الليل متجهّم عابس .. كأنه قد اسود أكثر من اللازم .. لا تكاد ترى من
خلاله شيئا ، إلا شُعلاً نارية متناثرة هنا وهناك ، ينوس من بينها التماعات
سيوف ورماح وفؤوس ودروع .. تكاد تتقلص وتنكمش على نفسها من شدة الزمهرير .
وما إن تقلّب ناظريك في الأفق ، وتلحظ كثرة اللّمَع وانتشارها الواسع ، إلا
وتدرك أنك أمام جيش عرمرم جرار تنبعث منع أشباح الرعب وروائح الدماء
والأشلاء ..
وقرب إحدى النيران ، تكوّم مجموعة من الجند ، بالكاد تميز ملامحهم من
انعكاسات النار على وجوههم وأجسادهم المتلاصقة ببعضها من البرد .
- بحق مريم الطوباوية ، نكاد ننسحق من هذا البرد القارص ، ونخاف حتى من
ظلالنا .. لا لشيء إلا لجنون الأهوج فرناندو !
هكذا قال أحد الجنود بنزق ، فأجابه صوت آخر :
- تمهل .. تمهل يا صاحبي .. إنها مجرد ليال ونجلي الكفار من غرناطة ونرفع
الصلبان فوق مآذنهم .
فرد عليه بضحكة صغيرة :
- أتمنى لك أحلاما سعيدة يا سيدي. - اسخر كما شئت .. فغرناطة ليست بأحصن
من قرطبة أو إشبيلية أو سائر مدن الأندلس التي تهاوت تحت جبروتنا . -
ولكن لا تنسى أنها آخر معاقلهم .. والإنسان ينقلب وحشاً كاسراً إن لم يتبق له
شيء يخسره !
فجاء صوت من آخر الحلقة الملتفة حول النار ، جاء صوته ضعيفا :
- مادامت روح مريم معنا .. فالنصر لنا ولكل مسيحي مخلص !
فسكت القوم ، وكأنهم رضوا بهذه النهاية المقنعة للنقاش .
وساد الصمت من جديد ، إلا بقية أصوات لحركة جنود هادئة في الهزيع الأخير من
الليل ..
إنه الجيش القشتالي يحاصر غرناطة ، آخر معاقل الإسلام في الأندلس ، ويطوقها
كقبضة فولاذية خانقة ؛ وتحت وطأة هذا الليل الجاثم على الصدور ، تنتشر
الكوابيس ، ويستبد الهلع ، وتضيق الأجساد بأرواحها ، وكأن مارد الخوف
العملاق يحمل منجله على كتفه ، ويرقب المشهد من قريب بابتسامة ساخرة ...
فما لذي _يا ترى_ كان يجري بالضبط داخل حصون تلك المدينة المسكينة ؟
وما لذي تخبّئه الأيام في طيّاتها ؟
*****
- من قال لكم أن المال ليس إله فهو مجنون !
هكذا قال فرناندو لبعض خاصته وهم يشربون نخب الخمور في حصار غرناطة .
كان يحلو له دائما ترديد بعض الحكم بشكل أستاذي ، محاولاً إخفاء ما يشاع عنه
من فسق وفجور ، وتابع فرناندو :
- المال ليس كله وسخ ، كما قال سيدنا المسيح أو كما قال بعض المسيحيين
الصالحين . يا خوليو .. اذهب الآن واصرف مزيدا من الذهب لهؤلاء المسلمين
الملاعين ، وركز على الوزراء . - سيدي ، قد صرفنا لهم الكثير .. - لا
يهم .. لا يهم .. أنا أعرف منك بهؤلاء الأوباش .. الذهب بالنسبة لهم كل شيء ،
وبه تفعل بهم كل شيء .. - حاضر يا جلالة الملك .
وانصرف خوليو وقد جلله بعض الحزن ؛ وتابع فرناندو كلامه وهو يهز رأسه بطريقة
بطريركية :
- كان الحكماء القدماء يقولون : لا بأس أن تستعين بشيطان لتهزم شيطانا آخر
!
وبالفعل دخلت كميات إضافية من الذهب إلى المدينة المخنوقة ، ولكن ذلك تم بشكل
خفي .. حيث أُوصل إلى بعض الأعيان ، الذين كانوا بدورهم يحاولون إخفائه عن
أعين الناس ، فالناس في المدينة بدأوا يجوعون ، وتقل الأموال من بين أيديهم
، وبدأت تظهر على ملابسهم الرثاثة والقدم بسبب هذا الحصار الخانق ، وكانت
مهمة وكلاء القشتاليين هي شراء ذمم الأعيان بالذهب الحاضر ، أما غير الأعيان
فكانوا يمنَّون بالوعود المؤجلة الباذخة ..
اتفق الملك أبوعبدالله الصغير آخر ملوك بني الأحمر في الأندلس ، اتفق مع
فرناندو ملك مملكة قشتالة على الصيغة النهائية لتسليم غرناطة للنصارى ،
وأعلن له استسلام غرناطة بشرط حفظ كرامة المسلمين _على حد تعبيره_ ، وما
تبقى الآن هو تنفيذ هذا التسليم فقط .. وهذا ما كان يؤرق الصغير ويقض مضجعه !
كيف سيسلم غرناطة دون إثارة مشاكل وإراقة دماء ؟!
أبو عبدالله الصغير ، ذلك الرجل المتوسط الطول ، البيضاوي الجسم ، ذو السحنة
البيضاء واللحية القصيرة ، كان هذا الملك يجتاحه هم ثقيل لم يمر عليه في
حياته من قبل .. كان يحس أنه يواجه أحداثا تاريخية كبيرة ، ويساوره شعور
داخلي بأنه سيدخل "ملعنة التاريخ" من أوسع أبوابها ؛ وكلما تحرك ضميره وبدأ
يثير الأسئلة ، حاول أن يشغل نفسه بالأمور الواقعية _كما كان يقول_ بدلاً من
العيش في الأوهام والأحلام التي لا تورث إلا الهم والحزن ..
ثم إنه مجرد ملك ليس إلا ، ملك على أمة طويلة عريضة هي أمة الإسلام ، ولو
نصره المسلمون أو كانوا أقوياء لما فعل ما فعل .. فهو ليس سوى فرد مهزوم من
هذه الأمة المهزومة ، وهؤلاء المسلمين الذين خلف البحر في إفريقيا لم ينصروه
فعليهم المسؤولية أيضا !
هكذا كان يقول في داخله ، ويهز رأسه بشيء من القناعة ، ثم يعاوده هم الخور
والانهزام ، فيقوم ويذرع غرفته الفسيحة جيئة وذهابا ..
كانت غرفته الخاصة مليئة بالنقوش الذهبية ، وقد كسيت جدرانها بأفخر أنواع
الحرير المختلفة الألوان ، وقد علقت في إحدى جوانبها لوحة كبيرة رسمها له
فنان كبير من أكبر فناني الأندلس ، وكان ضوء النهار المنبعث للغرفة باهتا
باردا ..
حين قام من أريكته ومشى قليلا ، التفت وإذا بخياله جالس على الأريكة يحدجه
بنظرات ساخرة ، فارتعب واخذ يطوّح بصولجانه في الهواء وكأنه يقاتل شخصا خفيا
، حتى إذا انجلت له الرؤية وغاب هذا الخيال المزعج ، جلس متعبا على إحدى
الأرائك واستكمل التفكير ..
كيف سيقنع بعض المتهورين الأغرار ، الذين قد يعيقون عملية التسليم ؟ فهم لا
يعرفون مصلحة بلادهم ، ولا يستطيعون النظر أبعد من أرنبة أنوفهم !
لا شك أنها مهمة صعبة ..
واعتلت وجهه الكروي ابتسامة صغيرة ، وبدت عليه ملامح الرضا ، بعد أن تذكر
استطاعة القشتاليين كسب شريحة كبيرة من أعيان غرناطة .. وغشيته الراحة أكثر
بعدما جاءه خبر وصول كميات كبيرة من الذهب إليه _كما وعده بذلك فرناندو_
..
فنادى بصوت مرتاح :
- أيها الحاجب . - لبيك يا مولاي . - ادع لي كبير الوزراء . -
أمرك يا مولاي .
وبعد فترة وجيزة حضر رجل فاخر الملبس ، مهيب الطلعة ، زاده هيبة طوله ولونه
الأقرب للسمرة ، إنه كبير الوزراء عبد الملك .
- كيف الأوضاع في غرناطة يا عبدالملك ؟ - لم يستجد شيء يا مولاي .. إلا
خطتنا لسجن كبار المقاتلين غدا ، كي لا يثيروا المشاكل مع فرناندو . - جيد
.. هذا أمر جيد .. - لكن قلبي يا جلالة الملك يقول لي أن الأمور لن تتم
كما نريد .. - لا تخف يا عبدالملك .. لا تخف .. نحن الآن في نهاية اللعبة
، وينبغي أن نواصل حتى النهاية .. أتعلم يا عبدالملك ..
والتفت الصغير إلى إحدى نوافذ القصر ، وأخذ يتأمل في الأفق .. ثم أكمل :
- أظن أننا لو أقمنا اجتماعاً لوجهاء غرناطة ، نخرج فيه أمام الناس بهذه
الاتفاقية ، نكون قد أضفينا شرعية كبيرة على عملنا .. لذلك فأرجوا أن ترتب
لهذا الاجتماع ليلة الغد ، ونتناول موضوع التسليم وننسقه ، كي نريح ونستريح
! - أمرك يا جلالة الملك .
