اطبع هذه الصفحة


•~•~• لقـــــاء لن يتكــرر •~•~•

حطين


على خلفية خبرٍ مفاده أن شخصاً عثر على سيف صلاح الدين الأيوبي في العراق وباعه دون علم بخمس دولارات في حين اشتراه المتحف بمليون دولار .
جمعني القدر بصـلاح الدين في أحد نواحي بلادنا الإسلامية المنكوبة وقد امتطى صهوة جواده الأصهب باحثاً عن سيفه و مصمماً على الثأر ممن دنس كتاب الله وعبث بحرمات المسلمين فكان هذا اللقاء غير العادي ..

حطين : أرجوك أأنت حقاً صلاح الدين الذي سارت بشجاعته وسماحته الركبان ؟
أأنت حقاً فارس حطين ؟
أأنت من استعاد بيت المقدس بعد أن سقط أسيراً في يد الصليبيين لأكثر من تسعين عاماً ؟؟
أرجوك يا سيدي اسمح لي باقتطاع جزء من وقتك فأنا مغرمة بسير الأبطال وأنت أحدهم ..
ومع علمي بكراهيتك للأضواء إلا أن لقاء كهذا لابد منه فلعل شباب الأمة وفتيانها أن يستيقظوا من سكرتهم وتُلهب حماستهم فيدفعون عنا الضيم والقهر الذي تغرق فيه الأمة منذ قرون ..
صلاح الدين : أنا في عجلة من أمري ولكن لهفتكِ وما أراه من تغير حال بني الإسلام سيجعلني أقف لطلبك مع حقي في حذف ما ألبستني إياه من ألفاظ لا أستحقها وما توجتني به من بذخ في الثناء .. فأنا أعلم بحالي يا ابنتي .. !

حطين : حسناً أيها الفارس ما سيرتك الذاتية ؟
صلاح الدين : يوسف بن أيوب بن شاذي أصولي تمتد إلى أذربيجان وتحديداً من قرية " دوين "
ولدت سنة 532هـ بتكريت في العراق ونشأت وتعلمت العلم بدمشق والقاهرة والإسكندرية ..
ثم عملت بعدها - برفقة أبي ( نجم الدين ) وعمي ( شيركوه ) - في خدمة نور الدين زنكي ( سلطان دمشق وحلب والموصل ) ..

حطين : كيف وصلت للوزارة لدى الفاطميين بمصر وأنت في خدمة نور الدين في الشام ؟
صلاح الدين : اشتركت مع عمي ( شيركوه ) في حملة على مصر بتوجيه من ( نور الدين )
بعد أن كان النزاع محتدماً على الوزارة بين ( ضرغام ) الذي استعان بالصليبيين و ( شاور ) الذي استعان بـ ( نور الدين ) فكان لعمي الظفر باسم ( نور الدين ) فولّاه الخليفة الفاطمي ( العاضد ) الوزارة لكن عمي ( شيركوه ) رحمه الله لم يلبث أن مات فاختارني ( العاضد ) سنة 564هـ
لأخلف عمي في الوزارة وقيادة الجيش ولقبني بالملك الناصر ..

حطين : وزير سني في دولة باطنية ؟! كيف سارت بك الأمور ؟
صلاح الدين : كنتُ ضعيف الخبرة قليل الدراية ولكن الله وفقني أن أقرأ التاريخ فاستلهمتُ العبر وعلمتُ أن من سنن الله التغيير وأنه ولابد حاصل، فإمّا أن أستعجل الثمرة لأقطفها قبل نضجها عن طريق الاصطدام مع الفاطميين أو أنالها طيبة نضرة ، فاخترت الثانية وسلكتُ نهج التغيير الواعي المتزن ..

حطين : ماذا فعلت ؟
صلاح الدين : ابتعدت تماماً عن الاصطدام المباشر وحاولت أن أعيد مصر إلى الخلافة العباسية ، وقوَّيت المذهب السني عن طريق : عزل القضاة الشيعة وإنشاء مدارس الفقه السني ، وبعد أن استقرت الأمور أعلنتُ في أول جمعة من المحرم سنة 567هـ - منتهزاً مرض ( الخليفة الفاطمي ) - قطع الخطبة للفاطميين ودعوت للعباسيين فسقطت دولة كانت أصلاً في النزع الأخير ..

