اطبع هذه الصفحة


صرخات الشابي ونيران بوعزيزي

دعاء عبد السلام حامد


بسم الله الرحمن الرحيم


أبو القاسم الشابي شاعر تونسي، عاش معذباً جريحاً، مطعوناً بسيف الظلم والقهر، عبقريته الشعرية أذاعت اسمه في فضاء الكون وأسمعت صوته لكل مستمع على الرغم من صغر سنه. عاش متألماً لحال الشعب. يقول عن نفسه في رسالته المؤرخة في صفر 1348هـ (آب 1929م) لصديقه الحميم الشيخ محمد الحليوي: "أما هذه النفس فإنها طائر معذب، مطعونٌ يسكب دماءه فوق الصخور القاسية، وبين أشواك السبيل دون أن يظفر بعشه الذي عبثت به العاصفة ولا بسربه الذي شردته النسور".
 تأججت بداخله الثورة، واندلع في صدره الشعور القوي بالرغبة في الاتحاد وضرورة الغضب والثورة للتخلص من ظلم الطغاة. وعاش الشابي ينثر بذور الثورة، وما من ساقٍ لها يرعاها! عاش يعزف ألحان الألم على أوتار الشعب الصامت يتملكه شعوره القوي بقرب الرحيل مستبطئاً قدوم الفجر، فهو القائل:

يا بني أمي تُرى أين الصَّباح * قد تولى العمر، والفجرُ بعيد؟

عاش حائراً منتحباً يحن إلى الصباح وبزوغ الفجر الجديد، يقول:

يا بني أمي تُرى أين الصباحْ * أوراءَ البحرِ أم خلف الوجود؟

تلك الصرخات التي أطلقها الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، كانت قادرة على اندلاع ثورة شعب، وبث روح الحياة في بذور الأمل، لكنها - للأسف - لم تتعد كونها حبر على الأوراق وتمتمة تتحرك بها الشفاه، وقد فطن أبو القاسم إلى هذا المصير، إذ علم أن شعبه لا يستمع ولا يستجيب، وأدرك أن القصائد وحدها غير كافية لتحميسه، فبكى بحرقة ومات حزيناً. وكادت صرخاته أن تُنسى لولا أن تناولها أرباب الأدب على النحو الذي يخصهم يحللون ويشرحون وينقدون ويصفقون لشاب زأر وملك من الحماس ما لم يملكه شعبه، ملقين اللوم في نفس الوقت على الشعب؛ لعدم إنصاتهم لتلك الصرخات، التي كانت كافية لصم الآذان وإشعال النار في الحطب، والتي فطن صاحبها فيما بعد إلى أنه لا حياة لمن تنادي، فقد سمعوا وما استمعوا فبدت قاسية قلوبهم، يقول([1]):

يا شعرُ أسْمَعْتَ لكن * قومي أراهم سُكارى
فلا تُبال إذا ما * أعْطَوْا نِداك ازْوِرارا
واصبِرْ على ما تُلاقي * واصْدَعْ وُقيتَ العِثارا

نداءاته كانت كالشرار لكن ما من مستمع حُبِست قهراً في غرفة مهجورة ملؤها الأمل وما من أحد يهمَّ بتمرير طرف إصبعه ليتلمس بصيصاً من ذاك الأمل. ولما اكتشف الشابي أن شكواه ضائعة في فضاء الكون ما بين آذان صماء، وعيون عمياء، تعاطف مع شعبه، وأدرك سبب تجاهلهم لنداءاته؛ يقول([2]):

 حارَ المساكين وارتاعو وأعجزهم * أن يحذروه، وهل يجديهم الحذر؟
وكيف يحذرُ أعمى، مُدْلَجٌ تعبٌ * هول الظلام ولا عزمٌ ولا بصر؟
قد أيقنوا أنه لا شيء ينقذهم * فاستسلموا لسكون الرعب وانتظروا
حقيقةٌ مُرَّةٌ يا ليلُ مُبْغَضَةٌ * كالموتِ، لكن إليها الوردُ والصَّدْرُ

وكم أجاد الشابي الوصفَ!  ذلك الشاعر الرومانسي الحالم والغاضب الثائر، وكم أحسنَ التعبير عن مشاعره وما يجول في خاطره وما يسكن قلبه لكنه لم يجد لإجادته صدى، واكتفى التاريخ بمجرد الاحتفاظ بآهاته بين دفتي كتاب أسموه "ديوان أبي القاسم الشابي" ونسي الناس أن بين هاتين الدفتين جزءاً كبيراً من آلام القلب والنفس لابن تونس، ووُضع الديوان على الأرفف لسنوات مرت، وقد لا تتلمسه إلا أيادي المتخصصين ومتذوقي الشعر.
واستمر الشابي حتى آخر لحظات حياته متأثراً أشد التأثر لحال شعبه، ومتألماً أشد الألم بسبب محنته، يقول في مرضه الأخير: تمشي إلى العدم المحتوم باكية * طوائف الخلق والأشكال والصور

وأنت فوق الأسى والموت مبتسم * ترنو إلى الكون يُبْنى ثم يندثِرُ

صرخات مكبوتة وآهات ضُرب بها عرض الحائط. وعبقرية شعرية أرهق صاحبها نفسه بالثورة التي بقيت مندلعة بين جنبيه عاجزة عن الانطلاق، وحيداً يستجدي بكلتا يديه العون من الشعب دون أن تُمَدُّ إليه يدٌ فلم ييأس بل قويت إرادة الحياة لديه، يقول([3]):

سأعيش رغم الداء والأعداء * كالنسْر فوق القمة الشَّمّاء

واستمر هكذا في عنفوان شبابه يحلم بالصباح الجديد حتى مات وماتت الثورة معه بعد أن خَفَتَ صوتٌ طالما جهر بها، وغابت روح طالما حملت الشعلة سائرة وحدها على الدرب، حتى جاء اليوم الذي أصَرَّ فيه النهار على الطلوع، وابتسمت الشمس، ولكن من هذا؟! شاب جالس على الطرقات تُلامس خديه كلتا يديه، مُطرق الفكر مصدوم لما حلَّ به من قهر، وأي قهر هذا؟ يا للعجب كم صبر على قهر السلطة، لكنه الآن لم يعد يحتمل الصبر فالتي قهرته امرأة، ونعوذ بالله من قهر الرجال.
يا فتاة كم لأجلك نادوا بالحرية، أي نوع من الحرية هذا؟! وإن كان هذا صنيعك مع الرجال، فما هو صنيعك مع النساء، هل تجذبين شعورهم؟َ!
تلك الصفعة الطائشة من يد فتاة جاهلة على خد شاب بائس كانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير، فخارت قُوى الشاب، وقتلت لديه الرغبة في الحياة، فأطفأ لهيب وجدانه وشمعة حياته بالنار التي أشعلها في جسده، ولكن كيف تطفيء النار ناراً، فما كادت ناره تنطفيء حتى غلى الدم في العروق، وصرخت الأفواه المكممة، وكانت إرادة الشعب للحياة، فهنيئاً لك يا أبا القاسم، ها قد انفرجت دفتي الديوان، واشتعلت النار في وجه الطغيان، وأفاق الشعب من غفلته، أولست القائل([4]):

إذا الشعب يوماً أراد الحياة * فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي * ولا بد للقيد أن ينكسر

قد أراد الشعب الحياة فاستجاب القدر، وبدأت ظلمات الليل تنقشع شيئاً فشيئاً ليبتسم من خلفها وجه النهار بعد أن انكسر قيد الظلم والقهر والطغيان، وحلق الطاغي في الأجواء بعد أن لفظته الأرض وغضبت عليه السماء. وهذا هو مصيرك الحتمي يا من غرَّك استسلام الشعب ولم تدر أن وراء الكبت دمار وعواصف قد تطيح بجبروتك يوماً ما، يقول الشابي([5]):

ألا أيُّها الظالم المُسْتَبدُّ * حبيبُ الظَّلامِ عدو الحياهْ
سَخِرْتَ بأنّاتِ شعْبٍ ضعيفٍ * وَكَفُّكَ مخضوبةٌ من دِماهْ
،،       ،،       ،،
رُوَيْدك لا يَخدعنْك الربيع * وصحوُ الفضاءِ وضوء الصباحْ
ففي الأفق الرَّحْبِ هَوْلُ الظَّلام * وقصفُ الرعودِ وعصفُ الرياحْ
حذارِ فتحت الرماد اللهيب * ومن يَبْذُرِ الشَّوْكَ يجنِ الجراحْ

ألم تلتفت أنت أيضاً لتحذيرات الشابي؟! بلى... تجاهلتها كما تجاهلها غيرك.
وبالنظر في ديوان الشاعر نجد أن أبا القاسم في حماسه وثورته كان أقوى على الصبر وأقدر على التحمل من محمد بوعزيزي، فمن المتناقضات بينهما أن الأول أراد الحياة حتى يرى وجه النصر مبتسماً، لكنه فقد كل مُعين، وخذله كل أحد أما الثاني فقد اختار الموت دون انتظار أحد.  رفض أبو القاسم الموت كسبيل للتحرر من القيود وعدَّه جنوناً وجزعاً ورأياً مريضاً وخور في حين  اختاره بوعزيزي كسبيل للهروب من الطغيان. يقول الشابي([6]):

يا ليل ما تصنع النفس التي سكنتْ * هذا الوجود، ومن أعدائِها القَدَر؟
ترضى وتسكت؟ هذا غير محتمل! * إذاً فهل ترفض الدنيا وتنتحر؟
وذا جنون، لعمري كله جزعٍ  * باكٍ ورأي مريض كله خَوَر!

أما قصيدته "إلى الموت"، والتي يقول فيها([7]):

 إلى الموت إن حاصَرَتْكَ الخُطوبُ * وسَدَّت عليكَ سبيلَ السَّلامْ

فهذه ليست دعوة منه للانتحار؛ لأنه يختم هذه القصيدة نفسها بقوله:

هُنالك خلف الفضاء البعيد * يعيش المنونُ القويُّ الصَّبوحْ
يضُمُّ القلوبَ إلى صدرِهِ * ليأسوَ ما مَضَّها من جُروحْ
ويبعثُ فيها ربيعَ الحياةِ * ويُبهجَها بالصَّباحِ الفَروحْ

ولأنه أيضاً لم يقبل على الموت بل كان في انتظاره، وقد لامه - الموتَ - في قصيدة أخرى؛ لإبقائه حياً يواجه المصاعب والمشقات، يقول([8]):

يا موتُ، قد مزقت صَدْري وقَصَمْت بالأرزاء ظهري
وقسوْتَ إذ أبقيتَني في الكونِ أذْرَعُ كلَّ وعْرِ

وهذا الشعور بالراحة النفسية والحب الإلهي والرغبة في لقاء الخالق المنان شعور لا ينبع من قلب شخص مقبل على الانتحار، إنما هو شعور تبثه روح شخص مؤمن بأن الموت نصف الحياة المتسم بالهدوء، فلا ثورة ولا غضب بل حساب على ما مضى.
وما من مسلم صادق يرى أن انتحار بوعزيزي خير له؛ لأن الروح ملك خالقها يهبها لنا متى شاء ويأخذها متى شاء، ولا ينبغي أن يضعف الإيمان لدرجة الانتحار ونحن في بلاد الإسلام. فإن قيل إنه لم يكن خيراً له فإنه لا يمكن لأحد أن ينكر أنه كان خيراً للشعب فما أفاق إلا بهذا الشرار المتقد في جسده. (وليس المجال هنا مجال توضيح الحكم الشرعي للانتحار، متروك لأهل الفقه، والله أعلم).
فهنيئاً لك أبا القاسم، صرخاتك القوية وهمساتك الصادقة النابعة من القلب قد أعادتها للنور نيران بوعزيزي المشتعلة في جسده فانتفض الأهل لهذا الغضب الثائر وأفاقوا من سباتهم الطويل وانقشعت الظلمة وتهشم وجه العدوان فكان الصباح الجديد الذي تمنيتَه أيها الثائر الباكي فالآن حقاً ولأجل أشقائنا وشقيقاتنا في تونس، لهم ومعهم نردد قولك([9]):

اسكني يا جراح * واسكتي يا شجون
مات عهد النُّواح * وزمان الجنون
وأطلَّ الصباح * من رواء القرون([10])

فالوداع الوداع يا شاعر الخضراء، آهاتك تبقى وما لها انتهاء، وشعبك الثائر قوي الأداء، ما عاد يسكت عن أي اعتداء، الآن اهنأ في قبرك بعد أن ألجم الظلم بسوط الغضب، والصبح جاء.
أجمل تحية من أهل مصر ومن كل مسلم حر أصيل للشعب التونسي الشقيق، وهنيئاً لكم عودة الحق لأصحابه، وعودة الدين لرجاله وأرضه وأهله.
استمروا في الصحوة، والله الله في أنفسكم، أحسنوا اختيار ولاة أموركم، وكان الله معكم.
اللهم أنر هذا البلد وكل بلاد المسلمين بنور الإيمان إنك سميع قريب مجيب الدعاء.
 

دعاء عبد السلام حامد
باحثة ماجستير(بلاغة ونقد)
 

--------------------------------
[1] - ديوان أبي القاسم الشابي (أغاني الحياة وقصائد أخرى)، ص281 قصيدة "الصيحة"، تقديم وشرح أحمد عبد الهادي – مكتبة الآداب، ط1، 1427 هـ - 2006م
[2] - ديوان الشابي ص282، 283 قصيدة "شكوى ضائعة".
[3] - ديوان الشابي ص220 قصيدة "الجبّار أو هكذا غنى بروميثْيوس".
[4] - ديوان الشابي ص266 قصيدة "إرادة الحياة".
[5] - ديوان الشابي ص209 قصيدة "إلى طغاة العالم".
[6] - ديوان الشابي ص282 قصيدة "شكوى ضائعة".
[7] - ديوان الشابي ص173 قصيدة "إلى الموت".
[8] - ديوان الشابي ص145 قصيدة "يا موت".
[9] - ديوان الشابي ص249 قصيدة "الصَّباح الجديد".
[10] - من وراء القرون: من مئات السنين


 

منوعات الفوائد