اطبع هذه الصفحة


ظلاً ظليلاً

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولي الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله النبي الأمين ، صلى الله عليه وسلم آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . . أما بعد :
فيقول المولى سبحانه وتعالى : " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون " [ البقرة ] ، ويقول سبحانه : " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً " [ المزمل ] ، وقال سبحانه : " إن تبدوا الصدقات فنعمى هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " [ البقرة ] ، وقال تعالى : " وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " [ البقرة ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ما نقصت صدقة من مال " [ أخرجه مسلم ] ، من هذا التشريع الإلهي النبوي ، أحث إخواني المسلمين على تفقد أحوال إخوانهم المسلمين ، وتلمس حاجاتهم ، فالمسلم أخو المسلم ، وكم من صدقة أحصنت فرج أرملة من أجل الحصول على وجبة لأيتامها ، وكم من صدقة حفظت ماء وجه أب فقير عن مد يد السؤال ، وهذه قصة من واقع الحال ، وليست من نسج الخيال ، فقد كان هناك أسرة فقراء أيتام ، تعولهم أم فقيرة الحال ، وكانت تأتيها الزكاة والصدقة كل شهر ، وفي شهر من الأشهر تأخر الوارد الشهري عن موعده المحدد ، فصبرت لعل الله أن يأتي بالفرج من عنده ، فلما تأخرت الصدقة تجملت المرأة ولبست أحسن ثيابها ، وتعطرت وتأهبت للخروج ، وقبل خروجها بثوان معدودة ، وإذا بالباب يطرق ، واستغرب الأخوة من رائحة العطر الجذابة الأخاذة ، المنبعثة من داخل ذلك المنزل المتهالك الفقير ، وعندما طرقوا الباب خرجت المرأة بكامل زينتها ، فأعطوها الصدقة وتأسفوا لها عن التأخير ، وسألها أحدهم عن رائحة العطر ، فقالت وهي تبكي بكاءً مريراً : لقد كنت ذاهبة لأبيع عرضي وأطعم صغاري .
ومن كان لديه مال ويبخل به عن إخوانه ، ويعلم أن إحدى المسلمات قد تبيع عرضها ، ويتركها تفعل ذلك ، فقد حق عليه قول الله جل وعلا : " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون " [ النور ] .

فيا أيها الناس اتقوا الله في إخوانكم الفقراء والمحتاجين ، فهم بأمس الحاجة لكم ، مدوا لهم يد العون ، وحصنوا فروجهم ، واحفظوا أهليهم من الضياع ، ارعوا حق عائلهم ، فمنهم المتعفف الذي لا يبوح لأحد بمسكنته وحاجته ، ومنهم من لا تعرف فقره وخلته لأنك إذا رأيته فربما حسبته من الأغنياء من التعفف ، قال تعالى : " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم " [ البقرة ] .

علينا معاشر المسلمين أن نسعى جاهدين لمعرفة المحتاجين والمعوزين لنسد حاجاتهم ، ونعطيهم من مال الله الذي آتانا ، فالله تفضل علينا من فضله العظيم ، وجاد علينا من بحر جوده العميم ، فيجب علينا أن نُري الله من أنفسنا خيراً ، ونعلم أن هذه الأموال والنعم التي بأيدنا إن لم نؤد حقها فستكون وبالاً وعذاباً نصلاه يوم القيامة ، فالله استخلفنا على هذه الأموال لينظر وهو أعلم بنا ماذا سنعمل بها ، هل سنصرفها فيما يقربنا إلى زلفى ، أم سيكون مصيرها الترف والبذح والشح والبخل ، نسأل الله العفو والعافية .
قال تعالى : " وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى " [ الليل 8-11 ] .
وقال تعالى : " هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء " [ محمد38 ] .