حطين : المتربصون كُثر والموالون للباطنية مثلهم .. كيف استطعت حماية دولتك الوليدة في ظل أخطار محدقة ؟
صلاح الدين : كان هذا في ذهني منذ البداية لذا حرصتُ على توطيد دعائم الدولة الوليدة وبسط هيبتها في الأرجاء مما سهّل عليّ بحمد الله القضاء على المغرضين.. وسياسة التغيير المتزن أسعفتني .
ثم إنّ ( نور الدين ) رحمه الله والذي أدين له بالولاء وأحكم مصر باسمه توفي فتفجّرت الخلافات بأرض الشام وكنت أرقب ذلك وأتحين الفرصة لأتدخل لإنقاذ الشام قبل أن تكون لقمة سائغة في أفواه الصليبيين المتربصين حتى واتتني حينما طلب أحد أمراء دمشق مساعدتي فانطلقت إليه فاستسلمت المدينة ودخلت في سلطتي عندها ضممت مدناً من سورية ولبنان ، ومنحني العباسيون دعماً معنوياً حينما توجوني بلقب ( السلطان ) فأعلنت الاستقلال عن الأيوبيين في الشام .

حطين : ألا ترى أن فترة امتدت من ( 570 هـ ) إلى ( 582 هـ ) من أجل توحيد جبهة داخلية فقط طويلة ؟
صلاح الدين : لم تكن طويلة في عمر قيام الدول ولا في عمر صناعة النهضة ، المسألة ليست تحقيق مجد سريع الاكتساب سريع الذهاب لم يكن هذا هدفي .. وهل كنت سأغفر لنفسي لو زججت بالمسلمين في حرب مع الصليبيين في الوقت الذي تعصف بنا من الداخل الأهواء المتعددة والمذاهب المنحرفة ؟ ..
لو فعلتها لكانت جريمة بشعة بحق أمتي وتاريخها ..

حطين : إذن فقد تفرغت في حملة مكثفة لإعادة النهضة وإحياء تراث الأمة ودخلت في هدنة مع الصليبيين لأربع سنوات فما الذي فجّر الحرب إذن وخرق الهدنة ؟
صلاح الدين : قام ( أرناط ) – حاكم الكرك – بحماقات تجاوز فيها كل الحدود تذرعتُ ابتداءً بالصبر وأرسلتُ له مقبِّحاً ومتوعداً.. فما كان منه إلا أن استخف بالمسلمين جميعاً حيث استولى على قافلة تجارية وأسر حاميتها وعندما سألوه الأمان والعهد الذي بينه وبين المسلمين تعدّى على جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً : " قولوا لمحمدكم يخلِّصكم "
فسرت نار الحمية الدينية في دمائي وأقسمتُ على الانتقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدماء المسلمين التي سفكها وقد كنتُ قبل أُعدّ العدة لنزالهم ولم آمن جانبهم أبداً ..

حطين : كيف سارت الأمور بعد هذا ؟
صلاح الدين : غادرتْ قوات المسلمين والتي تجمعت من نواحي الشام ومصر وتركية دمشق في المحرم من 583 هـ
فحاصرتْ ( حصن الكرك ) ودمرتْ زروعه ثم اتجهتْ ( للشوبك ) ففعلتْ به مثل ذلك ثم قصدتْ ( بانياس ) بالقرب من ( طبرية ) لمراقبة الموقف ..
أما الصليبيون فقد تجمعوا بقيادة ( ملك بيت المقدس ) في ( صفورية ) وانضمت إليها قوات ( ريموند الثالث ) حاكم ( طرابلس ) على الرغم من الخصومة الشديدة مع ( ملك بيت المقدس ) ..

حطين : سبحان الله ( وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ) كيف كانت خطتكم لكسر شوكة هذا التجمع الكافر ؟
صلاح الدين : كنت أرغب في إجبارهم على المسير إليّ لألقاهم متعبين ، بينما يدّخر جيشي قوته للمعركة الفعلية ولم يكن من سبيل لهذا إلا بمهاجمة ( قلعة طبرية ) حيث تحتمي بها زوجة ( ريموند الثالث ) مما أثار الصليبيين وجعلهم يعقدون اجتماعاً عاجلاً لينتهي إلى رأيين :
( ريموند ) ورأى أن الزحف إلى طبرية جنون حيث وعورة الطريق وطوله وقلة الزاد ..
( أرناط ) وقد اتهم ( ريموند ) بالجبن رأى ضرورة الإجهاز علينا في طبرية وأيده في هذا ( ملك بيت المقدس ) .
في 21/4 / 583 هـ زحفت القوات الصليبية في ظروف صعبة قاطعين نحو 27 كيلومترا إلى ( طبرية )
بينما تقدمتُ بجيش المسلمين تسعة كيلومترات فقط نحو ( قرية حطين ) الواقعة بالقرب من ( طبرية ) فجعلتها عن يميني وبحيرة طبرية ورائي حتى أحول بينهم وبين الماء ..
في 23/4/583 هـ وصل الصليبيون إلى جبل طبرية المشرف على سهل حطين فما كان من جنود الإسلام البواسل إلا القيام بإشعال النار في الهضبة فحملت الرياح حرارة النار والدخان إليهم فباتوا بشر ليلة ..

حطين : قائدنا الهمام ماذا يعني لك يوم السبت 24-4-583هـ ؟
صلاح الدين : في ليلة السبت انتهز رجال الإسلام البواسل ستر الليل ليضربوا طوقاً شديد الإغلاق على الصليبيين فلما كانت صبيحة حطين عملت سيوفنا في أعداء الله فاختل توازنهم واختلطت صفوفهم ، فحاولت بقية منهم الاعتصام بجبل حطين فأحاط بهم المسلمون وشدوا عليهم كرجل واحد حتى لم يبق منهم إلا ملك بيت المقدس ومعه بعض أعيان الصليبيين و نحو 150 فارساً .

حطين : هناك في خيمتك كانت مواقف سجلها لك التاريخ .. حدثنا عنها .
صلاح الدين : لما قِيد ( ملك بيت المقدس ) و ( أرناط ) ومن معهم من الأسرى إلى الخيمة جيء إلي بماء مثلج فشربتُ ثم ناولت الماء لـ( ملك بيت المقدس ) فشرب ، فلما انتهى أعطى ما تبقى لـ( أرناط ) فغضبتُ منه ونهرته قائلاً :
" إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني " ثم إني دعوت ( أرناط ) إلى خيمة أخرى وقرّرته بما فعل بالمسلمين وعرضتُ عليه الإسلام فأبى ، فقلت له : " نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته "
ثم جززت رأسه عن جسده وأرسلت به إلى الصليبين في الخيمة الأولى وقلت لهم : إن هذا تعرض لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنتُ قد نذرت مرتين أن أقتله إن ظفرت به.. إحداهما : لمّـا أراد المسير إلى مكة والمدينة والأخرى : لمّـا نهب القافلة واستوى عليها غدراً " .. ثم إني أمرتُ بجميع الفرقة العسكرية الدينية فقتلتهم لما سفكوا من دماء المسلمين ..

حطين : لا يُذكر صلاح الدين إلا وتُذكر حطين ولا تُذكر حطين إلا وينصرف الذهن إلى فارسها .. ماذا تعني لك ؟
صلاح الدين : لم تكن حطين هزيمة طبيعية للصليبيين فقط.. لقد كانت كارثة .. قُتل منهم من قُتل وأُسر من أُسر حتى إن الناظر للأسرى يقول : ما من قتيل . والناظر للقتلى يقول : ما من أسير ..
لم تكن حطين نهاية لتاريخ الروم في منطقتنا الإسلامية بل كانت بداية النهاية خاصة وأنها جاءت بعد مرحلة مثخنة بالهزائم فكانت قاعدة لنجاحات متلاحقة ويكفيها شرفاً إسقاطها لأسطورة " الفارس الصليبي الذي لا يُقهر " ..
حطين كانت الباب الذي مهَّد لفتح بيت المقدس في 27/7/583هـ وتحقيق حلمٍ لطالما سيطر على نور الدين زنكي رحمه الله حتى بنى منبراً وجهزه ليضعه في الأقصى عند استعادة القدس ..
حطين تعني أن الله قريب ممّن دعاه ورجاه فكثيراً ما دعوت ( إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نُصرة دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل ) ..