*****
مرت تلك الليلة قبل ليلة التسليم كشر ليلة مرت على إنسان ..
الملك والوزراء وأعوانهم باتوا ليلتهم بأعين مفتوحة وقلوب تتراقص خوفاً ..
وربما نام بعضهم فأفزعه من نومه كابوس مرعب !
وأما الأهالي فالليل يكاد يخنقهم ، والبرد يبري عظامهم ، وقلة المال والزاد
انعكست على أجسادهم الناحلة وأنفسهم المنفعلة .. وأما المجاهدون الذين كانوا
يدافعون عن غرناطة في الأشهر الماضية ، وأبلوا في القتال أيّما بلاء ،
خصوصاً تلك الهجمات الليلية المباغتة بقيادة الوزير موسى بن أبي غسان الشجاع
الباسل ..
أما هؤلاء المجاهدون فقد باتوا ليلتهم حيارى متسائلين ، خصوصا بعد سماعهم بعض
الشائعات عن تسليم غرناطة ، فكانوا يحسون بأن الأيام تخبّئ لهم مفاجأة ما ..
؟
وأشرقت شمس اليوم التالي مرتخية كسولة ، كأنها تريد الإحجام ؛ ومرت لحظات ذلك
اليوم ثقيلة على النفوس ، وأحس الناس بشيء من العداء للطقس الثقيل الجاثم
على صدورهم ..
وفجأة .. ودون سابق إنذار .. بدأت وحدات من الحرس الملكي بقيادة رئيس الشرطة
"بن كماشة" بنفسه باعتقالات واسعة النطاق في نواحي غرناطة .
كانت الاعتقالات لكبار المجاهدين في الجيش الغرناطي ، وقد تمت الاعتقالات
بشكل مرتبك ومثير للدهشة ! حتى إن الحي الواحد كان يمتلئ بالحرس والعسكر
لاعتقال مجاهد واحد فقط !
وكان هؤلاء العسكر قلقين نزقين ، فربما ضربوا الشخص من المارة لمجرد أنه نظر
إليهم ! كانوا يحسون بالنظرات تفترسهم وتشعل في أجوافهم حريقا داخليا لا
يُحتمل البتة !
حتى الاعتراضات التي كنّ يطلقنها زوجات المجاهدين أو أمهاتهم أو حتى نداءات
أبنائهم كانت تواجه بالصرخات الغاضبة والانفعالات المتشنجة ، وربما بعض
المواقف القاسية من ضرب ونحوه .. لأنها كانت بالنسبة لهم جحيما في الأحشاء
لا يطاق !
وبهذه الطريقة .. وبعد جهدٍ ولأي .. استطاع بن كماشة أن يؤدي مهمته بنجاح !
وصلت أنباء الاعتقالات إلى قصر قائد الجيش الغرناطي الوزير موسى بن أبي غسان
، ذلك المقاتل البارع ، والقائد الباسل ، الذي طالما أرهق الجيش القشتالي ،
وأشعل الجبهات من فوقهم ومن تحت أرجلهم ..
كان بن أبي غسان متوسط الطول ، عريض المنكبين ، أسمر السحنة ، كأنه جاء للتو
من جزيرة العرب ، يخفي خلف ملامح وجهه الوادع إعصاراً مدمّراً وشجاعة نادرة
، وهو ذو بزّة ومظهر حسن متأنق .
ما إن وصلته أنباء الاعتقالات عن طريق حاجبه المخلص "مختار" حتى تمعّر وجهه
واجتاحته سَورة غضب ، فضرب الجدار بقبضة حديدية :
- ألا لعنة الله على هذا الأحمق ..
قالها وهو يخرج زفرات حارة ..
- ومن الذي اعتقلهم يا مختار ؟ - يقال إنهم حرس الملك يا سيدي ، بقيادة
بن كماشة .
فتمتم موسى :
وكم يوم بكيت منه فلما ** صرت في غيره بكيت عليهِ
واستأذن أحد الحجاب ، فأذن له موسى .
- سيدي إن جلالة الملك يدعوك الليلة لاجتماع أعيان غرناطة في قصره على
وليمة العشاء .
ابتسم موسى ابتسامة صغيرة :
- حسناً فعل ، لأني كنت أنوي الذهاب إليه .
وقال لنفسه بصوت خفيض :
- إن لم تطعني يداي فستعصره عصراً !
ثم رفع صوته :
- أسأل الله أن يجعل عاقبة أمرنا خيرا .
*****
قضى الملك الصغير بضع ساعات مع جواريه الحسان قبل اجتمعا المساء ، وذلك
ليروّح عن نفسه قليلا بعيدا عن الملك ومشاكله _كما كان يقول_.
وما إن هبط الظلام حتى بدأت الاستعدادات في مجلس الملك المخصص لمثل هذه
الاجتماعات ، وهو مجلس فاره فسيح تكسوا سقفه النقوش والزخارف المذهبة
والمفضضة ، وخط على جداره بخط بالغ الروعة : ( لا غـــالـــب إلا الـــلـــه
) ، وتملأ المجلس الأرائك والنمارق الثمينة الأقرب للقدم ، ورغم كل القناديل
المضاءة والشُعل التي تملأ الكوى المبثوثة في أرجاء المجلس ، إلا أن الإضاءة
كانت باهتة باردة ، وكأن الظلام يحاصرها ويحبسها لتنطفئ ولكنها تقاوم للرمق
الأخير !
وبالفعل بدأ أعيان غرناطة يتوافدون على مجلس الملك الصغير ، بدأً بالوزراء ثم
بعض التجار والعلماء والوجهاء ..
واكتمل الحضور سريعا على غير العادة ، وأُخبر الملك بذلك فاستعد للنزول ،
وتأهب وتزين ، وكان منفعلاً مرتبكاً ، حتى إنه اصطدم بقنديل في إحدى ممرات
القصر فسقط وكاد يحرق ثيابه ..
كان يحس نفسه تريد الفرار من بين جنبيه ، فهو يكبحها ويلزمها على البقاء :
- سيدخل الآن جلالة الملك .
قال حارسا باب المجلس الذي يدخل منه الملك ، بعد أن ضربا الأرض برجليهما
وحركا رمحيهما بحركة معتادة ، فانقطع صوت وشوشات الأعيان في المجلس ، وتطلع
الجميع نحو الباب .
دخل الملك في المجلس المعتم :
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فرد الجميع التحية .
أخذ الصغير يتطلع يمنة ويسرة ، ويتفرس وجوه الحاضرين وهو يمشي بخطوات متسارعة
حتى اقترب من أريكته الخاصة وجلس .
كان بادي الاضطراب ، خصوصا حين وقعت عيناه على عينيّ بن أبي غسان اللتين
تشتعلان غضباً ، ولكن نظرات كبير الوزراء وابتسامته التآمرية بعثت فيه شيئا
من الاطمئنان ..
أخذ كبير الوزراء عبدالملك يفلّ رقعة "بيان الاجتماع" :
- بسم الله الرحمن الرحيم . لا غالب إلا الله .
ابتدأ عبدالملك بقراءة البيان ، ثم تنحنح ليخرج صوته مصقولا:
- الحمد لله على جزيل آلائه ، والشكر له على وافر نعماءه ، والرضا والتسليم
الأتمين الأكملين على امتحانه وابتلائه ، أما بعد :
أيها السادة الموقرون ، أعيان ووجهاء مدينة غرناطة ..
قد قدر الله مقادير البشر قبل آلاف السنين ، وقضى بحكمته وعدله في هذه الدنيا
بما شاء _سبحانه جل في علاه_ ، فمن رضي فهو المؤمن المطيع ومن سخط فهو
الكافر الآبق ، فالدنيا دار بلاء يميز الله فيها الصابرين من الساخطين ،
والراجين من القانطين ، وهو سبحانه له الآخرة والأولى والآخرة خير وأبقى .
ومن ابتلاء الله لدولتنا _أدام الله عزها_ هذه الجنود المسيحية التي لا قِبلَ
لنا بها ، والتي اجتمعت على الأسوار ، وأذاقتنا لباس الجوع والخوف ونقص من
الأموال والأنفس والثمرات .
وتعلمون جميعا ما أمَرنا به شرعنا الإسلامي الحنيف من وجوب حقن دماء المسلمين
والحفاظ على سلامة أعراضهم وأموالهم ، قال تبارك وتقدس في كتابه العزيز :
ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وقال الرسول الكريم عليه السلام : حفظ
النفس من الإيمان .
وقد أفتى علماؤنا الأفاضل _بارك الله في علمهم_ ..
هنا بدأ بعض العلماء يعتدل في جلسته ويبتسم في بعض الوجوه الناظرة إليه .
- أفتوا بجواز الصلح مع المسيحيين عند الضرورة ، مع اشتراط الحفاظ على
كرامة المسلمين وأمنهم .
وبعد مشاورات ومداولات مع أعيان غرناطة ووجهائها ، فقد ارتأى جلالة الملك
المعظم _أدام الله عزه_ أن تسلّم غرناطة إلى فرناندو بعد العهود والمواثيق
الغليظة أن لا يسفك فيها دم مسلم ، ولا يستباح عرضه أو ماله.
ولله الحكم من قبل ومن بعد ، والحمد لله أولا وآخرا ودائما ، والصلاة والسلام
على رسوله ومصطفاه .
ولا غالب إلا الله .
ثم شرع عبدالملك بطيّ الرقعة ، فخرج صوت من الجهة اليمنى للجلسة :
- من أجل هذا سجنتم رجالي يا جلالة الملك ؟
هنا اضطرب الملك :
- نعم .. لا .. لا .. المقصود هو تسليم غرناطة بنجاح و .. و ..
بدأ الملك يتصبب عرقا ، فأكمل عنه كبير الوزراء :
- إن هذا هو اتفاق أهل غرناطة جميعا ، ولا نريد أن يؤثر بضعة أشخاص على
مصير مجتمع كامل ..
فلملم الملك نفسه واقتحم :
- إن فرناندو قد وعدني وعدا قاطعا بألا يمس أحدا من المسلمين بمكروه ، وإن
جندك سيفرج عنهم حين تستتب الأمور وتهدأ ..
فقاطعه موسى بصوت محبوس بالغيظ :
- بأي حق تبيعون غرناطة .. آخر ما تبقى لنا ؟! - الكل هنا راضون .. وهذا
خير لأهل غرناطة .. انظر .. ثم إن .. آ ..
قاطع كبير الوزراء الملك التلجلج :
- نحن لم نبع شيئا ! أرجوا أن تحترم ألفاظك يا بن أبي غسان !
فأحس الملك بشيء من الراحة :
- نعم نحن لم نبع شيئا . - بلى بعتم أراضي الإسلام ، وأملاك المسلمين ،
من عهد موسى وطارق وحتى اليوم ، وهذه الأرض تُروى بالتضحيات ، ولكم سكبت
فيها الدماء والدموع ، وفداها أجدادنا بأرواحهم وأموالهم وأعراضهم .. وها
أنتم اليوم تبيعونها بأبخس الأثمان ! أنسيتم مافعل فرناندو بالمدن القريبة
حولنا ؟! لم يرع فيها عهدا ولا وعدا ، واستباح الدماء والأعراض والأموال ،
وأجبر الناس على التنصّر ، فإذا جاء يومكم .. لن يرقب فيكم إلاًّ ولا ذمة !
- ماذا تريدنا أن نفعل يا بن أبي غسان ؟!
رد الملك مغضبا .
- الموت ... إن لم يبق لنا إلا سبيل الشهادة ، والموت الكريم ، فهو خير من
تقديم رؤوسنا لنذبح كالنعاج !
- تريد أن تزج بالأمة إلى دركات الجحيم يا موسى ؟! - وهل كانت الحياة
الكريمة يوما ما شيئا غير الجحيم ؟!
فتدخّل كبير الوزراء حين أحس بتدهور الوضع :
- الموضوع انتهى يا بن أبي غسان ، والجلسة ختمت ، وأنت تعارض برأيك الشاذ
أهالي غرناطة أجمعين ! - فلنسأل الناس دون تخويف لنرى من الذي يعارضهم !
- لا .. لا .. هؤلاء الذين أمامك يمثلون أهالي غرناطة ، وهؤلاء العلماء
أخذنا بفتواهم ، فهل تريد أن تعارض الشرع أيضا ؟!
فالتفت موسى إلى العلماء وحدجهم بنظرة ملتهبة ، فزاغت أبصارهم وارتبكوا ،
فمنهم من علّق ناظريه في السقف ومنهم من طأطأ ..
وانتصب موسى قائما ، وأخذ يقلّب ناظريه في الحاضرين الذين تاهت أنظارهم ..
كان بعينيه اللامعتين يستجديهم : أليس فيكم رجل شريف ؟!
ثم التفت إلى الملك بأسى وقال :
- فستذكرون ما أقول لكم .. ألا لا نامت أعين الجبناء .. والله لو لم يبق في
غرناطة إلاي .. لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي !
وانطلق مخلفا الجميع وراء ظهره ، متجهاً إلى خارج القصر ، والألم يعتصر فؤاده
الكليم ، والمرارة تجتاح حلقه ، وكأن الدنيا ستتهاوى على بعضها بعد قليل
...
*****
خرج موسى من قصر الملك يلفه الغمّ لفّا ، والليل سواده يشي بالحزن ، حتى بعض
الأصوات المنبعثة من هنا وهناك من الحشرات أو حفيف الأشجار أو غير ذلك ...
كانت الأصوات كأنها تأوّهات من ألم خفيّ ؛ فصاح موسى بمولاه مختار ، الذي ما
إن رأى سيده خارجا حتى أخذ يهيئ له رَكوبه :
- يا مختار . - نعم يا سيدي . - أريدك الآن تذهب وتدعوا لي من تبقى
من قادتي ، انظر إن وجدت : أبالهيجاء ، أو القعقاع ، أو سليمان ، أو صلاح ،
أو النعمان ، إن وجدت أحدا منهم فاطلب منه الحضور فورا إلى قصري . - حسنا
سيدي .
وانطلق مختار ماشيا بهمة ونشاط ، وما إن ابتعد قليلا حتى واراه الظلام ،
واختفى في أحشاء الليل ..
ركب موسى دابته وسار بها متجها نحو قصره ، عبر طرق غرناطة وسككها التي يعرفها
جيدا ؛ كان يسير سير المحزونين ، ساهيا واجما ، يحدّق في اللاشيء ، وكأنه
يتأمل في لوحة فنية لا مرئية ، ويوجه دابته بحركة عفوية نحو قصره ..
كانت تدور في مخيلته تلك الوجوه التي اجتمع معها قبل قليل ؛ وجه الملك ، ووجه
كبير الوزراء ، ووجوه بعض العلماء والتجار ، يتفرسها وجها وجها ، كلما مر
عليه وجه نُخسَ قلبه نخسة ألم مشوبة بندم ..
وبينما هو يسير والحزن يغمره .. فجأةً انتبه .. وأخذ يتطلع يمنة ويسرة ..
وكأن شيئا خفيا استوقفه ..
أخذ يتلفت ، وإذا عن يمينه نهر " شنيل" يمشي ببطء ثقيل ، وقد أحال الليل لونه
الأزرق السماوي إلى أسود قاتم ، والضباب ممتد كلحاف وثير يلفّع المدينة ..
وعلى الضفة الأخرى من النهر .. ومن بين كتل الضباب ، رأى منارة شامخة ،
فاستبان .. فإذا هي منارة مسجد "التقوى" القديم ، من أوائل المساجد التي
بنيت على أرض الأندلس ، كانت باسقة شامخة .. وكأن الظلام والضباب خافا أن
يخفياها عن عينيّ موسى ، فرآها وتفرسها جيدا ، كانت تكاد تبتسم له وتباركه ،
فغمره شعور بالطمأنينة جعله يحث سيره ، عجِلاً إلى موعود الله ...
وبالفعل بدأ يحث خطى دابته ويسرع سيرها ، فأحس بالأشياء تبتسم له .. الأشجار
والمنازل والقناطر والطرقات والأزقة ... كلها تخلع عنها ملكوت الليل وتكاد
تضيء وتفرح له وتحنو عليه وتمسح رأسه رضا بما يصنع ..
فتمتم بصوت خفيض :
أبت لي شيمتي وأبى بلائي ** وأخذي القول بالثمن الربيحِ
وإقدامي على المكروه نفسي ** وضربي هامة البطل المشيحِ
وقَولي كلما جشأت وجاشت ** مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ ** وأدفع بعض عن عرض صحيحِ
وحثّ
السير حتى وصل قصره ..
*****
ترجل عن دابته ودخل قصره مسرعا يحث خطاه ، وما إن سُمع صوت دخوله من باب
القصر حتى هب بعض الخدم والموالي المخصصين لمهنة الاستقبال ، وأخذوا عنه
جبته وعباءته _كما العادة_ وهم مرهقون حيث إن الوقت متأخر في الليل .
- أيقظوا الحاجب سعيد الآن ، وبلغوه أن يسرج البلقاء ويجهزها فورا ! -
حاضر يا سيدي.
وتقافز بعضهم مسرعين لإبلاغ سعيد ، وانطلق موسى إلى جناحه الخاص ، وما إن
اقترب حتى رأى الباب يفتح بهدوء ، وإذا "سمية" زوجته وقد أرهقها السهر تتطلع
إليه بشيء من الفرح لعودته ..
- سمية .. لمَ لم تنامي إلى الآن ؟ - لم يأتني النوم حتى الساعة .
فسكت قليلا وهي تنظر إليه منتظرةً دخوله :
- سمية .. آ .. آ .. - ما بك يا موسى ؟ لم لا تدخل لتنام فالإعياء باد
عليك ؟
وأرتج على موسى .. وساد صمت غريب ..
- موسى .. ما بك ؟ - سمية .. سمية .. آ .. الأوغ .. آ ... - خيرا ..
اللهم اجعله خيرا .. - الأوغاد سيسلمون غرناطة غدا للصليبيين ! - ماذا
؟! - نعم حبيبتي سمية .. نعم يا حبيبتي .. انتهى زمن اللهو وحانت ساعة
الحقيقة .. هيا أعدي لي لأمتي وسلاحي كما تفعلين دائما ..
فخالجها شعور بالحزن والاعتزاز معا ..
- ولكن .. - أسرعي يا سمية رجاءً .. - ونحن .. هل ستجعلنا لقمة
لفرناندو وأتباعه ؟ - لا .. إن مختار يعرف طريقا سهلا آمنا إلى المغرب ،
وستخرجون الليلة قبل طلوع الفجر .. قبل الفجر أفهمت يا سمية ؟ - فهمت ..
- هيا الآن .. جهّزي اللأمة .
وانسابت دموع دافئة في الليل البارد على وجنتي سمية الورديتين ، فأسرعت
بمسحها لعلمها بأنه يكره رؤية الدموع كرها شديدا ، وانطلقت تعد لأمته وهي لا
تكاد تدرك دموعها السحّاء ..
وفي أثناء إعدادها ، أراد موسى أن يلقي النظرة الأخيرة على أبناءه ، "محمد"
الأكبر ، و "عائشة" الوسطى ، و"سلمى" الصغيرة التي شارفت على إكمال سنة من
عمرها .
دخل إلى غرفة محمد المستغرق في نومه ، وقبله بين عينيه قبلة حارة ، وحدق في
وجهه مليا ، وودعه بقبلة أخرى سريعة ، ونظر إليه نظرة الوداع ..
ثم انتقل إلى غرفة عائشة ودخل عليها وهي نائمة ، فأخذ ينظر في وجهها
الطفولي البريء ويبتسم ، ثم تذكر مهمته ، فقبلها قبلة حارة بين عينيها وبدأت
الدموع تجتاح أجفانه الحديدية ، فمسح وجه عائشة كأنه يستدفئ به ، وتأملها
تأمل الوداع ..
ثم تركها وخرج نحو سلمى ، فدخل غرفتها وبدأت بعض الدموع تفرّ من إرادته
فيبادرها بأكمامه ، واقترب منها وأخذ يتأمل وجهها المستدير ذو الملامح
المرحة ، وما إن هبط ليقبل بين عينيها حتى استيقظت وبدأت بالبكاء ..
فتردد قليلا وهو ينظر إليها تبكي ، ثم حملها على كتفه وأخذ يربت على ظهرها
الصغير علّها تسكت ، فهدّأها حنان أبيها وسكنت ثم التفتت إلى والدها كأنها
تتأكد ..
فابتسم ابتسامة الأبوة ، وما إن رأت ابتسامته حتى بدأت تعابث وجهه ولحيته
وتطلق الكركرات الطفولية ظنا منها أن أباها يمازحها ويلاعبها _وهل في حياة
الأطفال شيء غير اللعب ؟_.
فاستجاب لرغبتها في اللعب وأخذ يقفّزها بين يديه ويعليها في الهواء وضحكاتها
تملأ المكان ..
انتهت زوجته سمية من تجهيز لأمته وذهبت تبحث عنه ، فلما اقتربت من غرفة سلمى
وسمعت ضحكاتها توقفت وأدركت الذي يجري .. فانسابت الدموع على وجنتيها مرة
أخرى .. وودت لو توقف الزمن على هذه اللحظة توقفاً سرمدياً خالدا ...
ودخل موسى عالما آخر مع صغيرته سلمى ، وما هي إلا لحظات حتى تذكر مهمته و
واجبه !
أوقف لعبه مع سلمى ، وأخذ يتأمل وجهها البريء ، وهي تطلق ضحكات صاخبة وكلمات
طفولية غير مفهومة ، وأحيانا تقوم ببعض الحركات بوجهها أو لسانها فيتطاير
رذاذ لعابها على وجه أبيها ...
توقف موسى وأخذ يتأمل مليّا .. فلما أحست بتوقف أبيها غضبت وبدأت تعبر عن ذلك
بحركات يديها وتقاسيم وجهها تريد استكمال اللعب المرح في هذا المساء الفريد
..
- سأذهب لأدافع عنك وعن مستقبلك يا طفلتي العزيزة ، وأحمي الآلاف من أطفال
المسلمين أمثالك ، اللذين ربما أصبحوا أصدقائك في الكبر .. وأذبّ عن آبائهم
وأمهاتهم .. فلا تحزني يا عزيزتي .. فوالله لست قاسي القلب ولا وحشيّ الطباع
.. فهيا شجعيني بابتسامة وداع تعظّم شجاعتي وتربط جأشي ..
هكذا كان موسى يحدث نفسه ، وسلمى لا تزال غاضبة تريد استكمال اللعب ؛ فأعادها
موسى إلى فراشها وقد فارقته ضحكته وحل محلها ابتسامة لا تكاد تبين .. فما إن
وضعها حتى بدأت تبكي بشدة احتجاجا على هذه النهاية ، وكانت تبالغ في بكائها
كخدعة طفولية مكشوفة استدرارا لعاطفة أبيها الذي لا يزال واقفا .
- اهدئي يا شقيتي الصغيرة .. فإني لم أدعك إلا ليستمر هناؤك ومرحك ..
قال ذلك ، ثم أسدل على أذنيه وقراً نفسيا ليقطع وصول صوتها ، ثم قبّل جبهتها
قبلة طويلة جعلها تسكت وتهدأ ، ثم استدبرها ومضى إلى غرفته مخلفا ورائه
بكائها ..
وما إن خرج حتى واجه سمية ، فأسرعت تمسح دموعها ، وقالت محاولة إخفاء مشاعرها
:
- لأمتك جاهزة يا حبيبي .. - أشكرك كثيرا .
وانطلق إلى الغرفة وتوشح المغفر والأدرع والسيف والرمح ، واستكمل سلاحه ، ثم
تطلع إلى سمية بعين حانية :
- لا تنسين يا حبيبتي .. قبل الفجر .. إلى المغرب !
فانهارت باكية .. وتملّكها حزن الفراق الأخير .. وألم الإحساس بالنهاية ..
فسقطت ولم تتمالك نفسها ..
فقبّل بين عينيها واحتضنها وهدأ من روعها :
- حبيبتي .. لا تنسين أن بيننا لقاء ليس ببعيد .. في الجنة إن شاء الله ..
فبدأت تلملم روحها المتشظية .. وتتكاتم بكائها وحزنها .. وهي تعلم جيدا أن
زوجها لا يوقفه عن هدفه جميع عواطف الأرض .. فقالت بصوت متهدج:
- حفظك الله ورعاك .. وأسأل الله أن يجمعنا في الدنيا وفي الآخرة ..
وانطلق موسى متجاسرا يزيح عن روحه ثقل الألم ، وينفض عن فؤاده مرارة الحزن ،
وما إن نزل حتى استقبله مولاه مختار :
- بشرني يا مختار ؟ - للأسف يا سيدي .. كلهم قد حبسهم بن كماشة .. -
كلهم ؟ - كلهم .. - ألا لعنة الله على الظالمين .
اسمعني جيدا يا مختار .. إن أهلي أمانة في عنقك حتى يرشد محمد ، أريدك أن
تخرج بهم من غرناطة قبل الفجر ، وتذهب بهم إلى المغرب .
- حسنا سيدي ، ولا تقلق فإني أعرف أسهل الطرق وآمنها للوصول إلى المغرب .
- أشكرك .. وفي رعاية الله .
وانطلق موسى مسرعا ، وامتطى "البلقاء" ، فرسه المفضلة للقتال ، وانطلق بها
مسرعا خارج القصر ، وأمام عينيه شيء واحد فقط : جيش الصليبيين !
كانت الوشائج والذكريات تمر في ذهنه دون تركيز ، فتركيزه منصب على تبديد جيوش
قشتالة ، وسفك دمائهم على عتبات غرناطة !
وبالفعل .. تجاوز مباني غرناطة وأقبل على حصنها ، ثم اجتازه فتبدى له الليل
رمادياً داكناً ، ومن خلف الليل تبدوا التماعات نيران وشُعل الجيش القشتالي
الكبير ..
فاقتحم شهاباً لاهباً يشق جنح الظلام ...
وانقضّ باشقاً يرمق فريسته باستخفاف ...
واجتاحَ حقيقةً تبدّد أشباح الوهم ...
وما هي إلا لحظات حتى ابتدأت حفلة المساء ! وانقض موسى بحسامه يمزّقهم شر
ممزق بضربات خاطفة صاعقة لم تعطهم المتنفس ليدركوا الأمر ، حتى تشحّط القوم
في دمائهم .. فاستوعبوا الأمر وانقضّوا عليه وابتدأت المعركة !
وظهرت فيها فروسية بن أبي غسان ومهارته الفائقة في القتال .. وبعد أن أرهقهم
توجهوا نحو حصانه فلم يدعوه حتى نحروه ، فاضطر موسى للقتال راجلاً ، وابتدأت
معركة جديدة ..
وما هي إلا لحظات حتى توجه المعتركون نحو أرض وحلية طينية ، واستعر القتال
واشتدّت ضراوته .. وما هي إلا لحظات حتى نالوا من ذلك الجسد المنهك وجرّحوه
..
فانساب دمه دافئاً .. واستحال لباسه أحمر قانياً .. وتغير شكله .. وتبدلت
هيئته .. كأنه سيسافر إلى مكان بعيد..
واعتلت محياه ابتسامة هادئة .. ليعيش في عالم آخر ...
ورحل تاركاً خلفه غرناطة الإسلام .. تتراقص فيها الأشباح .. وقد وُشم على
رؤوسها سؤال عريض ...
موسى بن أبي غسان ؟
كتبه بدر الدخيّل
شبكة الفوائد الإسلامية