اطبع هذه الصفحة


الطريق إلى التمكين
تلخيص لفصل منهج الحركة من كتاب واقعنا المعاصر لمحمد قطب

علاء شعبان


تغيير حال هذه الأمة ، وإرجاعها إلى حقيقة الإسلام ، أمر لا يتم بالسهولة التي يتصورها كثير من الناس ، إنما يحتاج – بحسب السنة الجارية – إلى وقت أطول بكثير ، وجهد أكبر بكثير ، مما تم في هذه اللحظة في جميع الميادين .
فيحتاج إلى :
أولاً : " تبيين الحقائق المجهولة من هذا الدين " .
ثانياً : " تربية الناس على ما تقتضيه هذه الحقائق من سلوك واقعي في واقع الحياة " .

وهنا قد يقول قائل :
هل من المعقول أن ننتظر حتى تتربى الأمة كلها على الإسلام ؟ وكيف نربى والحكومات المعادية للإسلام تنقض علينا كل فترة من الزمن ، كلما ربينا جيلاً من الشباب أخذوه ، فعذبوه وقتلوه وقضوا عليه ؟

فأما بالنسبة للسؤال الأول فنقول :
لم يقل أحد قط إنه ينبغي الانتظار حتى تتربى الأمة كلها ، فهذا أمر – بالفعل – لا يتحقق أبداً في واقع الأرض .
ومجتمع الرسول  صلى الله عليه وسلم  لم يكن كله على القمة السابقة التي كان عليها أصحابه رضى الله عنهم ، الذين رباهم على عينه ، وتعهدهم برعايته .
بل هؤلاء أنفسهم لم يكونوا على مستوى واحد من العظمة والارتفاع ، وقرن الرسول  صلى الله عليه وسلم  هو خير القرون على الإطلاق ؛ فما بالك بقرننا الحاضر !
إنما المقصود أن تتربى القاعدة التي تحمل البناء ، بالحجم المعقول ، وبأقرب شئ إلى المواصفات المطلوبة لهذا العمل الخطير .
وأما بالنسبة للسؤال الثاني فنقول :
نعم نحنُ معكم إنهم بالفعل يعوقون الحركة عن الإنطلاق ، أما القضاء على الحركة فهم أنفسهم لا يزعمون ذلك وإن تمنوه إنما الذي يحدث دائماً – بقدر من الله ، وحسب سننه – أنه بعد كل مذبحة بشعة يقومون بها يأتي مد جديد من الشباب ، وتتسع القاعدة على الدوام – برغم كل التعذيب الوحشي ، وكل التقتيل والتشريد .
( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) [سورة الفتح 48/23]

فربما يقول أحد أحبتنا :
لقد ربينا بما فيه الكفاية ، وآن الأوان أن "نعمل".
وهذه المقولة – على قصرها – تشتمل على قضيتين خطيرتين من قضايا العمل الإسلامي ، تحتاج كل منهما إلى بيان :
الأولى : هل ربينا حقاً بما فيه الكفاية ؟ وما المعيار الذي نقيس به ما تم من التربية حتى اليوم ، لنعرف إن كان كافياً أم إنه يحتاج إلى مزيد ؟
والثانية : ما نوع "العمل" المقصود ، الذي يفكر فيه المتعجلون ؟
نجيبُ أولاً عن السؤال الثاني لأنه محدد في أذهان أصحابه بخلاف الأولى فما تزال تحتاج إلى تحديد فنقول :
هناك نوعان رئيسيان من التفكير ، ونوعان من العمل ، يفكر فيهما من يطرح هذا السؤال بحسب كونهم من الشباب ومن الشيوخ ، بالإضافة إلى لون ثالث .

فأما الشباب – الذين تملؤهم الحماسة وتدفعهم إلى التعجل – فتفكيرهم هو :
وجوب الوصول إلى الحكم بالقوة ، وتربية الأمة من موقع السلطة لا من موقع الدعوة ، لأن التربية من موقع الدعوة أمر يطول به الزمن ويطول به الطريق ، بسبب وقوف الأعداء بالمرصاد ، وتعويقهم المستمر للحركة الإسلامية ، وتشتيتها كلما أرادت أن تتجمع .
وأما الشيوخ – الذين أجهدهم المشوار الطويل ، والضربات المتوالية على الطريق – فتفكيرهم هو الدعوة السلمية التي لا تصطدم مع السلطة أبداً ، والتي تتخذ جناحاً من أجنحتها الدخول في البرلمانات والانتخابات ، ومحاولة التأثير على مجرى السياسة من داخله ، أو على الأقل إعلان صوت الإسلام من داخل الأجهزة السياسية التي تسيطر اليوم على حياة الناس ، حتى يكون لهذا الصوت وقع في حس الناس .
ونحن نفترض – بادئ ذي بدء – الإخلاص الكامل في كل من الفريقين ( والفريق الثالث كذلك الذي سنتكلم عنه فيما بعد) .
ولكن الإخلاص وحده لا يكفي ؛ بل لابد معه من البصيرة ، لأن عدم البصيرة حري أن يفسد ثمرة الإخلاص !

نفترض جدلاً أن مجموعة من الشباب المتحمس قد أحكمت التدبير ، فقامت "بانقلاب" وأقامت حكومة إسلامية في أي بقعة من العالم الإسلام . فمن يُسندها ؟!
ولنأخذ مصر مثلاً : " فالقاعدة الإسلامية" في مصر هي أوسع قاعدة حتى الآن في العالم الإسلامي كله ، فهل تكفي هذه القاعدة لسند الحكم الإسلامي ، وحمايته من العدوان الصليبي الصهيوني المتوقع في جميع الأحوال ؟
ولنفترض أن أمريكا لم تتدخل بعدوان مباشر ، وإنما فقط مُنع القمح عن الشعب المصري !
هل يصبر الشعب المصري – في حالته الراهنة – على الجوع من أجل إقامة الحكم الإسلامي ؟ أم تسير المظاهرات – بقيادة الشيوعيين والعلمانيين والملحدين ، ومن ورائها " الجماهير " الجائعة – تقول : نريد الخبز والحرية ؟!
فلنكن واقعيين .. ولنقل إن "القاعدة الإسلامية" لم تزل بعد أصغر من حجم العمل المطلوب!
وقبل أن تقوم القاعدة بالصورة الصحيحة ، فكل محاولة للصدام مع السلطة للوصول إلى الحكم عبث غير مبنى على بصيرة ولا تدبر .. وقمته هو ما حدث في مذبحة حماة . . نموذجاً بارزاً ينبغي أن تتدبره الحركة الإسلامية جيداً لتعرف كل أبعاده ، ولا تقع في مثله مرة أخرى مهما كانت الأسباب .

فإن قال المتعجلون من الشباب : كيف نقعد " بلا عمل " حتى تتكون مثل تلك القاعدة ؟
فنقول : إن القاعدة تتكون ببطء نعم ، ولكنها تتسع على الدوام ، ولا تتوقف على النمو ، وينضم لها على الدوام شباب جديد ، يعلم سلفاً عقبات الطريق ، وعذابات الطريق ، فيوطن نفسه على ملاقاة الموت ، واحتمال العذاب ، ويطن نفسه كذلك على المشوار الطويل .
وذات يوم – لا يعلمه إلا الله سبحانه – ستنضح القاعدة وتتسع ، وتصبح بندقة صعبة الكسر وعندئذ – بسنة من سنن الله الجارية – سيدخل الناس فيها أفواجاً ، وسيجد العدو نفسه لا أمام جماعة منعزلة يحصدها حصداً وهو مطمئن ، إنما أمام أمة قد اجتمعت على إرادة موحدة ؛ فيجرى قدر الله بما تفرح به قلوب المؤمنين .
أما القول بأن الشباب سيقعد "بلا عمل" حتى تتكون تلك القاعدة .
فتقول لهم : من إذن الذي سيبنى القاعدة ؟! إن لم يكن هؤلاء الشباب أنفسهم ؟! وكيف يكونون بلا عمل إذا كانوا منهمكين في البناء ؟!

إنما تصدر هذه القولة نتيجة أمرين معاً :
1 - عدم إدراك الأبعاد الحقيقية المطلوبة لعملية التربية .
2 - الاعتقاد – من ثم – بأن التربية قد تمت ، وأننا ينبغي إذن أن ننقل إلى الخطوة التالية ، وهي ملاقاة الأعداء .

ولنتذكر بادئ ذي بدء أن شيوخ اليوم هم أنفسهم بقية شباب الجيل الأول المتعجل ! الذي كان يعتقد أن " العمل " قد وجب – وأنها ضربة قوية أو مجموعة ضربات ، فيخر الطغاة هداً ، ويحكم الإسلام !
وقد تخلى من أولئك الشباب من قبل من تخلى ، ولكن هؤلاء الشيوخ هم الذين بقوا ولم يتخلوا نعم ، لم يتخلوا .
ولكنهم يعتقدون أن الدعوة قد وصلت إلى طريق مسدود ، وأنه يجب – من ثم – تغيير الطريق !
والسبب في هذه الرؤية من جانبهم واضح .
فقد كانوا تربوا على أنهم هم الذين سيضربون الضربة الأولى ، أو مجموعة الضربات ، ثم تنجلي الضربة عن هزيمة العدو ، وانتصار الإسلام . في سنوات معدودات.
وقد وجدوا أنهم هم الذين يضربون المرة بعد المرة على امتداد السنوات ، وأن الأعداء هم الذين يكسبون الجولة ، بينما لا يصنعون هم شيئاً إلا تلقى الضربات.
ومن ثم فإن الطريق – كما تصوروه – يبدو مسدوداً بالفعل ، ولا يؤذن بانفتاح قريب ؛ فلابد – في حسهم – من البحث عن طريق غير مسدود .

والطريق الذي يظنونه موصلاً هو :
دخول البرلمانات والانتخابات، وإعلان صوت الإسلام من هناك ، مادام لا يُسْمَح بإعلانه من غير هذا الطريق .
وكما ناقشنا الشباب المتعجل ، الذي يدعو إلى حمل السلاح وملاقاة العدو ، ورأينا – على ضوء الواقع ، وعلى ضوء ما حدث في حماة – أن الصدام مع السلطة قبل تكوّن " القاعدة المسلمة " ذات الحجم المعقول ، عبث لا يجنى منع العمل الإسلامي إلا ما جناه في حماة .
كذلك نناقش الشيوخ المتعجلين ، الذين يظنون أنهم يحركون العمل الإسلامي بولوج هذا الطريق غير المسدود ، ويصلون عن طريقه إلى تحقيق الأمل المنشود .
نقول لهم نفس الشيء ، إن استخدام هذا الطريق عبث لا يؤدى إلى نتيجة قبل تكوّن " القاعدة المسلمة" ذات الحجم المعقول ! ولنفرض جدلاً أننا توصلنا إلى تشكيل برلمان مسلم مائة في المائة ، كل أعضائه يطالبون بتحكيم شريعة الله ! فماذا يستطيع هذا البرلمان أن يصنع بدون " القاعدة المسلمة " التي تسند قيام الحكم الإسلامي ، ثم تسند استمراره في الوجود بعد قيامه ؟!
انقلاب عسكري يحل البرلمان ، ويقبض على أعضائه فيودعهم السجون والمعتقلات ، وينتهي كل شئ في لحظات !!

إنه تفكير ساذج رغم كل ما يقدم له من المبررات ، وفوق ذلك فهو يحتوى على مزالق خطيرة تصيب الدعوة في الصميم ألا وهي :

أولاً : المزلق العقدي :
فكيف يجوز للمسلم الذي يأمره دينه بالتحاكم إلى شريعة الله وحدها دون سواها ، والذي يقول له دينه إن كل حكم غير حكم الله هو حكم جاهلي ، لا يجوز قبوله ، ولا الرضى عنه ، ولا المشاركة فيه .
كيف يجوز له أن يشارك في المجلس الذي يشرع بغير ما أنزل الله ، ويعلن بسلوكه العملي – في كل مناسبة – أنه يرفض التحاكم إلى شريعة الله ؟!
كيف يجوز له أن يشارك فيه ، فضلاً عن أن يُقسم يمين الولاء له، ويتعهد بالمحافظة عليه ، وعلى الدستور الذي ينبثق عنه ، والله يقول سبحانه:
( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) [سورة النساء 4/140] .
وهؤلاء حديثهم الدائم هو مخالفة شريعة الله ، والإعراض عنها ؛ ولا حديث لهم غيره ينتظره المنتظر حتى يخوضوا فيه ! فكيف إذن يقعد معهم ؟!
كل ما يقال من مبررات: أننا نُسْمعهم صوت الإسلام ، أننا نعلن رفضنا المستمر للتشريع بغير ما أنزل الله ، أننا نتكلم من المنبر الرسمي فندعو إلى تحكيم شريعة الله ، كل ذلك لا يبرر تلك المخالفة العقدية الواضحة .
يقولون : ألم يكن النبي  صلى الله عليه وسلم  يذهب إلى قريش في ندوتها ليبلغها كلام الله ؟‍!
بلى، ولكنه لم يكن يشاركهم في ندوتهم ، ولو أن مسلماً يدعو إلى تحكيم شريعة الله ، استطاع أن يذهب إلى ندوة الجاهلية المعاصرة ، ويُسْمح له بالكلام فيها كما كانت تَسْمح الجاهلية الأولى لرسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، لكان واجباً عليه أن يذهب وأن يبلغ ، لأنه في هذه الحالة لا يكون " عضواً " في الندوة ، إنما هو داعية من خارجها ، جاء يدعوها إلى اتباع ما أنزل الله ، فلا الندوة تعتبره منها ، ولا هو يعتبر نفسه من الندوة ، إنما هو مبلغ جاء يلقى كلمته ثم يمضى .
أما المشاركة في " عضوية " الندوة بحجة إتاحة الفرصة لتبليغها كلمة الحق ، فأمر ليس له سند من دين الله .

ثانياً : " تمييع القضية بالنسبة ( للجماهير ) " :
إننا نقول للجماهير في كل مناسبة إن الحكم بغير ما أنزل الله باطل ، وإنه لا شرعية إلا للحكم الذي يحكم بشريعة الله ؛ ثم تنظر الجماهير فترانا قد شاركنا فيما ندعوها هي لعدم المشاركة فيه ! فكيف تكون النتيجة ؟!
وإذا كنا نحن نجد لأنفسنا المبررات للمشاركة في النظام الذي نعلن للناس أنه باطل ، فكيف نتوقع من الجماهير أن تمتنع عن المشاركة ، وكيف تنشأ " القاعدة الإسلامية " التي سيقوم عليها الحكم الإسلامي ، القاعدة التي ترفض كل حكم غير حكم الله ، وترفض المشاركة في كل حكم غير حكم الله !
إننا نحسب أننا بدخولنا البرلمانات ، نقوم " بعمل " ييسر قيام " القاعدة الإسلامية " ، لأنه يدعو إليها من فوق المنبر الرسمي ، الذي له عند الناس رنين مسموع ، ولكنا في الحقيقة نعوق قيام هذه القاعدة بهذه التمييع الذي نصنعه في قضية الحكم بما أنزل الله .
فلا يعود عند الجماهير تصور واضح للسلوك " الإسلامي " الواجب في هذه الشئون ، ولن تتكون القاعدة بالحجم المطلوب لقيام الحكم الإسلامي حتى ينضج وعى الجماهير ، وتعلم علم اليقين أن عليها – عقيدة – أن تسعى لإقامة الحكم الإسلامي وحده دون أي حكم سواه ، وألا تقبل وجود حكم غير حكم الله .

ثالثاً : أن لعبة "الدبلوماسية" كما أثبتت تجارب القرون كلها ، لعبة يأكل القوى فيها الضعيف ، ولا يتاح لضعيف من خلالها أن " يُغافل " القوى فينتزع من يده شيئاً من السلطان !
والقوة والضعف – في لعبة الدبلوماسية – لا علاقة لها بالحق والباطل ! ولا علاقة لها بالكثرة والقلة !
فالأقلية المنبوذة من الشعب ، المكروهة منه ، التي تسندها في الداخل القوة العسكرية ، وتسندها من الخارج إحدى القوى الشيطانية الموجودة اليوم في الأرض هي القوية ، ولو لم يكن لها أنصار ، والأكثرية المسحوقة المستضعفة هي الضعيفة ، ولو كانت تمثل أكثرية السكان !
ومن ثم فالجماعات الإسلامية – الداخلة في التنظيمات السياسية لأعداء الإسلام – هي الخاسرة في لعبة الدبلوماسية، والأعداء هم الكاسبون! سواء بتنظيف سمعتهم أمام الجماهير ، بتعاون الجماعات الإسلامية معهم ، أو تحالفها معهم ، أو اشتراكها معهم في أي أمر من الأمور ؛ أو بتمييع قضية الإسلاميين في نظر الجماهير ، وزوال تفردهم وتميزهم الذي كان لهم يوم أن كانوا يقفون متميزين في الساحة ، لا يشاركون في جاهلية الساسة من حولهم ، ويعرف الناس عنهم أنهم أصحاب قضية أعلى وأشرف وأعظم من كل التشكيلات السياسية الأخرى ، التي تريد الحياة الدنيا وحدها ، وتتصارع وتتكالب على متاع الأرض .
ولا تعرف في سياستها الأخلاق الإسلامية ولا المعاني الإسلامية ؛ فضلاً عن مناداتها بالشعارات الجاهلية ، وإعراضها عن تحكيم شريعة الله .
ولم يحدث مرة واحدة في لعبة الدبلوماسية أن استطاع المستضعفون أن يديروا دفة الأمور من داخل التنظيمات السياسية التي يديرها أعداؤهم ، لأن " الترس " الواحد لا يتحكم في دوران العجلة ، ولكن العجلة الدائرة هي التي تتحكم في " التروس " ! وما حدث من " إصلاحات " جزئة عارضة في بعض نواحي الحياة على يد " الإسلاميين " لا تطيقه الجاهلية ولا تصبر عليه ، وسرعان ما تمحوه محواً وتبطل آثاره .
وتظل الآثار السيئة التي ينشئها تمييع القضية باقية لا تزول ، وشرها أكبر بكثير من النفع الجزئي الذي يتحقق بهذه المشاركة ، حتى لكأنما ينطبق عليه قوله تعالى:
( فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) [سورة البقرة 2/219]
أما توهم من يتصور أن الجاهلية تظل غافلة حتى يتسلل الإسلاميون إلى مراكز السلطة ، ثم – على حين غفلة من أهلها – ينتزعون السلطة ويقيمون الحكم الإسلامي ، فوصفه بالسذاجة قد لا يكفي لتصويره ! وتجربة الجزائر تكفي – فيما اعتقد – لإبطال هذا الوهم – إن كان له وجود حقيقي في ذهن من الأذهان .
أخيراً :
أما الفريق الثالث من المتعجلين فهم : أصحاب " التفكير العلمي" و"الدراسات العلمية"!
وقد نبت هذا الاتجاه أو تمركز عند الشباب العربي المسلم الذي يعيش في أمريكا ، وإن كانت له جذور مشابهة ، أو مماثلة عند غيرهم ممن يعيش في أوربا أو في " العالم القديم " !
يقول أصحاب هذا الاتجاه إن " التجربة الشرقية " قد استنفدت أغراضها ، ووصلت إلى طريق مسدود .
وإنه أن الآوان أن تتسلم قيادة العمل الإسلامي عقول جديدة ، تفكر بطريقة جديدة تكفر تفكيراً علمياً ، مبنياً على دراسات علمية ؛ فتقدم للناس الحلول العملية لمشكلاتهم ، مستمدة من الإسلام ، وهذا هو الطريق !
ومن كل قلوبنا نتمنى للقيادة الجديدة التوفيق ، ولكنا نتدارس معهم مدارسة " علمية " و " واقعية " في مزالق هذا الطريق .
إن تصور أن كل الذي ينقص الناس هو معرفة الحلول الإسلامية لمشكلاتهم ، وأنهم إن عرفوا ووثقوا واطمأنوا أن الحلول الإسلامية أفضل من الحلول الرأسمالية والاشتراكية ، ووثقوا بأنها حلول عملية لا نظرية ، ولا دعائية ، ولا خطابية ، فسيقبلون لتوهم على الإسلام ، ويقيمون لتوهم حكومة إسلامية .
إن هذا التصور قد نشأ – على الأرجح – من حياة أولئك الشباب في ظل الديمقراطية الغربية ، حيث الحرية متاحة لكل الناس أن يفكروا ، وأن يجربوا ، وأن يدعوا ، وحيث يوجد احتمال – ظاهري على الأقل – أنه حين يقتنع الناس بشيء فإنهم يسعون إلى تطبيقه في عالم الواقع ، ويتمكنون – عن طريق الأجهزة الديمقراطية – من تنفيذه ( ).
ونفترض جدلاً أن كل الذي ينقص الناس في " العالم القديم " هو معرفة الحلول الإسلامية العملية لمشكلاتهم ، وأنهم إن اطمأنوا ووثقوا أن الإسلام يقدم لهم حلولاً عملية أفضل مما تقدم الرأسمالية والاشتراكية ، فسيسعون بالفعل لإقامة الحكم الإسلامي .
نفترض هذا ، ونسقط كل الدلالة المرة التي تدل عليها مرور مقتل الإمام الشهيد ومرور مذابح السفاح هينة على قلوب الناس ، لأن وعيهم بأن تحكيم شريعة الله جزء من عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ما زال ناقصاً جداً ، وما زال في حاجة إلى بيان طويل ودعوة وتربية ، حتى تصحح العقيدة إلى صورتها الربانية الحقيقية التي جاء بها رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من عند الله .
نفترض هذا ، ونفترض أنه بمجرد أن تعرض عليهم الأبحاث العلمية المتضمنة للحلول الإسلامية العملية سيقتنعون بالإسلام ، وبضرورة " الحل الإسلامي "، ويسعون إلى التطبيق ، أو يطالبون بالتطبيق ؛ فماذا تكون النتيجة ؟
هل تقول روسيا وأمريكا إنه ما دام المسلمون قد اقتنعوا عن طريق الدراسة العملية والتفكير العلمي بضرورة إقامة حكومة إسلامية فدعوهم وشأنهم ! وليقيموا حكمهم الإسلامي الذي ينشدون ؟! أم إنهما ستكلفان عملاءهما – كما تفعلان الآن – بتذبيح المسلمين وتقتيلهم ، وتشريدهم وتعذيبهم ، لكي يتخلوا عما هم مقدمون عليه من إقامة حكومة إسلامية في الأرض؟!
وعندئذٍ :
هل يكفي "الاقتناع" وحده ، و" التفكير العلمي " وحده ، لمواجهة التعذيب الوحشي الذي يصب على المسلمين المطالبين بتحكيم شريعة الله ؟ أم يحتاج الأمر إلى " عقيدة " ؟ .. العقيدة التي تقول إنها قضية كفر وإيمان لا قضية الحل " الأفضل ".. قضية جنة ونار ، لا قضية مشكلات عملية في الحياة الدنيا تحتاج إلى حل ! والتي يستيقن الناس بها أنهم لا يكونون مؤمنين ، ولا يتقبلهم الله يوم القيامة إذا أرادوا التحاكم إلى غير شريعة الله ، أو رضوا بحكم غير حكم الله .
ولا شك أن الإسلام هو دين الدنيا والآخرة ، وأنه ليس عقيدة فحسب ، إنما هو عقيدة ومنهج كامل للحياة ، محسوب فيه كل احتياجات البشرية في الحياة الدنيا ، بل محسوب فيه أن ترتفع الحياة البشرية عن مستوى الضرورة ، وتصل إلى درجة " الجمال " ودرجة " الإحسان " في كل شئ :
[ إن الله كتب الإحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، و ليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته ] .
وأنه يقدم لتلبية هذه الاحتياجات وتنميتها وترقيتها أفضل منهج وأحنه:
( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [سورة المائدة 5/50]
صحيح هذا كله ، ولكن لأمر ما أمر الله رسوله  صلى الله عليه وسلم  أن يقيم الاعتقاد الصحيح أولاً ، ويجلى للناس الألوهية ، ويبين لهم أن الالتزام بما جاء من عند الله من أمر ونهي هو مقتضى هذه العقيدة الذي لا تصح بدونه ، ثم – بعد ذلك – أنزل " الحلول العملية " لمشكلات البشرية ، وجعل الالتزام بها قضية كفر وإيمان ، وقضية جنة ونار :
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ....) [سورة النساء 4/65]
( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ )[سورة المائدة 5/44]
( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ) [سورة الأعراف 7/3]
( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) [سورة الشورى 42/21]
فإن نحن قدمنا " الحلول العملية " للناس قبل أن يستقر في خلدهم – إلى درجة اليقين – أن التزامهم بشريعة الله أو عدم التزامهم بها هو قضية الإيمان والكفر.. قضية الجنة والنار.. فهل يتم الأمر على الصورة التي يتخيلها الباحثون ؟!
وما القول في الذين يقولون لك – وهم كثير – بعد أن تقنعهم عن طريق البحث العلمي والدراسة العلمية أن الحل الإسلامي هو الأفضل ، يقولون لك : أقتنعنا ! وما كنا نتصور – والله – أن الإسلام بهذه العظمة وهذا الشمول وهذه القدرة على تقديم الحلول العملية لمشكلات الناس ! هلموا ! أقيموا الدولة الإسلامية ، وحين تقيمونها ستجدوننا أول المستحبين !
هل تقوم الدولة الإسلامية على هذه الصورة ؟!
إن الاقتناع العقلي وحده لم يغير قط في عالم الواقع ، حتى في أوقات السلامة وألمن ، فضلاً عن حالات الاضطهاد الوحشي ! وهذه هي " الفلسفة " منذ سقراط وأرسطو إلى وقتنا الحاضر .
هل غيرت شيئاً في واقع الأرض ؟ إلا أن تكون عقيدة أو مرتكزة على عقيدة ، فعندئذ تكون العقيدة هي التي تغير واقع الناس .
والذي أثبتته التجربة في "العالم القديم" أن هذه العقيدة هي التي تحتاج قبل كل شئ إلى تصحيح. لأنها فرغت من محتواها خلال الأجيال، وفي القرن الأخير خاصة، فأصبحت في حاجة ملحة إلى بيان حقيقتها، ثم تربية الناس على مقتضى هذه الحقيقة حتى يصبح سلوكهم العملي في كل المجالات – ومن بينها مجال السياسة والحكم، والاجتماع والاقتصاد، واعلم والفكر – مطابقاً لمقتضيات لا إله إلا الله.
ونحن مع ذلك لا نقول للباحثين العلميين لا تبحثوا! بل نحن نفرح بكل بحث متعمق يظهر من حقائق الإسلام ما كان خافياً من قبل. ولكن فيم يكون البحث؟ وعلى أي نحو يكون؟
إن هناك في الحياة البشرية – وفي الإسلام كذلك – ثوابت ومتغيرات.
هناك أمور ثبتها الله سبحانه وتعالى وأمر بتثبيتها على صورتها في حياة الناس، كعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله – بمعناها الشامل المتكامل الذي نزلت به من عند الله، والذي يشتمل فيما يشتمل على الالتزام بكل ما جاء من عند الله – والعبادات بجملتها وتفصيلاتها، والحدود، وغير ذلك مما فصله الفقهاء.
وهناك أمور متغيرة أذن الشارع بالاجتهاد فيها، ولكنه قيدها – في تغيرها الدائم – بمحاور ثابتة أو أصول ثابتة، لا يجوز أن تحيد عنها في أثناء تغيرها ونموها بما يلائم ما يجد من أمور في حياة الناس.
فحين نبحث اليوم بحثاً علمياً في الحلول الإسلامية الواقعية للمشاكل الحاضرة ففي أي شئ نبحث: في المحاور الثابتة أم في التفصيلات المتغيرة؟
أما البحث في المحاور الثابتة فواجب، وهو جزء من الفقه اللازم لهذا الدين. وكلما اتسع علم الناس بحقائق دينهم كان ذلك أوفق لهم، وأحرى باستقامة طريقهم.
أما المتغيرات – وخاصة في المشاكل الاقتصادية التي هي عقدة العقد في حياة الناس اليوم – فحين نبحث فيها، فلمن نقدم البحث على وجه التحديد؟ وعلى "مقاس" من نقيم البحث؟ أو بعبارة أخرى: على أساس احتياجات أي قوم من الأقوام، وأي زمان من الأزمان؟!

إنه لابد من ارتياد الطريق الطويل .. المجهد الشاق .. البطيء الثمرة .. المستنفد للطاقة ، طريق التربية، لإنشاء " القاعدة المسلمة " الواعية المجاهدة ، التي تسند الحكم الإسلامي حين يقوم ، وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن يقوم . وقد رأينا في دراستنا التي ناقشنا فيها الوسائل الثلاثة التي يستخدمها المتعجلون – كل من زاويته – أنها كلها تؤدى إلى طريق مسدود، وإن بدا في ظاهر الأمر أنها هي "الحركة" التي تخرج "بالعمل" من حالة الجمود !

وحين نقول إنه لابد من التربية أولاً لإنشاء القاعدة المسلمة الواعية المجاهدة ، يثور كثير من التساؤلات والتصورات :
ربينا بما فيه الكفاية !
إلى متى نظل نربى دون أن " نعمل " !
ما جدوى التربية وكلما ربينا جيلاً من الشباب قضى عليه الأعداء !
ما المقصود بالتربية ؟!
ونريد الآن أن نلقى بعض الضوء على المقصود بالتربية ، ولكن لابد من تصحيح بعض هذه التصورات أولاً تمهيداً لبيان الصورة الصحيحة المطلوبة ، المثمرة بإذن الله .
إن الذين يقولون : ربينا بما فيه الكفاية ، يغفلون عن حقائق كثيرة واقعة في الساحة ، ربما كان أفضل لون من التربية قام في الساحة حتى اليوم هو الذي قام به الإمام الشهيد بين " الإخوان العاملين " الذين رباهم على عينه .

وأفضل جوانب هذه التربية هو :
1 - الأخوة المتينة التي رباها في أتباعه .
2 - الروح الفدائية الصادقة التي طبعهم بها .
3 - والجندية الملتزمة التي زرعها في نفوسهم .
4 - تحرير لا إله إلا الله في حسهم من تواكل الصوفية وتواكل الفكر الإرجائى ، وتحويلها في سلوكهم إلى حركة واقعية وعمل .
ولكنا رأينا كم من الجوانب كان ينقص هذه التربية ذات الطابع الأصيل العميق ، وكم أثر هذا النقص في خطوات العمل الإسلامي بعد مقتل الإمام الشهيد بصفة خاصة.
ولا ندرى كم من هذه الجوانب كان الإمام الشهيد قمينا بإضافته أو تصحيحه لو امتد به العمر ، ولكنا نجد على الساحة الواقعية أن الجنود قد ربوا ليكونوا جنوداً فحسب، لا ليكونوا قادة بعد ذهاب قائدهم ، كما ربى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أصحابه ليكونوا جنوداً فائقين تحت قيادته  صلى الله عليه وسلم  ، وليكونوا في الوقت ذاته " صفاً ثانياً " بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، كما كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم في قيادة الأمة ، وكما كان بقية الصحابة رضوان الله عليهم في كل ميدان انتدبوا إليه .
نجد غياب "الصف الثاني" على المستوى المطلوب للجماعة التي تتزعم العمل الإسلامي في ظروفه الراهنة واضحاً ملموساً كلما امتد الزمن بعد مقتل الإمام الشهيد ، فندرك – على الصعيد الواقعي – أنه كان هناك نقص في التربية ، في هذا الجانب ، ينبغي أن يستدرك ونحن نُعدّ لمسيرة طويلة قد تستغرق بضعة أجيال من عمر الدعوة قبل أن يكتب لها التمكين في الأرض .
ومن قبل لاحظنا العجلة في الإعداد والعجلة في التحرك والعجلة في السماح للجماهير بالانتماء للحركة قبل تربية العدد المناسب من الدعاة ، الذين هم جنود تحت قيادة القائد ، وقادة في ذات الوقت ومربون .
وكيف كان لهذا كله آثاره في خط السير ، والمفروض – ونحن نعد للمسيرة الطويلة – أن نتلاقى كل هذه الجوانب من النقص التي اشتملت عليها الجولة الأولى ، أي أن نغير أسلوب التربية بما يتناسب مع أهداف الحركة ، وطول المسيرة ، ومشقة الطرق ، وكيد الأعداء .
فإذا نظرنا إلى الساحة الآن فقد نجد نوعيات أفضل في بعض الجوانب ، ولكنا نجد نقصاً كبيراً في التربية في جوانب أخرى .
نجد شباباً أكثر وعياً بمفهوم لا إله إلا الله ، وصلتها الوثيقة بتحكيم شريعة الله ، أي : أكثر إدراكاً لقضية " الحاكمية " التي كانت قد أُجملت إجمالاً من قبل جعلها تخفي على كثير من الدعاة أنفسهم .
ونجد شباباً أكثر إدراكاً لطبيعة المعركة وما يلقى فيها من الأسلحة الظاهرة والخفية ، ودور الأجهزة المختلفة في محاربة الدعوة عن طريق مناهج التعليم ووسائل الإعلام ، وإثارة قضايا سياسية واجتماعية وفكرية معينة ، تتجه بالناس وجهة بعيدة عن الإسلام ، وتبعدهم باستمرار عن التلقي من المصدر الرباني .
ولكن هؤلاء الشباب – في كثير من الأحيان – ينقصهم التجمع الصحيح ، فيتجمعون في جماعات صغيرة مبعثرة ، يكيد بعضها لبعض ، أو يتربص بعضها ببعض ، أو يتجادل بعضها مع بعض بروح الخصام لا بروح المودة .
ويمكن أن تنقسم الجماعة الصغيرة إلى جماعات أصغر عند أول اختلاف على تفسير نص من النصوص ، أو تقويم قضية من القضايا .
مما يقطع بأن التربية الجماعية عندهم ناقصة ، وأن الروح الفردية فيهم أقوى ، بينما التربية المطلوبة – لتنشئة المسلمين عموماً فضلاً عن الجيل الذي يقع عليه عبء المواجهة الأولى مع الجاهلية – ينبغي أن توازن بين الروح الفردية والروح الجماعية عند أفراد الجماعة ، فلا تحيلهم أصفاراً عن طريق تنمية الروح الجماعية على سحاب الروح الفردية ، ولا تنمى فيهم الفردية الجانحة فيعتز كل منهم بفكره وبذاته وبتقييمه الخاص للأمور ، فلا تأتلف منهم جماعة ، ولا يلتئم لهم تجمع له وزن .
كما أن هذا الشباب – في معظم الأحيان – تنقصه الخبرة الحركية ( وهي جزء من التربية المطلوبة ) ، مع أنه أكثر وعياً من الجيل السابق في كثير من القضايا ذات الطابع الفكري .
ومن أجل هذا يتعجل في الصدام مع السلطة ، وفي استعراض قوته في قضايا لا تقدم ولا تؤخرن أو في قضايا ذات وزن وذات خطر ولكن لا يستطيع المسلمون في حالتهم الراهنة أن يغيروا شيئاً من مجراها .
مثال عملي :
تجمع شباب الجماعات الدينية بجامعة الإسكندرية ذات مرة ، للحيلولة بالقوة دون إقامة حفل كانت إدارة الجامعة قد رتبته لمكايدة الجماعات الدينية خاصة والروح الإسلامي عامة ، وبالفعل نجح شباب الجماعات الدينية في منع إقامة الحفل رغم كل الترتيبات الرسمية التي رتبت له ، فلم يحدث ما كان مرتباً من رقص وغناء وتمثيل مبتذل .
هذا نموذج لبعض " النشاط " الذي كانت تقوم به الجماعات الدينية في الجامعات ؛ فما تقويمه الصحيح ؟
إن استعراض القوة على هذا النحو كان بالفعل يرهب " المتحررين " و" المتحررات " من الطلبة والأساتذة على السواء .
فلا تجرؤ " فتاة جامعية " على التبذل الرخيص الذي يقع من كثير من " الفتيات الجامعيات " حتى كأنهن راقصات في ملهى ، أو عارضات أزياء في محل تجارى متبذل ، لا طالبات علم يتحشمن على الأقل في وقت تلقي العلم ، كما تتحشم الفتاة الأوروبية الملحدة الكافرة المنسلخة تماماً من كل دين أو أخلاق أو تقاليد ، في أثناء الساعات التي تتلقى فيها العلم .
قد يكون هذا سلوكاً مناسباً لو أن لتلك الجماعات الدينية وجوداً دائماً في الجامعات ، بحيث يكون لهذا الوجود ضغط مستمر يقاوم ضغط الشيوعيين والملحدين و" المتحررين " لإفساد الأخلاق ، وصرف الشباب والفتيات عن القيم الدينية ، وإشاعة التحلل الخلقي بينهم .
أما إذا كان وجود تلك الجماعات عابراً – كما سنبين في السطور التالية – فهل هذه العملية المفردة ستغير شيئاً حقيقياً في حياة الفاسدين والفاسدات من الأساتذة أو الطلاب ؟ أم الأجدى – وقد أتيحت الفرصة لتلك الجماعات أن توجد فترة محدودة من الزمن – أن ينصرف الجهد إلى التربية الحقيقية على مبادئ الإسلام ، وكل شاب فرد ، وكل فتاة ، وكل مدرس أو أستاذ ، تنقذهم هذه الجماعات من الوحل الذي يرتعون فيه إلى النظافة والطهر ، هو كسب للدعوة ، وعمل مثمر خير من الدنيا وما فيها كما قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  :
[ لأن يهدى الله بك رجلاً خير لك من الدنيا وما فيها ] ، أو قال : [ خير لك من حمر النعم ]
لقد كانت "اللعبة" التي أبرزت تلك الجماعات الدينية إلى الوجود أن الحاكم يومئذ كان يواجه ضغطاً شديداً من التيار الشيوعي ، والتيار الناصري المتحالف معه ، فكان منطقياً بالنسبة إليه أن يستند – مؤقتاً – إلى التيار الإسلامي ، فيفسخ له المجال للعمل والحركة ، ليصد عنه هو شخصاً الضغوط التي يواجهها ، لا لينظف الجامعة من الفساد والإلحاد والكفر والتحلل الخلقي ، ولا لينشئ في البلد حركة إسلامية تطرها من تلك الأدران ! وليتعرف في ذات الوقت – عن طريق أجهزته البوليسية – على القوى الكامنة في الشباب ، ليضربها في الوقت المناسب – بعد أن تنتهي " اللعبة " – ضربة تشلها عن الحركة أو تقضى عليها !
فهل كان استعراض القوة في حادث الحفل الذي أشرنا إليه – أو أمثاله – هو السلوك المناسب إزاء هذه اللعبة ؟! أم أنه كان قمينا بالتعجيل في إنهاء اللعبة وتوجيه الضربة ؟
وحقيقة إن الضربة كانت آتية لا ريب فيها كما أشار إلى ذلك مدير السجن الحربي ؛ فبمجرد أن يحس " المسئولون " أن التيار الإسلامي قد أخذ يقوى ، يتفجر الموقف بالضرورة للقضاء على الخطر المرهوب ، والذي تخشاه الصليبية الصهيونية وكل من يعمل لحسابها في الأرض .
ولكن يختلف الأمر حين يكون كل " العمل " الذي تقوم به تلك الجماعات هو تربية شباب نظيف الأخلاق ، متطهر من الدنس ، يعرف ربه ولا يعرف رجس الشيطان ؛ فإن الحاكم يتردد كثيراً في ضربها ، ثم يتردد أكثر في استخدام الوسائل الوحشية لتعذيبها ، لأنه يومئذ لا يستطيع أن يبرر عمله الوحشي أمام الجماهير .
وفي وسع أجهزة الأمن بلا شك أن تفتعل قضية ، وأن تنشب إلى الناس جرائم لم يرتكبوها قط ولم يفكروا مجرد تفكير في ارتكابها ، وأن تحملهم – بوسائل التعذيب البربرية – على "الاعتراف" بما لم يفكروا فيه أصلاً ... ولكن الجماهير لم تعد اليوم غافلة كما كانت قبل ثلاثين سنة أو عشر ‍! وصارت اليوم تقدم سوء الظن بأجهزة الأمن على إحسان الظن ! ولم يعد يسهل على حاكم أن ينقض على جماعة كل عملها هو التربية الإسلامية ، فيصب عليها وحشيته وهو آمن من الإنكار والسخط .
وحقيقة إن أولئك الطغاة لا يهمهم كثيراً غضب الجماهير ، ولكن الذين يشغلونهم لحسابهم لا يحبون أن يكون عميلهم مفضوح الأمر أمام الناس ، لأن هذا يفسد اللعبة في النهاية ولا يحقق المطلوب ؛ بل إنهم في بعض الأحيان يدفعونه دفعاً إلى ما يسخط الناس عليه ، حين يكونون قد قرروا إنهاء دوره والإتيان بوجه جديد ، كما فعلوا بالسادات من قبل ، ومن بعده النميرى !
ضربنا نموذجاً من إنفاق الطاقة في قضايا لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تغير شيئاً في الحقيقة ، إذ سرعان ما أزيلت الجماعات الدينية من الجماعات ، رجع الفاسدون والفاسدات أشد فساداً من ذى قبل ‍!
ونضرب الآن نموذجاً من قضايا ذات خطر حقيقي ، كقضية تحكيم الشريعة الإسلامية ، وهي قضية رئيسية بالنسبة لكيان الأمة كلها ؛ والسعي إلى تحكيم شريعة الله فرض على كل مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، لأنه هو المقتضى المباشر لتلك الكلمة العظيمة التي يعلن بها شهادة الإسلام .
نعم ! ولكن !
هل يمكن حقاً أن تقوم شريعة الله في الأرض قبل أن توجد القاعدة المؤمنة الواعية المجاهدة التي تواجه النتائج المترتبة على إعلان الحكم الإسلامي ، وأولها تحرش الصليبية الصهيونية على نحو ما حدث في الجزائر وفي تركيا ؟
وهل يكفي " الضغط الشعبي " لإقامة الحكم الإسلامي ، إن لم يكن " الشعب " الذي يمارس الضغط مستعداً لجهاد ، ومستعداً لخوض معركة طويلة الأمد ، يصبر فيها على الخوف ، والجوع ، ونقص الأموال ، والأنفس ، والثمرات كما بين الله في كتابه المنزل :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ ) [سورة البقرة 2/153-155]
أليس الأجدى إذن إنفاق الطاقة في إقامة " القاعدة المسلمة " التي تحتمل هذه التبعات الجسام ، بدلاً من إنفاقها – أو إنفاق قدر منها – في المطالبة الشفوية التي لا يترتب عليها شئ في الحقيقة ، إنما تكون كالطلقة الطائشة ، تنبه عدوك إلى مكانك دون أن تصيب شيئاً في الواقع ؟!
إن القضية ليست إلهاب حماسة الجماهير لتطبيق الشريعة الإسلامية ، فهذا وحده لا يكفي ، ولا يغير شيئاً من الواقع ، طالما كانت هذه الجماهير لا تملك إلا تلك الحماسة العاطفية ، التي يمكن أن تنطفئ بذات السرعة التي تلتهب بها .
إنما يتغير الواقع حين تُعْمِل تلك الجماهير نفسها لقضية تحكيم الشريعة على أساس أن هذا التحكيم هو المقتضى المباشر لقول لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
والفارق الضخم – في مجال الحركة الواقعية – بين الحماسة العاطفية التي لا تنتهي إلى شئ واقعي، وبين تجنيد الناس أنفسهم لهذه القضية ، ينشأ من فارق دقيق – وخطير في الوقت ذاته – في تفهم حقيقة القضية وإدراك أبعادها .
فحين تكون القضية في حس الناس أن تحكيم الشريعة " كمالات " يكتمل بها دينهم ، ولكنهم قبل ذلك مسلمون ولو رضوا بشريعة غير شريعة الله ، وتحاكموا إليها بغير حرج في ضمائرهم ، سيكون أقصى ما يعطونه للقضية هو تلك الحماسة العاطفية التى لا تصمد للبطش الوحشي الذي يقابل به الطغاة الدعوة لتحكيم شريعة الله ، وأن إيمانهم لا يكون ناقصاً إنما يكون غير قائم أصلاً إذا تحاكموا – راضين – إلى شرائع يضعها البشر من عند أنفسهم بغير إذن من الله .
عندئذ سيجند الناس أنفسهم لتلك القضية ، لأنها ستكون في حسهم قضية إيمان وكفر ، لا مجرد "كمالات" يكملون بها إيماناً موجوداً بالفعل، مرضياً عند الله!
أما الحماسة العاطفية فمهما أعجب الدعاة مظهرها ، فلست رصيداً حقيقياً في المعركة الهائلة التي يرصدها للإسلام أعداء الإسلام .

تلك نماذج نضربها لصرف الطاقة في غير مجالها الحقيقي ، أو للتقصير في صرفها في مجالها الذي يجب أن توجه إليه ، ودلالتها أن هناك جوانب نقص في عملية التربية القائمة في ساحة العمل الإسلامي .
فإذا أضيف إلى ذلك ما يشكو منه كثير من الشباب العاملين في الدعوة من أن بعض " المسئولين " عنهم ينقصهم التجرد الكافي للدعوة ، الذي يجعل مصلحتها الحقيقة هي رائدهم ، لا ذواتهم ، ولا رغبتهم في الظهور والاستحواذ على أكبر عدد من الأنصار .
إذا وضعنا هذا كله في الميزان ؛ فهل يحق لقائل أن يقول : ربينا بما فيه الكفاية ؟!

أما الذين يسألون : إلى متى نظل نربى دون أن "نعمل" ؟
فلا نستطيع أن نعطيهم موعداً محدداً فنقول لهم : عشر سنوات من الآن ، أو عشرين سنة من الآن ؛ فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح ، إنما نستطيع أن نقول لهم : نظل نربى حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول .
وواضح أن هذه الإجابة غير محددة ؛ فلا هي تحدد " الزمن المطلوب "، ولا هي تحدد "الحجم المطلوب ".
ولكن الحقيقة أنه لا يوجد بشر في الأرض يستطيع أن يعطى هذا التحديد ، لأن فيه عنصراً بل عناصر غيبية لا يمكن للبشر تحديدها.
لقد كان الوحي هو الذي ينقل خطى الجماعة الأولى بقيادة الرسول  صلى الله عليه وسلم . فقد أمره الله بادئ ذي بدء بإنذار عشيرته الأقربين ، فأخذ يدعو إلى الله سراً فترة من الوقت وهو يتحمل الأذى من عشيرته صابراً محتسباً حتى نزل الأمر الرباني بالجهر بالدعوة ، فصدع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بالأمر ، ونزل الأذى بالمؤمنين وتحركت مشاعر بعضهم للرد على الأذى ، فنزل الوحي يقول لهم : ( كفوا أيديكم ) فكفوا ، واحتملوا الأذى صابرين حتى أذن الله لهم بالقتال فقال سبحانه :
( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) [سورة الحـج 22/39]
ثم جاء الأمر بقتال الذين يقاتلون المؤمنين من المشركين ، دون سواهم :
( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) [سورة البقرة 2/190]
ثم جاء الأمر بقتال المشركين كافة:
( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً...) [سورة التوبة 9/36]
واليوم وقد انقطعت الرسالات وختمت النبوة فلن يتنزل وحي يقول للمسلمين : كفوا أيديكم إلى سنة كذا ، وقاتلوا سنة كذا ! إنما هو الاجتهاد والرأي بحسب الظروف القائمة في الأرض ، وبحسب السنن الجارية التي يجرى الله بها قدره في حياة الناس .
وهذه السنن تقول إن الانحراف الضخم الذي وقعت فيه الأمة حتى أصبح الإسلام فيها غريباً كما كان غريباً أول مرة ، يحتاج إلى جهد ضخ وزمن غير قصير حتى تعود الأمة إلى الصراط السوي ، أو حتى تعود منها فئة تحتمل الصراع والصدام مع القوى العالمية المعادية للإسلام ، وتصمد لها حتى يمدها الله بالنصر ، ويمكن لها في الأرض ، ويكون لها من رسوخ القدم في الإيمان ، وصدق العزيمة ، والشجاعة في الحق ، والزهد في متاع الدنيا ، والحرص على ما عند الله في الآخرة ، وما يجعلها تحمل العبء صابرة محتسبة ، ويجعلها تحمل أدران بقية الأمة من المنافقين وضعاف الإيمان والمتقاعسين عن الجهاد فلا يخذلونها ، بل ترفعهم هي بالمثال الرفيع الذي تضربه للناس .
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [سورة الأنفال 8/2-4]
( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) [سورة الأحزاب 33/23]
( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) [سورة المائدة 5/54]
( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) [سورة آل عمران 3/146]
( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) [سورة النساء 4/74]
فالزمن المطلوب للتربية هو الزمن الذي يكفل ترسيخ هذه الصفات في نفوس الفئة المختارة التي يقع عليها عبء المواجهة مع الأعداء .

وهو زمن لا يستطيع بشر أن يحدده على وجه الدقة لأنه غيب ، ولأن فيه جملة متغيرات تتغير النتيجة في كل مرة بحسب نوعها ومقدارها ألا وهي :
أولاً : الجهد الذي ينبغي أن نبذله لبلوغ هذا الهدف الأساسي :
فكلما بذلنا جهداً أكبر ، كان لنا أن نطمع في تقريب الزمن ، أما إذا تراخينا في بذل الجهد ، أو لم نوجهه الوجهة الصحيحة فسيطول الزمن ولا شك .
ثانياً : مدى استجابة الذين ندعوهم ونربيهم وهذا أمر ليس في يد البشر إطلاقاً :
( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) [سورة القصص 28/56]
إنما كلفنا الله سبحانه وتعالى أن نبذل الجهد ، وتكفل هو سبحانه بالنتائج ، لأنها تتم بقدر منه ، وبحسب مشيئته .
وإن كنا نطمع دائماً في منّ الله وكرمه ، أننا إذا صدقنا في بذل الجهد فإن الله يرتب النتائج في صالح الدعوة .
وقد رأينا بأعيننا أن استشهاد رجل واحد صدق ما عاهد الله عليه ، يصنع لهذه الدعوة من العجائب ما لا تصنعه ألف خطبة ولا ألف درس ولا ألف كتاب ، وهذا عون الله الذي وعد به سبحانه حين يصدق عباده في التوجه إليه ، والتوكل عليه ، والإيمان به .
والمتغير الثالث هو الظروف التي تحيط بالدعوة وتحيط بالأعداء ، والتي تحدد بدورها الحجم المناسب للقاعدة المطلوبة .
فحين يخلق الله ظروفاً مواتية فقد تستطيع قاعدة أصغر حجماً مما نتخيل الآن ، أن تقيم حكم الله في الأرض ، وتسانده بعد قيامه .
وحين تجرى مشيئة الله بغير ذلك – لحكمة يريدها – فقد نحتاج إلى قاعدة أكبر حجماً مما نفترض في لحظة معينة .
والحكم في هذا الأمر مسألة اجتهادية ، سواء في تقدير الحجم اللازم للقاعدة ، أو في تقدير الظروف القائمة من حولها .
ومن أجل هذه المتغيرات – وغيرها كثير – لا يستطيع بشر أن يحدد زمناً يقول فيه : نظل نربى إلى عام كذا ، ثم نبدأ " العمل " ‍‍‍‍!
على أن ينبغي أن نضع في حسابنا أن التربية لا يمكن أن تتوقف في أية لحظة فهي بذاتها هدف دائم بالنسبة للأمة حتى لو قام الحكم الإسلامي ؛ فرسول الله  صلى الله عليه وسلم  لم يكفّ عن تربية أصحابه حين قامت الدولة ، بل استمر إلى آخر لحظة يربيهم ، وانظر مثلاً خطبته في حجة الوداع ، كذلك سار من بعده من الخلفاء الراشدين على نهجه  صلى الله عليه وسلم  يربون الأمة وبالسلطان .
إنما بدأ الانحراف في الأمة حين نقصت التربية عن القدر المطلوب ، وحين تحولت عن النهج المطلوب .
إنما كانت إجابتنا موجهة للذين يعنون بسؤالهم : إلى متى نظل نخصص الوقت كله والجهد كله لعملية التربية المطلوبة .

وأما الذين يقولون : ما جدوى التربية ، ونحن كلما ربينا جيلاً من الشباب قضى عليه الأعداء ! فقد سبق أن أجبنا على تساؤلهم من الواقع المشهود .
ونحن لا نعلم الغيب ، ولا نعلم إن كان الشاب الذي نربيه اليوم سيموت غداً أم يموت بعد عمر مديد ، ولا نعلم كذلك هل يثبت على الطريق أم يفتن في دينه، ولكن علينا دائماً أن نبذل جهدنا في تربيته على النهج الصحيح .
فإن شاء الله أن يمتد به العمر فهو قوة للدعوة وامتداد لها ، أما إن كان في قدر الله أن يفتن في دينه فمنذا الذي يستطيع أن يرد عنه قدر الله ؟ ومنذا الذي يستطيع أن يعرف لفرد ما يكون من أمره في الغداة ؟!
في جميع الأحوال إذن ينبغي أن نمضي في التربية ، ونحن واثقون أنها الطريق الواصل في النهاية ، حتى وإن كانت هي الطريق الشاق المجهد البطيء الطويل .

ولابد من كلمة تبين لنا على الأقل بعض أبعاد التربية المطلوبة ، وما يمكننا أن نتحدث عن كل أبعاد التربية أو عن المناهج التربوية ، فتلك بحوث متخصصة .

ونكتفي بثلاثة أبعاد لأنها ذات أهمية خاصة ، ومن أراد البسط فعليه بمراجعة مظان المسألة :
البعد الأول : " اليقين " :
يقول سبحانه وتعالى :
( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [سورة الذاريات 51/58]
ولو أنك سألت أي إنسان في الطريق : من الذي يرزقك ؟ لقال لك على البديهة : الله !
ولكن انظر إلى هذا الإنسان إذا ضُيق عليه في الرزق ، يقول : فلان يريد أن يقطع رزقي ! فما دلالة هذه الكلمة ؟
دلالتها أن تلك البديهية التي نطق بها لم تكن " يقيناً " قلبياً ، إنما كانت بديهية ذهنية فحسب ، بديهية تستقر في وقت السلم والأمن ، ولكنها تهتز إذا عرضت للشدة ، لأنها ليست عميقة الجذور .
هل يصلح مثل هذا الإنسان لأعباء الدعوة ومشقاتها ؟!
هل يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين .
أن الله هو المحيى والمميت ، أن الله هو الضار والنافع ، أن الله هو المعطى والمانع ، أن الله هو المدبر ، أن الله هو الذي بيده كل شئ .
وإذا اهتز اليقين لحظة واحدة فماذا يحدث ؟!
لقد كنا نرى في المعتقل بعض الذين يهتز في قلوبهم هذا اليقين لحظة ، فتهتز خطواتهم على الطريق ! يتسرب إلى روعهم أن هذا الشخص أو ذاك يمكن أن ينفع ، أو يمكن أن يضر .
فيتوجهون إليه يحسبون أنه يمكن أن يخرجهم مما هم فيه من الضيق ؛ فينزلقون ، وينتهي دورهم في الدعوة ، إلا أن يتوب الله عليهم فيتوبوا .
ترى كم جلسة.. كم درساً.. كم موعظة.. كم توجيهاً.. يحتاج إليها الإنسان ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الذي يدبر ، وأن هذه المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله، وأنها حين تضره فهي تضره بشيء قد قدره الله له، وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له فلا يتوجه إلا إلى الله ، في سرائه وفي ضرائه سواء ، ويعلم – يقيناً – أن الخلق كلهم لا يملكون له – ولا يملكون لأنفسهم – ضراً ولا نفعا ً؟! فإذا دخل في الشدة – وطريق الدعوة مملوء بالأشواك والدماء والدموع – طلب التثبيت من الله، ونظر إلى كل ما يصيبه على أنه قدر مكتوب له .
ثم نظر إلى هذا القدر المكتوب له على أنه كله خير ، ما دام يسير على طريق الإيمان ، لأن أمر المؤمن كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ؛ وليس ذلك إلا للمؤمن .
فإذا لم يصل إلى هذا اليقين القلبي ، الذي يترتب عليه سلوك عملي ؛ فهل يصلح لحمل أعباء الدعوة ؟!
كم يحتاج الفرد الواحد حتى ترسخ هذه العقيدة في قلبه إلى درجة اليقين ؟ وكم يحتاج الجمع من الناس ؟ وكم يحتاج تكوين " قاعدة " صلبة من مثل هؤلاء ، يقوم عليها بناء دعوة ، ثم يقوم عليها – حين يأذن الله – بناء دولة ؟!
إنه لمثل هذا كان يعمل رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ثلاثة عشر عاماً كاملة في مكة ، وبعدها سنوات في المدينة كان يعمل ، ولم يكن يقول في نفسه وهو في مكة : إلى متى نظل نربى دون أن " نعمل " ؟ فقد كان يعلم يقيناً – بما علمه ربه – أن هذا هو " العمل " الأساسي الذي يسبق كل عمل .
هذه هي " العقيدة " ، هذه هي " لا إله إلا الله " في حقيقتها الاعتقادية ، ليست مجرد إقرار ذهني بأن الله تعالى واحد .
فما أيسر أن يعتقد الذهن ذلك – وإن كان قد صعب على العرب في جاهليتهم – ولكن تبقى " شوائب " نفسية وشعورية كثيرة عالقة بهذا الاعتقاد الذهني ، ولا تظهر إلا في السلوك العملي ، في حالي الشدة والرخاء سواء ، وإن كانت الشدة هي المجهر الأقوى الذي تبرز تحته كل شوائب الاعتقاد .
( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ...) [سورة العنكبوت 29/10]
( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) [سورة العنكبوت 29/2-3] .
لمثل هذا كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يلقى أصحابه في دار الأرقم : يربيهم ويعلمهم ، يعلمهم العقيدة الصحيحة ، ويربيهم عليها .
فليست العقيدة مفهوماً ذهنياً تستوعبه الأذهان ثم يستقر فيها هناك ! إنها على هذا النحو لا تصنع شيئاً في عالم الواقع ، ولا تغير شيئاً في عالم الواقع .
كالفلسفة في الأبراج العاجية ، لا تغير شيئاً في واقع الناس ! إنما هي " عقيدة " ، ترسخ وترسخ وترسخ ، حتى تصبح يقيناً قلبياً تنطلق على هداه مشاعر القلب ، ويجرى بمقتضاه السلوك العملي للإنسان .
وبهذه الصورة تعمل " العقيدة " في عالم الواقع .. تغير .. تهدم وتبنى .. تهدم الباطل وتبنى مكانه الحق .
وحين كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يربى أصحابه على العقيدة الصحيحة ، كان ينشئ – بقدر الله – ذلك اليقين القلبي الذي ينبثق منه السلوك العملي ، وكان – بهذا – ينشئ – بقدر الله – تلك النفوس العجيبة التي صنعت ما شاء الله لها أن تصنع من عجائب التاريخ .
بالقرآن .. بتوجيهاته الدائمة  صلى الله عليه وسلم  .. بقيام الليل .. بالقدوة العملية في شخصه الكريم  صلى الله عليه وسلم  .. برعايته لهم في المحنة .. بالحب الفياض من قلبه العظيم لهم .
بكل تلك الوسائل مجتمعة ، تأصلت " العقيدة " في قلوب ذلك الجيل المتفرد ، فكانت تلك " الطاقة " الهائلة التي صنعت الأعاجيب .
وفي غربة الإسلام الثانية نحتاج إلى مثل ما احتاج إليه الأمر في الغربة الأولى ، إن لم يكن على ذات المستوى السامق ، فعلى أقرب مستوى إليه يطيقه البشر في جولتهم الثانية لإزالة غربة الإسلام .
كم من الزمن يستغرق هذا الأمر ؟ لا أدرى ! ولكنى أعلم يقيناً أنه مطلوب ، وأن " القاعدة " المطلوبة لابد أن تقوم على مثل هذا " الاعتقاد " في لا إله إلا الله ، الذي يملأ القلب باليقين ، ويتمثل – من ثم – في سلوك عملي .

البعد الثاني : " الأخوة " :
يقول سبحانه وتعالى:
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) [سورة الحجرات 49/10]
والأخوة من أجمل " المعاني " التي يمكن أن يتحدث عنها الإنسان ! شفيفة لطيفة كالنور ! ندية محببة إلى القلوب ، ولكن ما " الأخوة " التي وردت الإشارة إليها في كتاب الله ؟
يستطيع اثنان من البشر وهما يسيران في الطريق الواسع – في الأمن والسلامة – أن يتآخيا ! أن يسيرا معاً وقد لف كل منهما ذراعه حول أخيه من الحب.
ولكن انظر إليهما وقد ضاق الطريق ، فلا يتسع إلا لواحد منهما يسير وراء الآخر ؛ فمن أُقدّم ؟ أقدم نفسي أم أقدم أخي وأتبعه ؟
أم انظر إلى الطريق قد ضاق أكثر ؛ فلم يعد يتسع إلا لواحد فقط دون الآخر !
إنها فرصة واحدة .. إما لى وإما لأخي .. فمن أُقدّم ؟ أقول: هذه فرصتي ، وليبحث هو لنفسه عن فرصة ؟ أم أقول لأخي : خذ هذه الفرصة أنت ، وأنا أبحث لنفسي ؟!
هذا هو "المحك" .
إن الأخوة في الأمن والسلامة لا تكلف شيئاً ! ولا تتعارض مع رغائب النفس ؛ بل هي ذاتها رغبة من تلك الرغائب يسعى الإنسان لتحقيقها مقابل الراحة النفسية التي يجدها في تحققها.
أما في الشدة – أو في الطمع – فهنا تختبر الأخوة الاختبار الحق ، الذي يتميز فيه الإيثار والحب للآخرين ، ومن الأثرة وحب الذات ، التي قد تخفي على صاحبها نفسه في السلام والأمن ، فيظن نفسه " أخاً " محققاً لكل مستلزمات الأخوة !
كم جلسة .. كم درساً .. كم موعظة .. كم توجيهاً .. يحتاج إليها الإنسان الفرد ، وتحتاج إليها الجماعة ، وتحتاج إليها " القاعدة " ليرسخ في حسهم جميعاً هذا " المعنى " فلا يعود حقيقة ذهنية يستوعبها الذهن ثم ينتهي بها المقام هناك ، إنما تتحول إلى وجدان قلبى ، يتعمق في القلب حتى يصدر عنه سلوك عملي كذلك الذي ورد ذكره في كتاب الله :
( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) [سورة الحشر 59/9]
إنه لمثل هذا كان يعمل رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وهو يربى أصحابه رضوان الله عليهم ، ثلاثة عشر عاماً في مكة ، وسنوات في المدينة بعد ذلك .
لم يكن يقول في نفسه وهو في مكة : إلى متى نظل نربى تلك المشاعر دون أن " نعمل " ! لأنه كان يعلم يقيناً – بما علمه ربه – أن هذا من العمل الأساسي المطلوب لإنشاء القاعدة المؤمنة التي وُجِّه  صلى الله عليه وسلم  لإنشائها .
وأن هذه الأخوة – فوق أنها ضرورية لإقامة القاعدة المؤمنة التي هي نواة " الأمة المسلمة " – فهي جزء من " التحقيق السلوكي " للا إله إلا الله .
فليست لا إله إلا الله وجداناً قلبياً عميقاً فحسب ، بل هي التزام بما أنزل الله ، ومن ثم فكل ما جاء من عند الله فالالتزام به هو من مقتضيات لا إله إلا الله، وقد أحب الله هذه الأخوة وامتدحها ، وأوجبها على المؤمنين به ، وأنزل فيها آيات كثيرة لعل من أبرزها :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) [سورة الحجرات 49/11-12]
بالقرآن .. بالمصاحبة .. بالمعايشة .. بالتوجيه المستمر .. بالقدوة في شخصه الكريم  صلى الله عليه وسلم  .. بالحب الذي يفيض من قلبه الكبير إليهم .. بالاهتمام بكل فرد منهم كأنه هو الأثير عنده .. بالممارسة العملية للمشاعر الإيمانية داخل " الجماعة " .
بهذه الوسائل مجتمعة ربى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  هذه الجماعة المتآخية ، التي صنعت بتآخيها الأعاجيب ، وأقام ذلك البنيان المتين المترابط ، الذي يشد بعضه بعضاً فيقويه .
وفي غربة الإسلام الثانية ، نحتاج إلى مثل ما احتاج إليه الأمر في الغربة الأولى ، إن لم يكن على ذات المستوى السامق ، فعلى أقرب المستويات إليه .
ذلك أن الضغوط الجاهلية تفتت كل ترابط ، ما لم يكن ثيق الرباط إلى الحد الذي يتحمل كل الضغوط ، ويبقى وثيقاً رغم كل الضغوط .
كم يستغرق هذا الأمر ؟ لا أدرى ! ولكنى أعلم يقيناً أنه مطلوب ، وأن " القاعدة " التي يقع عليها عبء مواجهة الجاهلية بكل كيدها ، ينبغي أن تحقق في سلوكها العملي هذا الخلق من أخلاقيات لا إله إلا الله ، لتصبح جديرة برعاية الله ، ولكي تستطيع أن تمضى في الطريق متآخية متساندة مترابطة وهي تتعرض للأهوال .
 
