اطبع هذه الصفحة


الجار في العيد

يحيى بن موسى الزهراني

 
الحمد لله الواحد التواب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك رحيم رحمان شديد العقاب ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأواب ، صلى الله وسلم عليه ما ظهر نجم وغاب ، وعلى آله وأصحابه أولي الألباب ، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب . . . أما بعد :
فمن أعظم الوصايا الربانية ، والتوجيهات النبوية ، الوصية بالجار ، فللجار حق على جاره عظيم ، لا يعرفه إلا المسلم الأبي الشهم الكريم ، ولا ينكره إلا القبيح اللئيم .
جاءت النصوص الشرعية بمراعاة حق الجار ، لمن تدبر وما حار ، مذكورة في الكتاب والسنة ، وأقوال الأئمة .
وقل البدء في خضم الموضوع ، نترك الحديث لبعض الجيران ، ليتحدثوا بكل صراحة عن علاقاتهم ببعض جيرانهم ، وهذا الموضوع نقلته صحيفة الجزيرة السعودية في تأريخ 24/10/1421هـ ، فإلى الموضوع :
في البداية تحدث الأخ (أ,ي) وقد جاء شاكياً لمركز الهيئة عن جار له ، وقد تأذى منه قائلاً : لقد سكنت في هذا البيت الجديد قبل ما يقارب من ستة أشهر ، وتفاجأت بجار هداه الله يتعاطى المخدرات باستمرار ، ويتجمع عنده جمع من المدمنين ، وقد حصل أن داهم رجال مكافحة المخدرات عمارتنا بالأمس ، وقبضوا على سبعة منهم ، وهرب ثلاثة ، والغريب في الأمر أنني تفاجأت بأن هذا الرجل وهو جاري موجود في بيته وهو من ضمن الهاربين وهو يشكل خطراً على الجيران في العمارة.
بعد ذلك تحدث الأخ ( ف سع ف ) صاحب مكتب عقار قائلاً : إن مما يواجهنا ويحرجنا دائماً كأصحاب مكاتب العقار ، ذلك المستأجر السيئ في أخلاقه ودينه ، والذي تتوالى الشكاوي تباعاً علينا مطالبة بإخراجه من الحي ، حيث نؤجر لبعض الناس ونتفاجأ بأذيته للجيران وكثرة مشاكله ، والأمر المؤسف من بعض أصحاب مكاتب العقار هو عدم أمانتهم ، وذلك بتأجيرهم للعزاب بجانب العوائل ، مما يحدث معه مشاكل كثيرة .
أما الأخ ( م القاسم ) فقد تحدث عن سبب تهرب كثير من الجيران عن التعرف على جيرانهم وهو خوفهم من المصالح الدنيوية ، فبعضهم يكون صاحب ثراء فلا يريد أن يدخل مع أحد ، حتى لا يحرجه بالطلب والاستدانة ، وبعضهم يكون صاحب مركز اجتماعي ، فيتهرب من الدخول مع جيرانه لهذه الأسباب .
وأما الجيران العاديون فتختلف أسبابهم ، ولعل من أبرزها : عدم معرفة حقوق الجار التي حث عليها الإسلام .
توجيه للجيران :
لم تكن الوصية الخالدة التي أوصى بها جبريل عليه السلام نبينا صلى الله عليه وسلم بالجار وصية كباقي الوصايا، بل زادت أهميتها بتلك الصيغة التي بالغ فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله : " حتى ظننت أنه سيورثه " .
وإن المتأمل في أحوال الجيران في هذه الأزمنة إلا من رحم الله ليجد البون الشاسع ، والفرق الواسع بين حالهم وحال الجيران في السابق من تكاتف وتكافل ومحبة ووئام.
ولكن يا ترى، ماذا لو سمع الواحد منا بعض القصص المفزعة عن علاقات بعض الجيران مع بعضهما البعض من شحناء وبغضاء وتناحر وعدم ألفة، بل إن البعض من الجيران يسكن داره الجديدة ويخرج منها ولا يعرف جاره الذي بجانبه!
