلى الجنات واعلم أنك محاسب على كل هللة من مالك من أين اكتسبتها وفيما أنفقتها وسيطول بك المقام عند ذو الجلال والإكرام ، فأعد للسؤال جواباً وللجواب صواباً ؟

وأنت أيها المسؤول كن خير مرشد وناصح لمن هو تحت ولايتك ورئاستك حتى تبرئ ذمتك يوم توضع في قبرك ويوم مبعثك ومحشرك ولقائك بخالقك فأحسن النية والقصد وكن الناصح الأمين لمن معك من المسلمين ضد الخطر الدفين الذي يكنه أعداء الدين ، فحذر منهم من هم تحت مسؤوليتك من الفضائيات المسمومة والغزوات الفكرية المذمومة ، فلك بذلك جزيل الشكر والعرفان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان .
واتق الله يا من ولاك الله ولاية القيام على الإعلام احذر أن يؤتى الإسلام من قبلك فتحل بك الدعوات من أهل الخير والكرامات ، ومن الآباء والأمهات ، فأنت على ثغر عظيم من ثغور المسلمين ، وحارس أمين على حصن وسد منيع من سدود المؤمنين ، فكن نعم الأخ الناصح ونعم الأمين الكريم ، ولا يُعرض في قنواتنا ولا ينشر في صحفنا وفي جميع وسائل إعلامنا إلا كل ما يدعوا الناس إلى الدين القويم ، فنسأل الله أن يهيئ على يديك الخير العميم ، الذي يُهتدي به إلى الصراط المستقيم ، فتنالك الدعوات الصالحات وترفع لك الدرجات وتزاد لك الحسنات عند رب الأرض والسموات ، فكن يا رعاك الله أداة بناء ومفتاح خير للشباب والشابات واعرض لهم ما يزيدهم عند ربهم من القربات فيوفقون لمزيد الطاعات ، ووالله لو صلحت وسائل الإعلام في بلاد الإسلام لصلح بإذن الله الملايين ، من الرجال والنساء والبنات والبنين ، فاجعلوا من تلك القنوات وسائل إصلاح وتوجيه وإرشاد وتبصير ، تفوزوا برضى العلي القدير .

وأختم هذا الموضوع بقصة واقعية حقيقية لا دخل فيها للخيال ، تدل على الخاتمة السيئة لمن كان عاكفاً على القنوات ويقلبها يمنة ويسرة ، تقول إحدى مغسلات الموتى : غسلنا إحدى الفتيات وكان الملفت للنظر أن إبهامها كان يتحرك حركة غريبة تشبه حركة الضغط على الريموت كنترول ( جهاز التحكم عن بعد ) المستخدم لتحريك القنوات الفضائية ، لأنها كانت تعكف عليها ليل نهار ، فكانت الخاتمة كما قرأت أيها القارئ العزيز ، خاتمة سيئة وعاقبة وخيمة ، والجزاء من جنس العمل ، وما ربك بظلام للعبيد ، نسأل الله أن يحفظنا وجميع المسلمين من الفتن والبلايا ، والمحن والرزايا .
وفي تلك القصة عبرة للمعتبرين ، فاحذروا من عواقب الذنوب والمعاصي ، واعلموا أن الله يمهل ولا يهمل ، فالفطن من اعتبر بغيره ، والشقي من اعتبر به غيره .

اللهم طهر بلادنا من كل فاحشة ورذيلة ، الهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعامة بلاد المسلمين ، اللهم اهد شباب المسلمين وخذ بأيديهم للحق والدين ، وجنبهم تقليد أهل الكفر والفجور ، اللهم وفق نساء المسلمين للحجاب والحشمة والحياء ، وأبعدهن عن تقليد نساء الكفرة والفجور ، وجنبهن التبرج والسفور ، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه ، إنك سبحانك ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية