اطبع هذه الصفحة


التنصل من المسؤولية

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله الواحد القهار ، أمر عباده بطاعته ليل نهار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفار ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المستغفر بالأسحار ، النبي المختار ، صلى الله وسلم عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار ، وعلى آله وصحابته الأخيار . . . أما بعد :
فلقد أزهقت كثير من أنفس الناشئة بسبب إهمال الأولياء ، وترك الحبل على الغارب لأبنائهم ، لِيُمْلُوا على آبائهم ما يطلبون ، وما يرغبون ، فطلباتهم أوامر ، وأوامرهم لا ترفض ، بل تُنفذ ، لاسيما إن كان وراءهم أمهات فاشلات ، حتى نشأ لدينا جيل أقرب ما يكون للميوعة والدلع والدعة ، منه للرجولة والفتوة والقوة ، شباب وهنتهم حمى الغرب ، وضربتهم شمس التحضر الكاذب ، حتى كأنك تشاهد فتيات لا رجال ، لبس ضيق ، وقبعات غريبة ، وهيئات مريبة ، والمحزن المبكي أنك لا ترى أباً يقدر أو يفكر ، بل ولا يسأل عن حال ولده أهو حال صحيح ، أم حال قبيح ؟ ومن هم رفقته ، أهم الخيرة أو غيرهم ؟
انشغل الآباء بمتابعة الفاتنات من النساء عبر الفضائيات ، أو متابعة الأسهم عبر الشبكات والشاشات ، فأنى لأب هذا حاله أن يكون لديه وقت لتأديب ولده ، أو تربيته تربية صالحة ، وتنشئته نشأة دينية ، وفق كتاب الله تعالى ، واقتفاء منهج نبيه صلى الله عليه وسلم ، بل مثل أولئك الأبناء ستربيهم الشوارع ، وناهيكم عمن كان الشارع مؤدبه ومعلمه ، سيكون عرضة للاهثين وراء الحرام ، واللاعبين بالأعراض ، سيكون من أهل الخمور والسرقة ، سيكون خائناً لوطنه ودينه ، يبيع دينه بعرض من الدنيا .
والسؤال الذي يطرح نفسه : من هو المسؤول عن هذا الانحراف لدى الشباب ؟
والجواب الصاعقة ، أن المسؤولية مشتركة ، لا تنفك عن بعضها البعض ، فهي كالحلقة ، إن انفرطت ، انفرط العقد كله ، فالبيت له مسؤوليته ، والمدرسة يقع عليها عبئ آخر ، وللمسجد نصيب ، وللأمن كفل من المسؤولية ، وهكذا فالمسؤولية مشتركة ، لكن القسم الأكبر ، والجرم الأعظم يقع على البيت ، ولاسيما رب البيت ، الذي أنيطت به مسؤولية التربية والتعليم والتنشئة من لدن رب العالمين حيث قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الأنفال27 ] .
وبين الله تعالى خطورة التفريط في أمانة الأبناء ، وأنها طريق للندامة ، وسبب للخسارة يوم القيامة ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التغابن14 ] .
لقد تخلى كثير من الآباء عن مسؤولية التربية ، فتركوا أبناءهم بلا رادع ولا زاجر ، والله لقد فقدوا زمام الأمور ، وأهملوا صحيح التربية والرعاية ، حتى بلغ الأمر مبلغاً يجعل القلوب في كمد ، والنفوس في وصب .
آباء يصلون وأبناؤهم بجانب المسجد يلعبون .
آباء ينامون وأبناؤهم خارج المنزل يسهرون .
آباء محترمون وأبناؤهم بالأذية مشهورين .
أضداد ومباينات ومفارقات .
فلماذا لا يكون الابن كأبيه ؟
سؤال تترك إجابته لكل أب وولي أمر ؟
لكن لا ينسى الآباء أن الله قد أمرهم برعاية أبنائهم ، وأنهم مسؤولون عنهم يوم العرض على ربهم وخالقهم ، أحفظوا الأمانة أم خانوها ؟
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الأنفال27 ] .
يا أيها الأولياء والأوصياء ، لا تخونوا الله ورسوله بترك ما أوجبه الله عليكم ، وفِعْل ما نهاكم عنه , ولا تفرطوا فيما ائتمنكم الله عليه من الأبناء والزوجات وغيرهم , وأنتم تعلمون أنها أمانة يجب عليكم الوفاء بها .
وتذكروا قول الله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } [ الصافات24 ] .
يا من تترك ولدك ينام عن الصلاة المكتوبة ، يا من تهمل تربية ولدك ، يا من تخاف على ولدك حر الشمس ، وبرد الشتاء ، فلا تأخذه معك للمسجد للصلاة ؟ تذكر أن هذا الولد يسكون خصمك يوم القيامة ، إذا فشل في حياته ، وابتعد عن طريق الصواب ، وحار يوم القيامة في الجواب ، فاعلم أنه سيتعلق برقبتك ، ويطلب من الله الانتقام منك ، ويقول : يارب خذ بحقي منه ، فلم يوقظني للصلاة ، ولم يأمرني بها ، ولم يعلمني شعائر الدين وآدابه وسننه وواجباته ، فكيف بك وأنت تجد أن خصمك يوم القيامة ولدك ؟