فحق الجار على جاره حق نفيس يجب أن يعتنى به، ولذلك فإن العرب في الجاهلية والإسلام يحمون حق الجار ويتفاخرون بحسن الجوار، وقد قيل : على قدر الجار يكون ثمن الدار ، والإسلام يأمر بحسن المجاورة مع كل إنسان، وشر الناس من تركه الناس اتقاء لشره، وأسوأ الجيران من يتتبع العثرات، ويتطلع إلى العورات في سره وجهره، وليس بمأمون على دين ولا نفس ولا أهل ولا مال, والمسلم يعترف بما للجار على جاره من حقوق وآداب، يجب على كل من المتجاورين بذلها لجاره وإعطاؤها له كاملة، منها عدم أذيته بقول أو فعل منه أو من أولاده أو من أهله، وفيها الإحسان إليه، وذلك بأن ينصره إذا استنصره، ويعينه إذا استغاثه، ويعوده إذا مرض ، ويهنئه إذا فرح ، ويعزيه إذا أصيب، ويساعده إذا احتاج، يبدؤه بالسلام، ويلين له الكلام، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، يراعي جانبه ، ويحمي حماه، ويصفح عن زلاته ، ويصبر على أذاه، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " من حق الجار أن تبسط إليه معروفك ، وتكف عنه أذاك " ، ويقول الحسن البصري رحمه الله : " ليس حسن الجوار كف الأذى ، حسن الجوار الصبر على الأذى " .
فمن يتجاوز عن أخطاء جاره ، ويتغاضى عن هفواته ، ويتلقى كثيراً من إساءته بالصفح والحلم ، ويحلم على من جهل عليه ، ويحسن إلى من أساء إليه ، ويعفو عمن ظلمه ، لا ريب أنه يكون في أعلى مراتب الكرامة، وفي أرفع منازل السعادة ، فلقد روى الحاكم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ياعقبة : ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ؟ تصل من قطعك، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك .
ومما لا شك فيه أن قيام الجار بحقوق جاره له آثار طيبة في المجتمع ، ومظهر اجتماعي يبشر بالخير، فيه تتآلف القلوب ، وتتقارب النفوس ، ويكون المسلمون مثل الجسد الواحد ، يتعاونون على الخير ويفعلونه، ويتناهون عن الشر ويحذرونه ، ويتناصحون فيما بينهم ، يحب كل واحد لأخيه ما يحبه لنفسه ، وهذا من كمال الإيمان الذي حث عليه ديننا.
أسباب سوء العلاقة بين الجيران :
1- ضعف الوازع الديني ونبذ تعاليم الدين وهجر السنة النبوية ووأد عادات الصالحين من سلف الأمة: فلا الإسلام يحارب الألفة ولا المصطفى صلى الله عليه وسلم يأنف الأخوة مع صحابته بل كان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التكافل الاجتماعي ويحث الجار على مراعاة جيرانه وقد ضرب أروع الأمثلة في ذلك فكان يحسن لجاره اليهودي، ولكننا وللاسف هجرنا منه وقتلنا كل سلوك حسن كان صلى الله عليه وسلم يسلكه مع جيرانه، والكثير من الجيران لا يؤدي حق جاره في المناصحة وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إذا رأى منه تقصيراً أو تركاً لفعل الواجبات أو الطاعات أو ارتكاب للمنكرات وهذا فيه ضرر عظيم وفيه تعطيل لجانب من جوانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق.
2- الجهل بحقوق الجيران: وحقوق الجار على وجه التفصيل كثيرة جداً منها:
أ- كف الأذى فالأذى بغير حق محرم وأذية الجار أشد تحريماً.
ب- حماية الجار سواء كان ذلك في عرضه أو بدنه أو ماله أو نحو ذلك.
ج- الإحسان إلى الجار بالقول أو الفعل فمن الإحسان إلى الجار تعزيته عند المصيبة وتهنئته عند الفرح وعيادته عند المرض ومبادرته بالسلام وطلاقة الوجه عند لقائه.
د- احتمال أذى الجار فمن الناس من لا يصبر على أدنى هفوة تصدر من جاره فلا يتغاضى ولا يتغافل قال تعالى:خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وهذا في حق الناس فكيف بالجار!
3- التسابق في مضمار الماديات فنسي المرء أهله ومن تناسى أهله فجاره بالقطيعة أولى عنده من الرحم.
4- تغير معايير المودة بين الناس فلم تعد الأخوة في الدين هي المعيار وإنما الثراء المادي والمكانة والمنصب هي أساس العلاقات الاجتماعية.
5- تعقد كثير من أمور الحياة وكثرة الملهيات ووسائل الإعلام وما يعرض في بعض وسائل الإعلام مما يقسّي القلوب ويهدم كيان المجتمع المسلم المتماسك.
6- عدم الشجاعة الاجتماعية في التعرف على الجيران.
7- التوسع العمراني وتباعد المساكن.
العيد وتصفية القلوب :
كثيراً ما يحصل هناك سوء تفاهم بين الناس ، بين الوالد وولده ، والأم وابنتها ، والإمام والمأموم ، والجار وجاره ، لكن هذا لا يجعل المرء يحمل ضغينة ، ولا حقداً في قلبه على أخيه المسلم ، فإن من فعل ذلك فقد أساء كل الإساءة ، وعرض نفسه لعقوبة ربه تبارك وتعالى ، وما ذاك الرجل الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة إلا أعظم دليل على وجوب سلامة القلب ، وطهارة النفس ، من أدرانها وأرجاسها ، وأدوائها ، فسلامة القلب طريق إلى الجنة _نسأل الله من فضله _ وخبث القلب طريق إلى النار _ نعوذ بالله من سخطه _ .
فسلامة القلب لها عظيم الأثر في سعادة المرء في الدنيا والآخرة؛ فلا يكاد العبد ينتفع بشيء في دنياه وأخراه أعظم من انتفاعه بسلامة قلبه :
سلامته من الشرك والنفاق والرياء والكبر والعجب وسائر الأمراض التي تعتريه، ولا أعني : أمراض البدن التي منها أمراض القلوب، وإنما أعني: تلكم الأمراض التي تعتري القلب مما يتعلق بدينه؛ فهي أعظم الأمراض فتكًا على الإطلاق وأشدها تدميرًا وأسوأها أثرًا؛ بل وليست هناك مقارنة على الإطلاق بين مرضٍ بدني يعتري القلب ويحتاج إلى بعض الأدوية والمُسكِّنات، وبين مرض يجرح دينه ويُذهب تقواه.
فالأخير يجلب على العبد نكدًا وهمًا وغمًّا وعذابًا في الدنيا والآخرة, أما الأول فقد يُثاب عليه العبد المؤمن إذا صبر واحتسب، كسائر الأمراض التي يُثاب عليها المؤمن إذا صبر واحتسب, كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاه " [ رواه البخاري ومسلم ] .
ولكن من قصور نظر الخلق وقلة أفهامهم وضيق مداركهم؛ لا يُولون الأهم والأخطر ـ وهو المرض المتعلق بالدين ـ أدنى أهمية، وفي المقابل إذا شعر أحدهم بأي مرض عضوي يعتري قلبه من قلة نبضات أو سرعتها، أو أي نوع من تلكم الأمراض؛ فإنه يبادر وبسرعة بالذهاب إلى الأطباء، ويسأل عن أعلم أهل الطب ، ويبحث عن أكثرهم مهارة وأحذقهم تطبيبًا، ولم يدَّخِر وسعًا في الذهاب إليه، ولو كلَّفه ذلك الغالي والنفيس من دنياه.
وخفي على هؤلاء أن هذه الحياة الدنيا إنما هي سنوات قليلات وأيام معدودات، وبعد ذلك فهناك الدار الآخرة التي هي الحيوان، لو كانوا يعلمون، تلكم الدار التي يحتاج القرار فيها إلى سلامة القلب من الشرك والنفاق والعجب والرياء، وسائر الأمراض التي نحن بصدد الحديث عنها؛ لخطورتها وسوء أثرها.
قال خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم : { وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيم } [ الشعراء 87 ـ 89 ] .
قلبٌ سليمٌ من الشك والشرك والشقاق والنفاق, سليم من الغل للذين آمنوا ... سليم من الرياء, سليم من الأحقاد...سليم لم يُصب بالقسوة ولم يختم عليه بالأختام ... سليم لم يتلوث بآثار الجرائم والذنوب والمعاصي ... ولم يتدنس بالبدع والخرافات والأوهام وظن السوء ، سليم يحمل كل هذه المعاني .
هذا هو القلب الذي ينفع صاحبه يوم القيامة، كما انتفع الخليل إبراهيم عليه السلام { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم 37 ] ، إبراهيم الذي ابتلاه الله بكلمات فأتمهن فجعله الله للناس إمامًا : { إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات 84 ] .
بصلاح هذا القلب يصلح سائر الجسد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ القلب " [ رواه البخاري ومسلم ] .
هذا القلب المنيب الذي يورث صاحبه الجنان وتقرَّب له وتُدنى، قال الله تبارك وتعالى : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُون لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيب *ٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ ق 31- 35 ] .
هذا القلب المليء بالخير سبب في الفتح في الدنيا، وسبب في الخير في الدنيا أيضًا، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلِ لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَم اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخذ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [ الأنفال 70 ].
فانظر إلى الآية الكريمة، كفارٌ أُسروا ووقعوا في الأسر في أيدي المسلمين فمنهم من يقول : إني كنت مسلمًا وكان في قلبي خير؛ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلِ لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَم اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخذ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [ الأنفال 70 ] .
فالله يؤتي الخير بناءً على الخير الذي في القلوب ، وهو سبحانه يغفر الذنوب؛ للخير الذي في القلوب : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } .
وها هم أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كيف نزلت عليهم السكينة, وبما نزلت بعد توفيق الله سبحانه لهم ؟ قال الله سبحانه : { لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } [ الفتح 18 ] .
فانظر إلى قوله تعالى : { فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } [ الفتح 18، 19 ] .
فلما علم الله ما في قلوب أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم؛ أنزل السكينة عليهم, وأثابهم فتحًا قريبًا, ومغانم كثيرة يأخذونها... كل هذا لما علمه الله من الخير الذي في القلوب.
وانظر كذلك إلى فائدة تعلق القلب بالمساجد, قال النبي صلى الله عليه وسلم : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ " [ رواه البخاري ومسلم ] .
فالخيرات والبركات, والنصر والفتوحات كل ذلك يتنزل من عند الله سبحانه على قدر ما في القلوب من خير .
وكذلك رفع الدرجات, وعلو المنازل ووراثة الجنان كل ذلك من عظيم أسبابه: ما في القلوب من خير ، والله سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب والأعمال، ويُجازي عليها ويثيب ويعاقب، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ " .
وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " [ رواه مسلم ] .
فما أسعد أصحاب القلب السليم! هنيئًا لهم هؤلاء الذين وحَّدوا ولم يشركوا به شيئًا, ولم يراءوا ولم ينافقوا... هنيئًا لهم هؤلاء القوم الذين باتوا وليس في قلوبهم غلٌّ للذين آمنوا ... هنيئًا لهم هؤلاء الذين أحبوا للمؤمنين ما أحبوه لأنفسهم ... هنيئًا لهم هؤلاء الذين حافظوا على قلوبهم ولم يلوثوها بذنوب ترسب عليها السواد والنكت والران والختم ... هنيئًا لهم هؤلاء الذين اطمأنت قلوبهم بذكر الله ، طوبى لهؤلاء وحسن مآب ... يكاد أحدهم يطير في الهواء من سعادته وخفة قلبه, وهو يحب للمؤمنين الخير وقلبه نظيف من الذنوب والمعاصي، وقلبه سعيدٌ لحلول الخير على العباد... هنيئًا لهم هؤلاء الرحماء أرقاء القلوب لذوي القربى والمسلمين .
وكذلك العقوبات والمؤاخذات كمٌّ كبيرٌ منها ينبني على ما في القلوب ، قال الله تعالى : { ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَت قُلُوبُكُمْ } [ البقرة 225 ] .
وها هم أصحاب الجَنَّةِ، أصحاب البستان الذين ابتلاهم الله عَزَّ وَجَلَّ عوقبوا عقوبة عاجلة في الدنيا؛ لما أضمرته قلوبهم من شر وبخل كما حكى الله سبحانه فقال : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحينَ * وَلا يَسْتَثْنُون *َفَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُون *َ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم } [ القلم 17ـ 20 ] .
وها هي طائفة من أصحاب رسولنا صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنهم وعفا عنهم ـ لما خرج بعضهم يريد الدنيا يوم أُحد كانت إرادته سببًا في هزيمة إخوانه، عفا الله عن الجميع، قال الله سبحانه : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ في الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاَكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُمْ مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدَ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }[ عمران 152] ، فيا سبحان الله! كيف كانت إرادة الدنيا عند فريقٍ سببًا في هزيمته وهزيمة من معه؟ وها هو رجل ـ الغالب عليه النفاق ـ لم ير المؤمنون منه نفاق، لكن الله يعلمه ويعلم ما في قلبه، ذلك الرجل كان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان جريئًا, كان شُجاعًا, كان مغوارًا ، كان لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا تبعها، يقتل من المشركين الجم الغفير, ويجرح فيهم ويطعن !
ولكن الله يعلمه ويعلم ما في قلبه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه : " أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ " ، فكاد المسلمون أن يرتابوا؟ كيف هو من أهل النار، وهو أشجعنا؟! سبحان الله هو من أهل النار؟! ولِم هو من أهل النار؟ الله يعلم ذلك, هو سبحانه الحكيم الخبير هو العليم بما في الصدور، هو العليم بما في قلب هذا الرجل. ها هي قصته، وها هو شأنه :
أخرج البخاري ومسلم من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَسْكَرِهِ وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ فَقَالَ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَنَا صَاحِبُهُ ، قَالَ : فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ ، قَالَ : فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : " وَمَا ذَاكَ؟ " قَالَ : الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ : أَنَا لَكُمْ بِهِ ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ " ، فعياذًا بالله, ما أشقى هؤلاء أصحاب القلوب الخبيثة ! ما أشقى هؤلاء الذين حملوا بين جثمانهم قلوب الشياطين ! ما أتعس هؤلاء الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا ! ما أتعس هؤلاء الذين نافقوا وخدعوا المؤمنين والمؤمنات .
ما أشد عذاب هؤلاء الذين امتلأت قلوبهم بحب شيوع الفاحشة في الذين آمنوا؛ فادُّخر لهم العذاب الأليم في الآخرة فضلاً عما عُجِّل لهم منه في الدنيا !
فإلى هؤلاء الذين اشتعلت قلوبهم بنار الغِلِّ وامتلأت بنار الحسد والكبرياء، هلموا يا هؤلاء إلى إخماد هذه النيران وإطفائها, من قبل أن تستعر في أجوافكم فتُمزق القلوب وتحرق الأجساد .
إلى هؤلاء الذين منعهم الحقد على العباد من النوم, وجعلهم يتقلبون على الفُرُشِ طيلةَ ليلهم، هلموا إلى ما يجلب لكم النوم ويحقق لكم الراحة .
إلى مَنْ حسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، وأرادوا أن يتحكموا في أرزاق الله، وفي أقدار الله، وفي تدبير الله ففشلوا في ذلك ولم يستطيعوا منع رزق الله عن أحدٍ، ولا جلب ضرٍّ لأحد، فباتوا وقلوبهم مضطربة، وقلوبهم قلقلة، وقلوبهم ملوثة، وقلوبهم مدنسة ألا فأقبلوا يا هؤلاء على ما يُسكِّن القلوب ويُهدئ الفؤاد .
إلى مَنْ أشركوا بالله ما لم يُنزل به سلطانًا فأُلقي في قلوبهم الرُّعب ، إلى مَنْ نافقوا وخادعوا وأقبلوا على الرياء والسُّمعة, وعملوا للناس ولم يعلموا لله؛ فحبطت أعمالهم وذهب ثوابها ، ألا فليعلم جميع هؤلاء: أن الله يعلم ما في قلوبهم فليحذروه ، ألا فليعلم هؤلاء: أن الله عليم بذات الصدور فليصلحوها ، ألا فليعلم هؤلاء : أن هناك نار تطلع على الأفئدة , كما قال تعالى : { ومَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ } [ الهمزة 5 ـ 7 ] ، إنها نار يطلع لهيبها إلى الفؤاد فيحرقه ... إنها نار ترى النيات الخبيثة, والعقائد الخبيثة, والأمراض الخبيثة في القلوب فتحرق تلك القلوب؛ عياذًا بالله ، فنداء، واستصراخ قبل أن تُحرق هذه القلوب ، فجديرٌ بالعبد أن يتجه إلى إصلاح قلبه، وتنظيفه وحشوه بالخير، وملئه بالإيمان وغرس التقوى فيه .
جدير بالعبد أن يكثر من ذكر الله, وأن يسأل ربَّه سبحانه وتعالى لقلبه الشفاء والثبات على الإيمان حتى الممات ... حريٌّ بالعبد أن يبحث عن سبب مرض قلبه, وأن يسأل عن علاجه .
ها هي جملة أمراض تعتري القلوب، وها هو علاجها، والشفاء في كل حال من عند الله سبحانه وتعالى، لا شفاء إلا شفاؤه ، فإلى أمراض القلوب، ها هو المرض، وهذا علاجه، هذا هو الداء، وهذا دواؤه .
دواءٌ لا يكاد يخطئ، بل لا يخطئ أبدًا ما دام دواءً من عند الله، ما دام دواءً من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم... فعليك بالدواء ولا تفرط فيه ولا تُقَصِّرْ في تناوله ولا تتغافل عنه .
وعموماً فقد وصفنا الداء ، وأوجدنا الدواء ، وكل يعرف ماله وما عليه .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام جامع البازعي بتبوك
 

يحيى الزهراني
  • رسائل ومقالات
  • مسائل فقهية
  • كتب ومحاضرات
  • الخطب المنبرية
  • بريد الشيخ
  • الصفحة الرئيسية