حطين : الأمة اليوم تحتاج إليك يا صلاح الدين ؟
صلاح الدين : الأمة ليست في حاجة إلى اختزال الدين ونصرته في رجل واحد ؟ لماذا تنتظر الأمة المخلِّص ؟
لماذا لا تصنع هذا المخلص ليكون ابن زمانها ومكانها ؟ أنا لا أنتمي لهذا الزمان أبداً ولا يمكن أن يعود الزمان للوراء .!
الأمة اليوم بحاجة لأن يستيقظ أفرادها ويعوا مسؤوليتهم كاملة ويقدموا رسالتهم الحضارية للعالم و العالم متعطش لقيم كقيم الإسلام ، رسالة الأمة لا يمكن أن يؤديها فيلم سينمائي كـ ( مملكة السماء ) الذي جعل من صلاح الدين أسطورة حتى ظنّ البعض أنني نصراني شرقي ، بل و ألبسني ثوباً هو أقرب للمقاتل القومي منه إلى المجاهد في سبيل الله كل هذا من أجل تنحية الإسلام عن المعركة ، ثم هو جاء ليركز على بعض صور العفو كاسراً لأوثق عرى الإيمان ( الولاء والبراء ) وناشراً لفكر ( الإنسانية ) في المسلمين الذين يذبحون على مرأى من العالم ، وحتى تكتمل خيوط اللعبة القذرة يركز الفيلم على إظهار بسالة الصليبيين بشكل منقطع النظير ..

صلاح الدين يغادر المكان إلى جهة غير معلومة ..

حطين : وللسادة القراء الأفاضل أن يعلموا أن بطلنا قد ضم بلاد الشام إلى مصر وفتح اليمن واستقر له الأمر بالجزيرة وأمّن طريق المسلمين لمكة والمدينة ونشر العدل وأسقط المكوس وأعدّ الجيوش وكان قد أعدّ أسطولاً بحرياً تصدى به لحملات الصليبيين وتهديدات ( أرناط ) لمكة والمدينة ..
وكان قد أظهر للصليبيين بعد ( موقعة حطين ) وبعد ( فتح بيت المقدس ) سماحة لم يلقها المسلمون الذين سارت خيول الصليبيين في دمائهم إلى ركبها ..
وبعد فقد رحل صلاح الدين من الدنيا – أثناء مفاوضات صلح الرملة - في 27-2-589 هـ مرابطاً في سبيل الله ففُجع المسلمون بوفاته ولم يكونوا أصيبوا بمثله منذ فُقد الخلفاء الراشدون ..
رحل ولم يترك مالاً ولا عقاراً إلا ما وجدوا في خزانته ( دينار و 47 درهماً ) وقد قنع من الدنيا بخيمة تهب عليها الريح يمنة ويسرة في أرض الجهاد ..
رحل زاهداً ورعاً عفيف النفس طاهر اليد أنفق حياته في الجهاد وحماية ثغور الإسلام ..رحمه الله رحمة واسعة ..

كان هذا اللقاء - الذي جرت به أحلامي وأسعفتني بعباراته قراءتي لسنوات في سيرة هذا البطل الذي شُغفت به وبشجاعته دهراً - في يوم الأربعاء 24-4-1426هـ والذي وافق مرور 843 عاماً على انتصار المسلمين على الصليبيين في معركة ( حطين ) يوم السبت 24-4-583هـ .

سؤالي للجميع .. أتستطيع أن تقدم للأمة كصلاح الدين ؟
 

منوعات الفوائد