فإذا أهملته صغيراً ، عصاك كبيراً .
وإذا لم تعلمه الصلاة طفلاً ، شاب على تركها كبيراً .
وإذا أردت أن يكون ملتقاك وأبناؤك الجنة ، فأمرهم بالصلاة لسبع ، واضربهم عليها لعشر ، أدبهم بآداب الإسلام ، وعلمهم شعائر الدين ، يألفوها صغاراً ، ويحبونها كباراً ، وتأمل قول الله تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم6 ] ، كل المسلمين يسمعون هذه الآية تتلى عليهم ، ولكن هل تدبروها وتفكروا في معانيها ؟
وتذكر قول الله عز وجل : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [ التوبة81 ] .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " [ متفق عليه ] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله سائل كل راع عما استرعاه ، حفظ أم ضيع _ زاد في رواية _ حتى يُسأل الرجل عن أهل بيته " [ رواه ابن حبان في صحيحه وقال الألباني : حسن صحيح ] .
يا ولي الأمر ، أيها الأب ، أيتها الأم ، أليس الله جعلك أميراً وولياً ووالياً تلي أمور أبنائك وبناتك وزوجاتك وبيتك ومن تعول ؟
إذن فتأمل هذا الحديث الشريف ، عن معقل بن يسار رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من أمير يلي أمور المسلمين ، ثم لا يجهد لهم ، وينصح لهم ، إلا لم يدخل معهم الجنة " [ رواه مسلم ، والطبراني وزاد ( حسن ) كنصحه وجهده لنفسه ] .
إن مظاهر الدلع والترف والخيلاء والكبرياء التي تحيط بكثير من الآباء وأبنائهم ، لهي مصدر خطورة ، ومكمن شرر ، وعنوان خطر ، تأتي نتائجه على المجتمع بأكمله ، سيارات فارهة يقودها صبية لا عقول لديهم ولا تفكير بعواقب الأمور ، يموت تحتها وفيها من الأبرياء ، مظاهر الفضائيات وما تسببه من مخاطر معلومة لهي مظاهر مؤلمة ، وما تبثه من قتل للعفاف ، وغيلة للحياء ، وإخراج للمرأة المسلمة من خدرها إلى تعرية جسدها ، ومناظر الفحش ، ومشاهد الرذيلة التي تعرض عبر الفضائيات ، أهي من أداء الأمانة كما ألزم الله ، أم هي من الخيانة والغدر والغش لله ولرسوله وللرعية ؟
إنها مسؤولية الآباء في الدرجة الأولى ، فهل أولئك الآباء حفظوا الأمانة ، أم خانوا الله ورسوله والمؤمنين ؟
الألبسة الدخيلة على مجتمعات المسلمين ، الجينز والقبعات والسلاسل والبناطيل ، وقل مثلها في ألبسة النساء والبنات ، وأيم الله لقد رأينا من مناظر الفتيات ما يميت القلوب الصالحة ، ويقتل القلوب الصادقة ، فتاة تلبس على وجهها خمار يجعلها أجمل مما لو لم تلبسه ، وأخرى تلبس عباءة تشف ما تحتها ، وثالثة تخفي من الفتنة تحت العباءة ما يثير مكامن الغريزة ، وغير ذلك كثير من مشاهد العري والتبرج والزينة ، مما يقتل الغيرة ، ويميت العفة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فأولئك الآباء مسؤولون عنها في المقام الأول ، فهل قاموا بما أوجب الله عليهم من الأمانة ، أم خانوها وضيعوها ؟
عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت ، وهو غاش لرعيته ، إلا حرم الله عليه الجنة " [ متفق عليه ] .
فاتقوا الله أيها الآباء والأمهات ، في أنفسكم أولاً ، ثم احفظوا أولادكم من الشرور والمحن ، وسوء الفتن ، ما ظهر منها وما بطن .
ارحموهم من نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى ، عودوهم الأخلاق الحسنة ، والأعمال الطيبة ، والأفعال الخيرة ، حتى يألفوها صغاراً ، ويطبقونها كباراً ، فينفعوكم وينفعوا أنفسهم ، ويكون ذلك حجة لكم عند ربكم يوم القيامة . ‌
الخواطر في هذا الموضوع كثيرة ، ولكن أكتفي بمن كتبت ففيه غنية وفائدة لطالب الحق ، والساعي إليه .
وفي الختام أسأل الله العلي القدير ، أن يوفق الآباء لرعاية الأبناء ، وتربيتهم تربية شرعية إسلامية دينية هادفة ، ليكونوا نواة خير لمجتمعهم ، ودرعاً متيناً ، وحصناً حصيناً لدينهم ، وحماة لإسلامهم وبلادهم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، والحمد لله رب العالمين .

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك
 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية