اطبع هذه الصفحة


وجوب طلب العلم

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وأصحابه ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . أما بعد :
فلا شك أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له ، قال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " [ الذاريات ] ، ولا طريق لعبادة الله تعالى على وجه الحق إلا بالعلم الشرعي ، فهو سلم الوصول إلى الله تعالى ، والطريق الأمثل إلى جنة الخلد وملك لا يبلى ، العلم سبيل الوصول إلى رضا الله تعالى ، العلم نبراس يضيء للناس طريقهم ، العلم شرف فوق رؤوس العلماء ، به يخشى الخلق ربهم ، به يتقونه سبحانه ، به يتركون الحرام ، ويهجرون المعاصي والذنوب مهما صغرت أو كبرت ، قال تعالى : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " [ فاطر ] ، ولقد رغب الشارع الكريم في طلب العلم والحث عليه ، ووعد على ذلك بعظيم الأجر ، وجزيل الثواب ، قال تعالى : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب " [ الزمر ] ، وقال تعالى : " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعلمون خبير " [ المجادلة ] ، والنصوص في ذلك كثير معلومة ، وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " ، ومفهوم الحديث : أن من لم يرد الله به خيراً لم يفقهه في الدين ، وهذه مصيبة عظيمة ، وخطب كبير ، فيجب على المسلمين جميعاً أخذ هذا الحديث بعين الاعتبار ، وعدم إمراره هكذا دون معرفة فقهه وما يُراد منه .

والفقيه هو : الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، البصير بأمر دينه ، المداوم على عبادة ربه .
وعن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضل العلم خير من فضل العبادة ، وخير دينكم الورع " [ أخرجه الطبراني في الأوسط ، والبزار بسند حسن ] .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهل الله له طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " [ أخرجه أبو داود بسند حسن ، وأخرجه غيره ] .

فانظروا كيف أن منزلة طالب العلم ، أعلى المنازل ، وأشرف المنايا ، وأعظم الدرجات ، التي يتمناها العبد ، ولا يمكن لعبد أن يعبد الله على بصيرة بدون أن يطلب العلم الشرعي ، الذي ينبني على أساس المعرفة والعبادة الصحيحة .
فمن طلب العلم فقد أخذ نصيباً تاماً ، وحظاً لا أوفر منه أبداً ، لأنه أرضى ربه ، وعبده على علم ويقين وبصيرة ، غير مضطرب في ذلك .
فما أعظم طلب العلم الشرعي ، وما أعلى شأن صاحبه عند الله تبارك وتعالى ، فكل من في السموات والأرض يستغفر له لطالب العلم ، لأن قام بعمل لا يقوم به إلا المتقون الخائفون من ربهم ، الذين يعرفون حق معرفته ، فلذلك هم يتسابقون في ميدان كسب الحسنات ، ونيل رضى رب الأرض والسموات ، ولن يدرك أي إنسان هذه الخصلة العظيمة إلا إذا واظب على طلب العلم الشرعي المستمد من الكتاب والسنة المطهرة ، وجاهد نفسه ، وقمع شيطانه ، وهجر الدنيا وزخرفها ، وتعلق بما عند الله تعالى .
فياله من فضل ما أعظمه ، وياله من أجر ما أوفره ، وياله من ثواب ما أجزله ، كيف لا وقد وعد الله العلماء بتلك العطايا والهبات ، فله سبحانه أعظم منة وحمد ، وله الشكر بلا حد .
فتلكم النصوص الشرعية تدل على فضل التفقه في الدين ، وأن الفقه في الدين من أفضل نعم الله على العبد ، وأن حصوله للمرء دليل على إرادة الله به الخير .

وأن الفقه في الدين ، وتعلم العلم الشرعي ، سبيل إلى معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته ، وذلك علو في منزلة طالب العلم .
وتحصيل العلم الشرعي طريق موصل إلى معرفة ما فرض الله على عباده ، وما أحل لهم ، وما حرم عليهم ، فإذا حُرم المرء العلم ، وصرفه هواه والشيطان عن طلبه وتحصيله ، بقي جاهلاً ، وكان من السهل على شياطين الإنس والجن إضلاله وغوايته ، والخروج به عن منهج الله تعالى ، ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم ، فبالعلم يعرف العبد ربه ، فيعبده ويطيعه ، ويستقيم على أمره ، وبالجهل يضل ويزيغ ويعبد الشيطان .
لأجل هذا رفع الله أهل العلم درجات ، وفضلهم على غيرهم ، ووعد من سلك منهم طريقاً يطلب فيه العلم أن يسهل له الطريق إلى الجنة ، رضاً سبحانه بما يصنع طالب العلم ، وليس بعد هذا الشرف شرف ، وليس بعد هذا العز عز .

وجوب طلب العلم :
أخرج ابن ماجة في الحديث الصحيح ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " طلب العلم فريضة على كل مسلم . . . " .
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : كل عمل كان عليك فرضاً ، فطلب علمه فرض ، وما لم يكن العمل به عليك فرضاً ، فليس طلب علمه عليك بواجب .
قال تعالى : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " [ التوبة 122 ] .
قال القرطبي رحمه الله : " هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم .
وقال رحمه الله أيضاً : طلب العلم فضيلة عظيمة ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل " [ الجامع لأحكام القرآن 8/266 ، 268 ] .

أقسام طلب العلم :
طلب العلم ينقسم إلى قسمين :
الأول / فرض على الأعيان :
أي واجب على كل مسلم ، ومن لم يتعلمه فهو آثم ، كأحكام الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، وبر الوالدين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومعرفة حق الله تعالى على عباده وحقهم عليه سبحانه ، ومعرفة أسمائه وصفاته ، ومعرفة معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وركناها ، وشروطها ، ونواقضها ، وكذلك مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله ، كل ذلك من العلم الضروري الذي يجب على المسلم تعلمه ومعرفته ، ولا يسعه الجهل به البتة ، فإن لم يتعلمه فهو عاص آثم معرض للعقوبة ، ولما علم الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى العظيم ، عكفوا على كتاب الله تعالى حفظاً وتعلماً وتعليماً ، فلم يتجاوزوا عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من أحكام وأوامر ونواهي وحلال وحرام .
ذلك كان دأب السلف الصالح رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين .
أما حال الأمة اليوم فحال لا يرضي عدواً ولا حبيباً ، فبدل أن يعكف الناس على دراسة أمور دينهم ، وما ينفعهم عند ربهم يوم القيامة ، نراهم ركنوا إلى الدنيا ورضوا بها سكناً ومستقراً ، والله تعالى يقول : " إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون " [ يونس 7-8 ] .
ألهتهم الدنيا بكل زخرفها وبهرجتها وزينتها ، فانكب الناس عليها بيعاً وشراءً ، وشهوة ورغبة ، تمر بجانب آلات الصرف الآلي وترى المسلمين صفوفاً حولها ، كل يريد أن يسحب مبلغاً من المال ، وربما الآذان يؤذن : الله أكبر ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، وكأن ذلك لا يعنيهم بحال ، بل والله لقد مررت مرات ومرات وأنا ذاهب إلى الجامع للصلاة ، والمساجد تصلي ، والأئمة يقرءون وكثير من الناس حول آلات الصراف ، تفوتهم الصلاة لا يهمهم ذلك ، ولكن لا يمكن أن يفوتهم استعمال الصراف ، وأخذ ما يخرج منها من وسخ الدنيا من الأموال ، سبحان الله كيف اشتروا الضلالة بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، فما أصبرهم على النار .

الثاني / فرض على الكفاية :
وهو الذي لا يجب على جميع أفراد الأمة ، بل إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، كتحصيل الحقوق ، وإقامة الحدود ، ومعرفة دقائق الأحكام في مسائل النكاح والطلاق والبيوع والقضاء وأمثال ذلك ، مما لا يسع جميع الناس معرفته والتوصل إليه ، لأنه ربما ضاعت أحوال الناس ، ونقصت معايشهم ، وتعطلت مصالحهم ، فلابد من تفريغ البعض للقيام بمهمة طلب هذا العلم .
قال ابن عبد البر رحمه الله : " قد أجمع العلماء على من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصته نفسه ، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع .
والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ، ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه ، نحو الشهادتين بالسان ، والإقرار بالقلب ، بأن الله وحده لا شريك له ، ولا شبه له ، ولا مثل له ، لم يلد ، ولم يولد ، ولك يكن له كفواً أحد ، خالق كل شيء ، وإليه يرجع كل شيء ، المحيي المميت الحي الذي لا يموت ، عالم الغيب والشهادة ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، والذي عليه جماعة أهل السنة والجماعة ، أنه لم يزل بصفاته وأسمائه ، ليس لأوليته ابتداء ، وليس لآخريته انقضاء ، وهو على العرش استوى .
والشهادة بأن محمداً عبده ورسوله ، وخاتم أنبيائه حق ، وان البعث بعد الموت حق ، للمجازاة بالأعمال ، والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة في الجنة ، ولأهل الشقاوة والكفر والجحود في السعير حق .
وأن القرآن كلام الله ، وما فيه حق من عند الله ، يلزم الإيمان بجميعه، واستعمال محكمه .
وأن الصلوات الخمس فريضة ، ويلزمه من علمها علم ما لا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها . . . [ جامع بيان العلم وفضله 1/56 ] .
كثير من الناس اليوم لا يعرف أحكام الطهارة ، ولا التيمم ، ولا المسح على الخفين ، وتخفى اليوم على الناس أحكام الحيض والنفاس والاستحاضة ، وأحكام الصيام والحج والعمرة ، والزكاة ، وأحكام النكاح والطلاق ، وهي أحكام مهمة جداً تتعلق بالحرام والحلال ، ومع ذلك نجد أن هناك عزوفاً من جماهير المسلمين عن حضور الدروس العلمية ، والمحاضرات ، والخطب ، أو حتى سماع ذلك عبر الأشرطة ، أو اقتناء الكتب والفتاوى التي تهم المسلم في يومه وليلته ، وتهمه في دينه ودنياه ، وهذا من الطلب الواجب المفروض على كل مسلم تعلمه حتى لا يقع فيما حرم الله عليه ويتعذر بالجهل ، فليس اليوم هناك جهل ، مع التقدم العلمي ، وإيصال المعلومة بأبسط شكل وأسهله ، وأقل وقت وأقصره ، فهناك الإنترنت ، والقنوات الفضائية العلمية التي تُعنى بهذا المجال ، ووسائل الاتصال الأخرى كالهاتف ، والرسائل ، فليس هناك عذر لمسلم بأنه جاهل ، أو أنه لا يعرف حكم مسألة من المسائل التي يقوم عليها دينه ، كيف وقد أمره الله تعالى أن يتعلم العلم الموصل لرضى ربه سبحانه ، وهذا حديث لو تدبره الناس لعملوا به ولما تجاوزوه ، لما يحتويه من حب الله تعالى للعلم وأهله ، ولعنه لما سوى ذلك من الأعمال المذمومة التي لا تنفع صاحبها عند ربه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله وما والاه ، وعالماً ومتعلماً " [ أخرجه الترمذي وحسنه ، وابن ماجة ، والبيهقي ، وحسنه الألباني ] .

فضل العلم في الآخرة :
جاءت النصوص الشرعية كثيرة متوافرة متضافرة ، تدل على فضيلة طلب العلم ، وشرف ذلك ، وقد ذكرت شيئاً منها فيما سبق ، ونلحق هنا جزءاً آخر من تلك النصوص والأدلة :
عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على بُرد له أحمر ، فقلت يا رسول الله : إني جئت أطلب العلم ، فقال : " مرحباً بطالب العلم ، إن طالب العلم تحفه الملائكة ، وتظله بأجنحتها ، ثم يركب بعضها بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب " [ أخرجه أحمد والطبراني بإسناد جيد ] .
فإذا أردت أن تكون الملائكة معك ، تحرسك وترعاك ، وتظلك بأجنحتها ، وتستغفر لك ، فعليك بطلب العلم ، واصبر على ذلك ، فعاقبته جنات تجري من تحتها الأنهار .
وهنا أذكر حديثاً أُبشر به طلاب العلم ، ولا أقصد فئة عمرية منهم ، فربما تبادر إلى الذهن عند ذكر كلمة طلاب العلم الشباب فقط ، بل كل من طلب العلم فليبشر بهذا الحديث ، صغيراً كان أم كبيراً ، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله وملائكته ، وأهل السموات والأرض ، حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت في البحر ، ليصلون على معلم الناس الخير " [ أخرجه الترمذي ، والطبراني في الكبير بإسناد حسن ] ، فما أجمل أن نرى كبار السن والرجال وهم يثنون الركب حول العلماء يستمعون ويسألون ، فهناك أبسط المسائل وأسهلها لا يعرفها أكثر الكثير من المسلمين ، ولا شك أن ذلك من الغفلة ، والإعراض عن دين الله تعلمه وتعليمه ، وهذا كما هو معلوم من نواقض الإسلام والعياذ بالله .
فمن نواقض الإسلام ، الإعراض عن دين الله تعلمه وتعليمه ، وكم من الناس اليوم ، بل من الأمم والشعوب والدول والإسلامية ، من رضوا البدعة في دين الله ، وهجروا سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وما ذاك والله إلا نتيجة حتمية ، وثمرة سيئة ، لهجر العلم وتعلمه ، والإخبات للدنيا ، وطلب زهرتها ودناءتها ، وإلا فهل يليق بمسلم عاقل أن يدعو قبراً من دون الله ، أو يطوف حوله ، ويتبرك به ، ويتوسل بصاحبه ، وقد مات صاحبه وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، هل يُعقل أن يفعل مسلم أنقذه الله من الكفر إلى الإيمان ، ووهبه العقل والتفكير والتمحيص ، وقد كان الناس في جاهلية جهلاء ، وأثرة عمياء ، ثم جاء الإسلام وأخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد جل شأنه ، فكيف نرضى بالكفر بعد الإسلام ، والضلالة بعد الهدى ، والعمى بعد البصيرة ، والله تعالى يقول : " قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وامرنا لنسلم لرب العالمين " [ الأنعام 71 ] .
ويقول الله تعالى : " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين " [ الأعراف 194 ] .
وقال سبحانه وتعالى : " ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير " [ فاطر 13-14 ] .
ما أكثر أهل الإسلام الذين يطوفون بالقبور ، والله تعالى يقول : " وليطوفوا بالبيت العتيق " [ الحج ] ، لا يكون الطواف إلا حول الكعبة المشرفة بمكة المكرمة ، ولا يجوز الطواف بأي بقعة أخرى من العالم غير ذلك ، لا في كربلاء ، ولا بقبر الحسين ، ولا بقبر عبد القادر الجيلاني ، ولا في غيرها من بقاع الأرض قاطبة .
فما أعظم طلب العلم الشرعي ، الذي يجعلك تعبد ربك على بصيرة ، وهدى منه سبحانه ، ويكون حائلاً بينك وبين عذاب الله تعالى يوم القيامة .

العلم قبل القول والعمل :
لا يمكن لعبد أن يعبد الله على بصيرة وحق وصواب حتى يتعلم كيف يعبده ، وهذا واضح اليوم ممن يُسلمون ويدخلون في الإسلام ، فالمسلم الجديد لا يعرف ما الإسلام ، وما هي أركانه ، وكيف يحقق كل ركن منها ، فتراه كثير السؤال والاستقصاء عن أمور دينه ، فلا يمكن له أن يصلي الظهر والعصر والعشاء أربعاً والمغرب ثلاثاً والفجر اثنتين إلا إذا تعلم ذلك ، وهكذا بقية الأحكام .
فالمسلم الذي لا يتعلم أمور دينه لاشك أنه سيعاني كثيراً ، وربما عَبَدَ الله على غير الوجه المشروع ، كما فعلت النصارى من قبل فأضلهم الله تعالى ، حيث قال سبحانه : " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " [ الفاتحة ] .
فالمغضوب عليهم هم اليهود ، لأنهم عرفوا الحق والصواب وتجنبوه ، والضالون هم النصارى ، لأنهم عبدوا الله على جهل ، دون علم ولا بصيرة ، فليحذر كل مسلم أن يكون أحد الفريقين ، وليتجنب غضب الله سبحانه ومواطن عقابه وسخطه .
عقد البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باباً أوسمه بـ ( باب العلم قبل القول والعمل ) ، إذ كيف تعمل عملاً بلا دليل ، وكيف تُعلم الناس علماً لا تفقهه ، فواجب على كل مسلم أن يتعلم العلم الشرعي الذي يقوم به دينه ، ثم يبلغه بعد ذلك ، قال تعالى : " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر ل لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " [ محمد 19 ] .
وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه ، إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد ، قال : فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحَلْقَة فجلس فيها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فأدبر ذاهباً ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم عن النفر الثلاثة ؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه ، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه " .
في هذا الحديث فضيلة طلب العلم والجلوس لتحصيله واستماعه .
وفي الحديث صفات لله تعالى ، كالاستحياء ، والإعراض ، والواجب أن تمر هذه الصفات كما هي دون تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ، ولا يجوز تأويلها بغير معناها الظاهر من لوازمها وغير ذلك ، بل الواجب إثبات صفات الله عز وجل كما هي ، فإن الله يوصف بالحياء الذي يليق به سبحانه ولا يشابهه فيه خلقه كسائر صفاته سبحانه ، فهو سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وهذا قول أهل السنة في جميع صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة ، وهو طريق النجاة ، فتنبه أيها المسلم واحذر .
وورد في فضل الجلوس لحلقات العلم وطلبه نصوص كثيرة .

أقوال العلماء في طلب العلم :
قال الشافعي رحمه الله : " طلب العلم أفضل من الصلاة النافلة " [ أخرجه البيهقي ، وأبو نُعيم في الحلية ، وإسناده صحيح ورجاله ثقات / جامع بيان العلم وفضله 1/123 ] .
وقال الزهري رحمه الله : " ما عُبد الله بمثل الفقه " [ أخرجه عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح ] .
وقال مطرف رحمه الله : " فضل العلم أعجب إلي من فضل العبادة " [ إسناده حسن ] .
وقال عون بن عبد الله : حدثت عمر بن عبد العزيز أن كان يُقال : " إن استطعت فكن عالماً ، فإن لم تستطع فكن متعلماً ، وإن لم تستطع فأحبهم ، وإن لم تستطع فلا تبغضهم " ، فقال عمر بن عبد العزيز : لقد جعل الله عز وجل له مخرجاً إن قَبِل " [ أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتأريخ ، وأخرجه أبو خيثمة في العلم ، بإسناده صحيح ] .

فائدة نفيسة :
ما هذا التعدي على حدود الله تعالى ، وارتكاب الحرام الذي نراه اليوم إلا ثمرة الجهل المطبق الذي ران على قلوب الكثير من المسلمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ولو أردت أن تحصي ما ارتكبه الناس من منكرات وكبائر وعظائم ، ناهيك عن الصغائر ، لسكبت دماً بدل الدموع ، ولتقرح قلبك ، وتصدع رأسك ، غيرة على حرمات الله ، وشفقة بأولئك الناس الذين طغوا وبغوا وأكثروا في الأرض الفساد ، جهلاً وكبراً وتعالياً .
ولا حصن ولا درع ولا وقاية من عقوبة الله تعالى إلا بالعلم النافع المؤدي للعمل الصالح .

وإلا فتعال بنا نخوض فيما يرتكبه الناس من أفعال محرمة ، عرضاً لا إسهاباً :
ترك الصلاة بالكلية ، أو ترك بعض الفروض ، وتأخير بعضها عن وقتها المشروع حتى يخرج ، أو أداؤها مجاملة وحياءً وهذا هو النفاق المتوعد صاحبه بالعذاب الشديد ، والوعيد الأكيد ، ترك الزكاة ، ترك الحج مع القدرة عليه ، إفطار شهر رمضان عمداً بلا عذر ، عقوق الوالدين ، إهمال الأبناء والزوجات ، فعل فاحشة اللواط ، والزنا ، والسحاق بين النساء ، انتهاك أعراض المسلمين ، أكل الربا ، والرشوة ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وأكل مال اليتيم ، وظلم اليتامى ، وظلم الزوجات والأبناء ، وظلم الخدم والعمال ، الحلف بالله كذباً ، شهادة بالزور ، الواسطة المحرمة ، إسبال الثياب ، شرب الدخان ، وتعاطي المخدرات والمسكرات ، مشاهدة الفاضح من الفضائيات ، مشاهدة أفلام الرذيلة عبر القنوات الفضائية ، أو عبر أشرطة الفيديو ، أو عبر المجلات الهابطة ، بيع الدخان للناس ، بيع أشرطة الغناء وسماعه ، إدخال النغمات الموسيقية إلى بيوت الله تعالى دون مراعاة لحرمة المساجد وقدسيتها ، السرقة ، حلق اللحى ، تبرج النساء ، عصيان الزوجات لأزواجهن ، عضل البنات عن الزواج من أجل أكل رواتبهن ، مظاهر الشرك حول القبور والأضرحة ، والذبح لغير الله ، ودعاء غير الله ، والنذر لغير الله ، ومعاونة الكفار على المسلمين ، وترك الجهاد في سبيل الله وهو فرض كفاية ، الاحتفال بأعياد وأيام غير مشروعة شرعاً ، ولو أردنا أن نعدد لاحتجنا لوقت طويل ، ومجلدات لنحصي تلك المنكرات والكبائر المهلكات ، وكلها موجودة الآن في بلاد المسلمين ، ولم يسلم بلد منها أو جلها ، ومع ذلك نعجب أننا ندعو فلا يستجاب لنا ، كل ذلك بما كسبت أيدينا ، إما فاعلين للمنكر ، وإما راضين به ، وإما ساكتين عنه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ولم نرى من انبرى من أهل العلم اليوم لإيقاف زحف عاصفة التغريب الدينية ، وإفشال المخططات النصرانية اليهودية ، بل رأينا من العلماء الضلال من يؤيد بعض الكبائر ، كتحليل الفوائد البنكية مثلاً ، وهي حرب لله ولرسوله ، أو جواز إدخال الدش إلى المنازل لقصد أو لآخر ، وغير ذلك من سقيم الفتاوى ، ومريض الدعاوى ، نسأل الله الهداية لأمة الإسلام ، والعودة الحميدة إلى الدين القويم ، والصراط المستقيم .

هذا ما أحببت الإشارة إليه ، نُصحاً للأمة ، وإنقاذا لها من الهلاك ، ولواجب تبليغ العلم وعدم كتمانه ، وأرجو كل من اطلع على هذه الأسطر أن يبلغها لغيره ، الإمام في مسجده ، والرئيس في دائرته ، والمرؤوس في عمله ، والوالد في بيته ، والجار لجاره ، والرجل في حيه ، والمرأة لأخواتها في بيتها وعملها ، وهكذا حتى نحصد الثمرة الطيبة من ذلك .
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ، وعملاً صالحاً متقبلاً ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وزدنا علماً ، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعاء لا يُسمع ، نعوذ بك اللهم من هؤلاء الأربع ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية