اطبع هذه الصفحة


رسالتي الأخيرة لأستراليا

عبدالله بن سلمان المعثم


بسم الله الرحمن الرحيم
 

في بداية السنة الميلادية 2009 حططت رحلي في مطار سيدني أو ما يعرف بـ مطار كنجس فورد سميث الدولي.

كان مقصودي دراسة مرحلة الماجستير في مجتمع جديد وبيئة جديدة وعادات تختلف اختلافاً جذرياً عن عبق الإسلام، كنت حريصاً كغيري أن أجد بيئة طيبة في مجتمع أصبح فيه الطهر عاراً والعار طهراً (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) من حسن حظي أني قابلت بعض من أعانني على ذلك، كان سكني ليس بعيداً عن الجامعة التي تقع في قلب المدينة وكان همي كيف أجدُ مسجداً قريباً أستطيع الصلاة.

لازلت أتذكر صديقاً لي حين اصطحبني لسكني ونحن نستقل الحافلة قائلاً : (ترى في زاوية الشارع هذا، أظن أن هناك مسجد) حفظت الشارع جيداً وعزمت من الغد البحث عن ذلك المكان، من الغد نزلت من الحافلة قريباً من الشارع المذكور مشيت متلفتاً باحثاً عن مقصودي وصلت إلى زاوية الشارع لم أرى شيئا غير حانة للخمور!! وأمامها بناية قديمة ذات طابقين لها بابٌ كبير يتسع لدخول سيارة، من أول وهلة تراها تتخيلها شركة أو مكاتب تجارية.

اقتربت من الباب وكان مفتوحاً قليلاً أدخلت رأسي لأرى هل هذا مقصودي أم لا؟ لم أجد شيئاً غير ساحة مغطاة على شكل مربع متوقفة فيها سيارة، هممت بالرجوع غير أني لمحت باباً كأنه لدورة مياه أو مكان للوضوء.

دلفت ناظراً عن يميني فإذا بابين لقاعة ليست بالكبيرة اقتربت من باب القاعة فوقعت عيني على رجل جاوز الخمسين واضعاً مصحفاً في حجره يقرأ القرآن، عرفت بعدها أني بلغت مقصودي، خطوت للرجل وسألته عن أوقات الصلاة ثم خرجت مسروراً.

عرفت فيما بعد أن هذا المسجد كان مبنى للمطافئ فاشتراه المسلمون قبل أكثر من 20 سنة أو أكثر ليقيموا فيه مركزاً أصبح يعرف بـ (The Australian Federation of Islamic Councils) أو اختصاراً (AFIC) الإتحاد الإسترالي للمجالس الإسلامية فكان الطابق العلوي مكاناً لهذا المركز وفي الأسفل قاعة جعلت مسجداً، مما علمته فيما بعد أن هذا المسجد قبل قرابة الأربع سنوات أو أكثر لم يكن يصلى فيه إلا الجمعة والأعياد ثم جاء عدد من الإخوة المبتعثين السعوديين - لا نعلمهم الله يعلمهم- وطالبوا بفتحه للصلوات الخمس فرفض المركز بحجة أنه لا يوجد أحدٌ يصلي جماعةً إلا قليل!! فوعدوهم بأن عدداً يريدون الصلاة جماعة، اليوم وبعد مرور هذه السنوات أصبح المسجد مقصداً لكثير من المسلمين من المارة وغيرهم بل أصبح عامراً بالمصلين ففي رمضان المنصرم كان المسجد يمتلئ بالمصلين نساءً ورجالاً بل لم يخلو من معتكفين طوال العشر الأواخر رغم صعوبة ذلك حيث أن الكثير منشغل بين دراسة وعمل.

وللعلم كانت سيدني قبل قرابة سنوات قليلة لا يوجد فيها إلا مساجد قليلة والآن تعانق المائة بل لا أذكر شهراً يمر إلا وأسمع أن هناك من يريد أن يجمع تبرعات لشراء أرض لبناء مسجد أو كنسيةً لجعلها مسجداً.

من الأسماء التي طرقت مسمعي منذ أن قدمت أستراليا مهتمة بالدعوة ونشر الخير رجل اسمه سعيد القحطاني
يكنى بأبي خالد وله أخٌ لم تلده أم الأول!! يكنى بأبي عبدالإله مرزن الشهراني يقيمان في منطقة ذات أغلبية مسلمة (Auburn) (أوبن) تبعد عن قلب سيدني نصف ساعة بالقطار.. سألت أكثر من شخص عن عنوانه فاهتديت إلى ذلك بعد فترة ليست بالقصيرة.. زرت (Auburn Islamic Community Centre) أو ما يعرف اختصاراً (AICC) أو مصلى أوبن، كان المسجد في الطابق العلوي مساحته تتسع ربما لـ 300 مصلٍ أو أكثر بمجرد صعودك للمسجد تواجهك لوحة ملئت بأوراق وإعلانات عن نشاطات المركز فغداً محاضرةً، واليوم استئناف للدرس اليومي، وحلقة القرآن وتعليم التجويد لا تزال مستمرة، ودورة الخطابة لتأهيل خطباء معلنٌ عنها.. جهود رائعة وبذل متواصل.. هذا المركز كان ممن شاركت في غرسه يدا الشيخين.

في عام 2003 توجها كلاهما لدراسة مرحلتي الماجستير والدكتوراه في تخصص اللغويات قضيا قرابة الثمان سنوات كانت مليئة بالعطاء والدعوة رغم صعوبة الدراسة وكثرة المشاغل.

كانت البداية حرصٌ على تعليم القرآن والتجويد للجالية المسلمة وأبنائها وبعد سنوات يسيرة تيسر إنشاء ذلك المركز المبارك ليكون مشعل خير وهدى..

كانت تجربة الشيخين فريدة بحق، فمع وسطية المنهج كانت فكرة جمع كلمة المسلمين حاضرة.. ففي مختلف الجامعات والمساجد والمراكز كان لهما حضور.. فيا الله كم من غرسٍ طيب غرسوه وكم من علمٍ نشروه..

في يوم السبت 10/9/1431هـ الموافق 18/9/2010هـ بعد تلك المسيرة الحافلة أقامت الجالية المسلمة ممثلة بأحد عشرة جمعية ومؤسسة إسلامية بمختلف التوجهات حفلاً تكريماً لعطائهما معنوناً بـ (My Final Message to Australia) رسالتي الأخيرة لأستراليا. كان الإعلان خالياً من أي شعارٍ لجمعيةٍ أو مركزٍ أو مؤسسةٍ معينة كالعادة ليكون الحفل من الجالية المسلمة وتكريماً من كل مسلم أراد توديع الشيخين. كان الحفل في أكبر مساجد سيدني (مسجد لاكمبا - مسجد الإمام علي رضي الله عنه) حضره جمع غفير من الجالية..

لم تكن كلمات الشيخ عبدالسلام زود رئيس رابطة أهل السنة والجماعة إلا تعبيراً عن حسرته على فقد ذلك العطاء.. وأن الجالية فقدت رجلين كانا قريبين من جميع الجمعيات والمؤسسات والمراكز الإسلامية بنصحهما ودعوتهما وبذلهما في جمع الكلمة ووحدة الصف والتغلب على حظوظ النفس في سبيل نشر الدعوة والعلم.

بدأ الشيخ سعيد القحطاني كلماته بدعوات حارة لكل من حضر تحمل في طياتها تضرعاً وخشوعاً رققت القلوب وألهبت المشاعر.. لم يكن للشيخ سعيد أن ينسى تلك الأيام التي كانت تأخذه أمه في دلجة الليل هو وإخوته لمسافة تقارب 3 كيلومترات لصلاة الفجر حيث بقيت الأم الصالحة المصلحة التي فقدت زوجها على العهد في العناية  وإصلاح الرعية.. كانت رسائله رسائل وداع حملت نصحاً وتوجيهاً مع زفرات ألم فراق لأناس لم يجمعه معهم إلا حب ذلك الدين العظيم.

ولم تكن كلمات الشيخ مرزن الشهراني ببعيدة عن ذلك موصياً بتقوى الله ورجاء عفوه، ولم تكن المرأة المسلمة المحتجبة المحَاربة لأجل سترها لتغيب عن تلك الرسائل بوصيتها بالثبات عليه وأنه درب الطاهرات أمهات المؤمنين رضي الله عنهم.. خاتماً بدمعات هزت قلوباً محبة له لم تجمعه معها إلا حب الله ورسوله ودينه.

أيها الأحبة:
إن مما يتفق عليه العقلاء أجمعين أن المبادئ والقيم تبقى وتنتشر طالما هناك مجموعة مؤمنة بتلك المبادئ تضحي من أجلها تبذل الغالي والنفيس من أجل بقائها.. فهم وقودها ومشعلها.. بغض النظر عن تلك المبادئ.. فكيف إذا كانت تلك المبادئ الرائعة التي جاء بها ديننا.. إن الغربة والابتعاد عن الوطن رغم ألمه إلا أنه يحمل في طياته منح.. ولكن الحصيف من يستفيد منها.. رغم ألم الكثير على شباب باعوا دينهم في غربتهم لشبهات وشهوات تبقى هذه الأمثلة الطيبة جابرة لتلك الجراح حجةً على من زاغ.

تلك الأرض البعيدة جداً التي تختلف اختلافا كبيراً عن ديننا ومبادئنا وقيمنا لم تكن عائقاً للثبات بل سقيت من عبق ديننا.. ففي (يومئذ تحدث أخبارها) ستشهد على تلك النماذج بأنها مشت عليها حاملة رسالة رب العالمين لم يغرها متع الحياة وشهواتها.. رجعت بدين وعلمٍ وفكرٍ لم تلوثه أفكار جعلت الشهوات والشبهات معبوداً لها.. فسلامٌ ووداعٌ محمل حباً وشكراً للشيخين وأمثالهما.


 

منوعات الفوائد