اطبع هذه الصفحة


إلى من يريد القداسة

زياد عابد المشوخي


لما رجع الصحابة - رضي الله عنهم - المهاجرين من الحبشة إلى المدينة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ تُحَدِّثُونِى بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ". قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِىَّ، وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِى وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِى وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : "صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ"، أخرجه ابن ماجة.
إن هذه المرأة الراهبة العجوز ضعيفة، لا يهابها أحد، ولا يخشى منها، وهي مع ضعفها تحمل جرة الماء على رأسها، فيأتي ذلك الفتى وهو في عنفوان شبابه وقوته وبأسه، يستمتع بالإيذاء، فيدفع العجوز ويسقطها، فتخر على ركبتيها، وتنكسر جرة الماء التي كانت على رأسها.
ترفع رأسها العجوز وتنطق بكلمات ترتجف منها القلوب الحية، تناديه يا غُدر مبالغة في وصفه بالغدر، وتذكره بأنه سيعلم وينال ويلقى جزاء فعلته هذه، وتصف ذلك المشهد العظيم المهيب، عندما يضع الله الكرسي، ويجمع الأولين والآخرين، إنها ذات المشاهد التي جاءت في القرآن الكريم: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ...}، وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا...}، وقوله سبحانه: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، (سورة الزمر: 75).
وتصف المزيد من مشاهد ذلك اليوم فتقول: وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِى وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، وهذا ما أخبرنا الله عز وجل به: { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، (يس: 65).
عندها فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِى وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا، فحرف الفاء للتعقيب، وقولها: غداً، إيماناً منها بقرب ذلك اليوم، وهذا المشهد.
ثم يعلق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المشهد، وعلى هذه الكلمات العظيمة، فيقول: "صَدَقَتْ، صَدَقَتْ".
ويسأل عليه الصلاة والسلام سؤال استخبار فيه إنكار، وتعجب، "كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟ أي: أخبروني كيف يُطهر الله قوماً لا ينصرون العاجز الضعيف على الظالم القوي مع تمكنهم من ذلك، إنها أمة لا تستحق التقديس!
والتقديس أي الطهارة من الآثام والدنس، أي لا يُطهرهم الله أبداً، فما أعجب حال الأمم التي تظن أنها ومع تماديها في الظلم ستكون طاهرة، بل هي قذرة بالظلم لا يطهرها إلا رفعه، وإن طهرت حسياً فإنها لن تطهر معنوياً.
وجاء في رواية أخرى: "لا يأخذ ضعيفها حقه من قويها وهو غير متعتع"، أي: من غير أن يصيبه تعتعة أو خشية أو تردد في أخذ حقه والمطالبة به.
إنها مظلمة لعجوز في الحبشة، فكم من المظالم خفيت علينا أخبارها أو أُخفيت، وإن المظالم تعظم إن صدرت ممن ولي أمراً للعامة، لكون ضررها يعم.
ولا نزال نرى ونسمع عواقب الظلم ونتائجه، علاوة على النصوص الواردة في شأنه والتحذير منه وبيان عاقبته في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
فإن كنا نريد الاستقرار والبركة والنمو والتطور والازدهار فإن هذا كله مرتبط برفع الظلم، وإعادة الحقوق، والانتصار للمظلوم والضعيف، وإقامة العدل.
إن العودة إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وهذا الأمر ليس على مستوى الدول بل حتى على مستوى الأفراد، كما ثبت في الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: " كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته". قال: فسمعت هؤلاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والرجل في مال أبيه راع ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته".
فإن أدرك كل فرد مسؤولياته وواجباته وتخلص من المظالم، زال الظلم واستحقت الأمة القداسة، فإلى كل من يريد القداسة تخلص من الظلم.

 

منوعات الفوائد