البعد الثالث : " النظام " :
من ضرورات الحياة البشرية ، وفي هذه الأيام خاصة يتردد القول بأنه من " التحديات الحضارية " التي تواجه هذه الأمة .
والبيئة التي انتشر فيها الإسلام – بقدر من الله – تقع كلها – ما عدا النادر منها – في المنطقة الحارة والمنطقة المعتدلة الحارة ، وهذه البيئة فوضوية بطبيعتها !
إن الحياة – في معظمها –سهلة رخية ، لا أحد يموت من الجوع إلا النادر ، ولا أحد يموت من البرد إلا النادر .
أقل قدر من الطعام يمكن أن يحفظ الأولاد لأنه لا يوجد البرد القارس الذي يستهلك الطاقة ويحتاج إلى " الوقود " الغذائي المتجدد .
كذلك لا يحتاج الإنسان أن يختزن في أعصابه تدبيراً وترتيباً للمستقبل ، لأن المستقبل في حسه مثل الحاضر ، والحاضر تقضى أموره بصورة من الصور ليس فيها ترتيب مسبق ولا تدبير كثير . ومن ثم لا يحتاج الإنسان أن " يخطط " للمستقبل ، ولا أن يمد بصره أو تفكيره إلى بعيد ، فحين يأتي الغد بمشكلاته ، نحلها بذات العفوية التي نحل بها مشاكلنا الحاضرة ! ومن ثم تتسم طباع أهل المنطقة – المستمدة من تأثير البيئة – بالعفوية الشديدة و" قصر النفس "، لأن النفس الطويل لا يفترق في نتائجه العملية – في حسهم – عن النفس القصير الذي يواجه المشاكل – وقت حدوثها – وينتهي منها في لحظتها، وينصرف إلى غيرها !
وخلاصة القول أن أهل هذه البيئة – حين يتركون لتأثير البيئة وحده – قوم يكرهون النظام ، ويرونه عبئاً ثقيلاً على أعصابهم لا ينبغي أن يحملوه ، ولا ضرورة – في حسهم – لحمله .
وقوم عفويون يكرهون التخطيط والنظر إلى بعيد ، ويرونه كذلك عبئاً ثقيلاً على أعصابهم لا موجب له ، وهم أخيراً قوم قصار النفس يشتعلون حماسة لفترة موقوتة ، ثم تخبو حماستهم كأن لم تشتعل قط ، وتنصرف إلى موضوع جديد .
من هذه الطباع – المستمدة من تأثير البيئة – تسلمهم الإسلام فأنشأ منهم خلقاً آخر.
أنشأ منهم بادئ ذي بدء أمة شديدة التنظيم ، لا تكره النظام ولا تتمرد عليهن بل تسارع إليه وتمتثل لمقتضياته .
وليس بنا – هنا – أن نستطرد كثيراً إلى الوسائل التي غير بها الإسلام طباع هذه الأمة المستمدة من البيئة ، والموروثة فيها قروناً إثر قرون .
ولكنى كلما قرأت في كتب السيرة : " كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يصفنا للصلاة كما يصفنا للقتال " تهتز نفسي تأثراً وعجباً لهذا المربى العظيم  صلى الله عليه وسلم  كيف كان يعد هذه الأمة لمهمتها .
لتكون "خير أمة أخرجت للناس"‍وأعجب لهذا الدين كيف يصنع في النفوس، فيغير من الطباع ما يبدو لأول وهلة داءً مستعصياً على الحل!
كان عليه الصلاة والسلام لا يبدأ الصلاة حتى يرى الصف قد استقام ، وكان يقوّم الصف بيديه الشريفتين ، يلصق كتف هذا بذاك ، وقدم هذا بذاك ، حتى يقوّم صف الصلاة كصف القتال ، كأنه بنيان مرصوص !
والإسلام كله نظام ودقة ، مع سماحته التي تعطف على الضعف البشرى ولا تلعنه ما دام صاحبه لا يصر عليه ، ومع نداوته التي تتعامل مع النفوس البشرية لا على أنها آلات وأدوات ، ولكن على أنها مشاعر وعواطف ، فيرفع عنها الحرج :
( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) [سورة آل عمران 3/135-136]
( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [سورة الحـج 22/78]
( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [سورة المائدة 5/6] .
ويتبدى التنظيم واضحاً في العبادات خاصة ؛ فالصلاة مواقيت ، والصوم مواقيت ، والحج مواقيت، والزكاة مواقيت ؛ فضلاً عن التنظيم الدقيق في كل عبادة من هؤلاء ، وخاصة في الصلاة والحج .
والقرآن يعلم المؤمنين النظام والدقة في الآداب التي نسميها اليوم " الآداب الاجتماعية " :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) [سورة النــور 24/27-29] .
والتربية الإسلامية التي رباها الرسول  صلى الله عليه وسلم  لأصحابه جعلت منهم أمة منظمة تنظيماً دقيقاً على أساس " إنساني " لا على أساس آلي .
وتلك مزية الإسلام ؛ فهو ينظم الحياة – في جميع جوانبها – مع المحافظة على " إنسانية الإنسان " ألا يتحول إلى آلة ، فيفقد العمل دلالته النفسية التي يؤدى من أجلها ، بل يظل الإنسان – مع محافظته على النظام – واعياً لأهداف وجوده ، مريداً لتحقيقها في كل مرة ، لا مدفوعاً دفعاً آلياً إليها .
ومع النظام لم تعد العفوية هي صورة العمل في الأمة الإسلامية ، لأنه لكل عمل ضوابطه الشرعية ، وللشريعة في كل عمل " مقاصد " ينبغي تحقيقها .
ومن ثم يراجع الإنسان كل عمل يعمله ليرى هل هو في دائرة الحلال المباح أم خرج عنها، ويراجع النتائج التي يمكن أن تترتب على عمله ، ليرى هل هي متمشية مع مقاصد الشريعة أم مخالفة لها .
ومع النظام والانضباط والنظر في النتائج رباهم الإسلام على النفس الطويل والرؤية البعيدة ؛ فهناك هدف بعيد لكل فرد ، وهناك أهداف ممتدة لمجموع الأمة .
فأما الفرد فقد رباه الإسلام على أن يعمل لا ناظراً لدنياه وحدها ، ولا لغده القريب وحده ؛ بل وضع له هدفاً يتجاوز العالم المشهود كله ، والحياة الدنيا كلها .
ليصل به إلى عالم الغيب وإلى اليوم الآخر ؛ فيعمل في دنياه الحاضرة وفي لحظته الحاضرة وهو ناظر إلى عالم بعيد بعيد يتجاوز كل مدى الحس ، ولكنه حاضر في قلبه كأنه يراه أمامه ، وكأنه متحقق في هذه اللحظة .
ويعمل وفي حسه ذلك الهدف البعيد الذي يسعى كل لحظة إلى تحقيقه ، وهو الجنة ورضوان الله، هدف لا يمكن أن يوجد في حس البشرية كلها هدف أبعد منه .
ومع ذلك فهو متعلق به دائماً ، يشعر في كل لحظة أن كيانه كله مرتبط به ، وأن كل خطوة يخطوها هي خطوة على الطريق إلى ذلك الهدف البعيد .
وأما الأمة فقد رباها الإسلام على أن مهمتها لا تنحصر في تحقيق كيانها الذاتي المحدود ، ولا في أن تعيش لحظتها الراهنة ، وإنما لها هدف ممتد في الحياة الدنيا ، وممتد من الحياة الدنيا إلى الآخرة ، ذلك هو دعوة البشرية كلها إلى النور الرباني ، والجهاد لتكون كلمة الله هي العليا في كل الأرض ، لتكون شاهدة على البشرة كلها في اليوم الآخر :
( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )[سورة البقرة 2/143] .
ولقد ظلت الأمة تلاحق هذا الهدف ما يقرب من عشرة قرون متوالية ، لا تفتر حماستها له ، ولا تتقاعس عن الجهاد من أجله ، جيلاً بعد جيل ، وهذا " أطول نفس " عاشته أمة في التاريخ .
ولكن خط الانحراف الطويل الذي مررت به الأمة ، وآثاره فيها ، ظل يحدث انحساراً مستمراً في حقائق الإسلام ، وفي فاعليتها في نفوس الناس .
فارتدت الأمة رويداً رويداً إلى تأثير البيئة ، ذلك أنه في غيبة العقيدة الحية المتمكنة من النفوس تصبح البيئة هي صاحبة التأثير ، ومن ثم رجعت الأمة إلى طبيعتها الفوضوية التي تكره الانضباط ، العفوية التي تكره التخطيط ، القصيرة النفس التي تكره الرؤية البعيدة ولا تطيق المتابعة للأمد الطويل .
وإذ كانت هذه هي حالة الأمة – كما هو واضح لكل من يدرس أحوالها – فمن يصلحها ؟!
هل تصلحها الأحزاب السياسية الموالية للغرب ، وهي لا تضع ذلك في برامجها ، ولا تقدر عليه حتى إن قصدت إليه .
وهذه هي تجربة قرن كامل من الزمان ، كانت الأمة منجرفة فيه إلى تقليد الغرب والذوبان فيه ، فما استطاعت الأحزاب الموالية للغرب ، والداعية إلى التغريب ، أن تصلح شيئاً في هذا المجال ، وظلت الأمة – إن لم تكن قد زادت – في فوضويتها الكارهة للنظام ، وعفويته الكارهة للانضباط ، وقصر نفسها الذي يشتعل حماسة للحظات ، ثم تنطفئ الحماسة وتخمد العزائم وتنصرف الجهود !
هل تصلحها الأحزاب الشيوعية ، وهي لا تضع ذلك في برامجها ، ولا تقدر عليه حتى إن قصدت إليه ، وهذه هي تجربة ما يزيد على ربع قرن في البلدان التي ابتليت بها من العالم الإسلامي ، لم تغير شيئاً من حال الناس ، إن لم تكن قد زادتهم انحرافاً في كل جوانب الحياة !
إنه لا يقدر على إصلاح آثار هذه البيئة إلا العقيدة ، ولا يقدر على إصلاحها إلا أصحاب العقيدة الصحيحة ، والواعون لحقيقتها ، الذين تربوا تربية إسلامية صحيحة ، كتلك التي رباها الرسول  صلى الله عليه وسلم  لأصحابه ، فتستطيع هذه التربية – كما استطاعت أول مرة – أن تنشئ النفوس نشأة جديدة ، منظمة منضبطة طويلة النفس ، تزيل آثار الانحراف ، وتعيد الأمة إلى ما كانت عليه وقت استقامتها على هذا الدين ، ولا بهدف مواجهة " التحديات الحضارية " التي يذكرها بعض الناس وهم يتكلون عن " الإصلاح " المطلوب ، بل يهدف إعادة الأمة إلى " خيريتها " التي أخرجها الله من أجلها :
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [سورة آل عمران 3/110]
وهو هدف يتجاوز كل " التحديات الحضارية " إلى ما هو أعلى وأنفس ، خير الدنيا والآخرة على السواء .
ترى كم جلسة .. كم درساً .. كم موعظة .. كم توجيهاً .. يحتاج إليها الإنسان الفرد ، وتحتاج إليها الجماعة ، وتحتاج إليها " القاعدة " ليتمثل فيها أولاً هذا " المعنى " ثم لتكون قادرة على إعطاء المثل لغيرها ، فتستطيع بالتالي تربية الأمة كلها – أو من يستجيب منها – على هذه الصفات وهذه الأخلاقيات الضرورية لها ، لتتجاوز أزمتها الحاضرة وتأخذ في الصعود ؟!

تلك ثلاثة أبعاد للتربية من بين أبعاد كثيرة في مجالات مختلفة ، ليست مثلاً خيالية ، ولا هي " تحديات " ! إنما هي شروط ضرورية لقيام القاعدة المطلوبة ، التي تستطيع أن تتحمل العبء الملقى عليها في مواجهة الجاهلية المتربصة بالكيد .
ومن هذه النماذج – ومن غيرها الذي لم نذكره – يتضح جلياً أن أمامنا شوطاً طويلاً في مجال التربية لا غنى لنا عن المضي فيه، قبل أن يحق لنا أن نتساءل: وماذا بعد ؟!
إن بعض مجالات التربية قد قطعنا فيه شوطاً ولم نصل ، وإن بعضها الآخر لم نبدأ فيه بعد! وكل تعجل في ميدان التربية بالذات لا يأتي بخير .
لأنه يكون بمثابة إقامة بنيان على غير أساس ، أو على غير أساس مكين ، فكلما ارتفع كان عرضة للانهيار .
والذين يستطيلون الطريق ، ويحسبون أن هناك طرقاً أقصر وأخصر ، ينبغي أن يأخذوا عبرة التجربة ، سواء كانت التجربة هي مذبحة حماة ، أم كانت هي التجربة " السياسية " في تركيا ؛ فإذا كنا لا نعتبر بالأحداث ، فذلك في ذاته دليل على نقس في تربيتنا يحتاج إلى علاج .
 

منوعات الفوائد