يا أخي المسلم ، ويا أختي المسلمة ، يجب على كل منا أن يقدم لنفسه ما يتقي به عذاب القبر وعذاب الآخرة ، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ، واعلموا أن كل ريال يُقدم للفقراء فهو الباقي عند الله تعالى ، وما أكلنا وشربنا ولبسنا وأبلينا فهو الذي أفنينا ، الذي ذهب بلا فائدة تُرجى ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول العبد : مالي ، مالي ، وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو أعطى ـ تصدق ـ فأبقى ، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس " [ أخرجه مسلم وغيره ] ، والله ما نقصت صدقة من مال ، بل تزده ، بل تزده ، بل تزده ، وأقسم على ذلك ، لأنه أمر حسمه الشارع الكريم ، بأن الله يخلف للمنفق ، اللهم أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً .

يذكر أحد الأخوة أنه كان يصلي في أحد المساجد في أواخر الشهر ، وبعد الصلاة قام رجل يسأل الناس ، فيقول : رق له قلبي ، وحزنت لأجله ، وشعرت أنه صادق في دعواه الفقر والحاجة ، فتصدق الناس عليه ، وكان في محفظتي كل مصروف البيت ، فبدأ الشيطان يثبط هممي ويكسلني ، وبدأت النفس الأمارة بالسوء تلومني ، كيف تنفق كل ما لديك من أجل الصدقة ، أولادك أولى ، أهلك أحق بذلك ، وبإمكاني أن أتصدق بكل ما في المحفظة ، ولو احتجت لاستدنت ثم سددت الدين حال تسلمي للراتب ، ولكن هذا دأب الشيطان ، وذلك طريق النفس الأمارة بالسوء ، فما كان مني إلا أن أدخلت يدي في جيبي وأخرجت كل ما في المحفظة من مال دون رؤيته ، ولم أدر كم عدده ، وأعطيته ذلك المسكين ، فارتاحت نفسي ، وهدأ قلبي ، وسكنت جوارحي ، واطمأننت طمأنينة غريبة ، ثم اتجهت إلى سيارتي منطلقاً إلى بيتي ، وأثناء سيري ، فتحت صندوق السيارة لأخذ شريط لأسمعه ، وفوجئت بوجود مبلغاً من المال أكثر بكثير مما دفعته لذلك المسكين ، فعرفت أن الله قد أخلف علي بما هو أفضل مما دفعت ، فالله سبحانه هو الغني ونحن الفقراء ، وخزائنه ملئ ، وتذكرت قول الله تعالى : " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين " [ سبأ 39 ] .

وذكرت إحدى الأخوات أنها تنفق من راتبها الشهري مبلغاً وقدره 1500 ريال ، تعطيه شهرياً لأسرة فقيرة ، وهم لا يعلمون من يعطيهم هذا المال كل شهر ، فتقول : أذهب أنا وزجي نهاية كل شهر إلى ذلك البيت ، وأضع المبلغ في ظرف وأدخله من تحت عقب الباب ، وتقول : الحمد لله رأيت بركة في مالي ومال زوجي ، فاشتريت أرضاً وبيتاً ، وبنيناً عمارة ولله الحمد ، وكل ذلك بفضل تلك الصدقة التي منَّ الله بها علينا ، وألهمنا ذلك الباب العظيم الذي نستطيع من خلاله مساعدة إخواننا الفقراء والمساكين ، وتزكية لأموالنا ولنفوسنا ، وتطهرينا لقلوبنا ، قال تعالى : " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاة سكن لهم والله سميع عليم " [ التوبة 103 ] .
ما أعظم الصدقة في سبيل الله ، وما أعظم مردودها ، وما أجمل نتاج ثمرتها ، ومن أراد أن يعرف ذلك فكيفيه ما ذكرت من أدلة وحوادث ، وهذه باقة أخرى أعطر بها الأسماع ، وأكحل بها الأعين عن فضل الصدقة :
قال تعالى : " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " [ البقرة ] .
الصدقة وإن كانت قليلة فهي عند الفقير تقع منه بمكان ، لأنه ربما لا يجد قوت يومه هو وأسرته ، فيفرح بالقليل وكأنه كثير ، ولأنه لا يطمع في التخمة ، بل يريد ما يسد به الرمق ، ويُسكت به صراخ أطفاله ، فكم من الآباء من يبقى طول يومه وليله يبحث عن عمل ، يكسب من ورائه لقمة حلالاً ، يطعمها أهله وولده ، ولا يمد للناس أعطوه أو منعوه ، وأقصد بذلك الفقير الذي قال الله فيه : " تحسبهم أغنياء من التعفف " [ البقرة ] ، فلا يحمل هم الأسرة إلا ربها وعائلها ، فالأب هو العائل وهو القائم على شؤون الأسرة ، فتراه يسعى جاهداً لتوفير سبل الراحة لأسرته وأهل بيته ، وعندما يكون فقيراً فلا تسأل عن حاله وهمه وغمه ، كنا ذات ليلة في عشاء ، وبقي منه الكثير ، فأراد صاحب المنزل وضعه في صناديق المهملات ، فاقترحت عليه أن نتصدق به على من هو بحاجة ، فرحب بالفكرة ، فاتصلت على الأخوة في إحدى الجمعيات الخيرية ، فحضروا فوراً ، وكان الوقت قد تجاوز العاشرة مساءً ، فحضروا وأخذوا الطعام المتبقي وهو كثير ، فذهبوا به إلى جماعة فقيرة تقطن البراري ، ووجدوا أسرة فقيرة معدمة ، يعولها رجل كبير في السن ، فوجدوه خارج منزله في ساعة متأخرة من الليل ، فتوجهوا نحوه وهم يعرفون حاله ، وقدموا له الطعام ، فانهار بالبكاء الشديد ، فسألوه عن ذلك ، فقال : لقد كنت أحمل هم هؤلاء الأطفال ، وكيف أطعمهم هذه الليلة وأنا لا أملك لنفسي شيئاً فضلاً عن أملكه لهم ، فجاء الله بكم فرجاً من عنده سبحانه ، فأخذ الطعام وأكل وأكلت أسرته ولله الحمد والمنة .

فانظروا يا من تجمعون الأموال ريالات ومئات وآلاف وملايين ، انظروا حال إخوانكم المسلمين الفقراء ، تلمسوا احتياجاتهم ، فوالله ليس بمسلم من شبع وجاره جائع ، واعلموا أن هذه الأموال التي ستخلفونها بعد مماتكم ، ستكون وبالاً عليكم ، فلقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يملك من حطام الدنيا شيئاً ، بل قال عليه الصلاة والسلام : " ما لي وللدنيا ، ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها ، وكان ابن عمر يقول : إذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح " [ ] ، وهاهم العلماء يموتون الواحد تلو الآخر ، ولم يخلفوا وراءهم شيئاً يُذكر من متاع الدنيا الزائل ، فلماذا نرى الأغنياء يجمعون هذه الأموال ، ولا ينفقونها في سبيل الله ، ولا يتحسسون حال إخوانهم الفقراء حولهم ، وقد توعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث ، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأُتي بجنازة ، ثم أُتي بأخرى ، فقال : " هل ترك من دين ؟ " ، قالوا : لا . قال : " فهل ترك شيئاً ؟ " قالوا : نعم ، ثلاثة دنانير ، فقال بأصبعه : " ثلاث كيات " [ أخرجه أحمد واللفظ له ، والبخاري وابن حبان ] ، فإذا كانت الثلاثة دنانير يُعاقب عليها صاحبها ، فكيف بمن خلَّف الملايين ، ومئات الآلاف ، ألا يخشى عقابها وعتابها ، والتي سيحاسب عنها هللة هللة يوم القيامة ، ولهذا كان العلماء لا يتركون شيئاً ، خوفاً من العقاب ، إذ كيف تموت وتخلف هذه الأموال الطائلة ، ولا تنفقها في سبيل الله ، والفقراء والمساكين ، وسبل الخير الكثيرة تحتاج إلى صدقتك ومالك ، فقدم لنفسك ما تنجو به يوم القيامة من عذاب الله ، قال صلى الله عليه وسلم : " من أوكى على ذهب أو فضة ، ولم ينفقه في سبيل الله ، كان جمراً يوم القيامة يكوى به " [ حديث صحيح أخرجه أحمد والطبراني واللفظ له ] ، وعن انس رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدَّخر شيئاً لغد " [ أخرجه الترمذي بسند صحيح ] .

فعلى المسلم أن يكون سنداً لإخوانه ، عوناً لهم على نوائب الدهر ، ومصائب الزمان ، ولا يتركهم فقراء محتاجين ، وهو يتقلب في نعيم الدنيا ومتاعها ، بل الواجب عليه أن ينفق ما آتاه الله من المال في وجوه البر ، وأعمال الخير ، ينفقها في سبيل الله ، فهناك أبواب لا حصر لها في الإنفاق ، حتى يكون يوم القيامة تحت ظل صدقته ، قال صلى الله عليه وسلم : " من أنظر معسراً ، أو وضع له ، أظله الله في ظله " [ أخرجه مسلم وغيره ] ، ومعنى الحديث : أن من كان له دين على شخص ، فحل موعد السداد ولم يكن المدين مستطيعاً للسداد ، فأنظره وتركه ، وأعطاه مهلة أخرى للسداد ، أو أنقص له من الدين الذي عليه لعله يسدد جزءاً منه ، ويسامح عن الباقي ، فإن الله يظله يوم القيامة تحت ظل عرشه .
وأخرج البخاري ومسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن رجلاً ممن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه ، فقال : هل عملت من خير ؟ قال : ما أعلم ، قيل : انظر ، قال : ما أعلم شيئاً ، غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا ، فأُنظر الموسر ، وأتجاوز عن المعسر ، فأدخله الله الجنة " ، فتصدقوا على أنفسكم ، ولا تبخلوا فتقعوا في المحذور والممنوع ، وتحرموا أنفسكم جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، الذين ينفقون في السراء والضراء ، ومهما صغرت الصدقة فهي عند الله عظيمة ، لأنها امتثال لأمره سبحانه ، واتباعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

وهذه بعض الوقائع التي أُتحف بها الأسماع والأبصار ، لنأخذ منها العظة والفائدة والقدوة الطيبة :
= شاب ينفق كل يوم زجاجة ماء بارد ، يُسقي بها عمال النظافة في الشوارع ، فيخرج في الجو الحار ، يدخل الحارات ويتلمس العمال ، فإذا وجد عاملاً منهكاً متعباً ، ليس لديه ماء ، قدم له زجاجة الماء وانصرف .
= شاب آخر يكفل يتيماً ، يقدم له كل شهر مصروفاً يتكفل له بالطعام والشراب واللباس .
= زوجان تبنيا أُسرة فقيرة ، ينفقان عليها أُجرة المنزل ، وتكاليف الطعام والشراب ، وكل مقتنيات الأسرة الأخرى ، حتى تكاليف السيارة .
= شاب يتصدق كل يوم بريال واحد ، وأفضل الأعمال على الله أدومها وإن قل .
= تاجر كبير ، يذهب كل يوم لأسرة ويقدم لها كل ما تحتاجه بنفسه ، رُغم مشاغله واهتماماته .
= أمير وكَّل أحد القضاة بمبلغ مائة ألف ريال كل سنة ، لينفقه على المحتاجين ، ووعدهم بالمزيد .
وحتى لا يُنسي آخر الكلام أوله ، اكتفي بما كتبت ، فلعل الله تعالى أن ينفعنا بما سمعنا وقرأنا ، ونسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأن يجري الخير على أيدنا ، وأن يجعلنا هداة مهتدين ، غير ضالين ولا مضلين ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية