بسم الله الرحمن الرحيم

انـــتـــصـــار الأشـــبـــاح

 
 الليل متجهّم عابس .. كأنه قد اسود أكثر من اللازم .. لا تكاد ترى من خلاله شيئا ، إلا شُعلاً نارية متناثرة هنا ‏وهناك ، ينوس من بينها التماعات سيوف ورماح وفؤوس ودروع .. تكاد تتقلص وتنكمش على نفسها من ‏شدة الزمهرير .‏
وما إن تقلّب ناظريك في الأفق ، وتلحظ كثرة اللّمَع وانتشارها الواسع ، إلا وتدرك أنك أمام جيش عرمرم جرار ‏تنبعث منع أشباح الرعب وروائح الدماء والأشلاء ..‏

وقرب إحدى النيران ، تكوّم مجموعة من الجند ، بالكاد تميز ملامحهم من انعكاسات النار على وجوههم ‏وأجسادهم المتلاصقة ببعضها من البرد .‏

‏- بحق مريم الطوباوية ، نكاد ننسحق من هذا البرد القارص ، ونخاف حتى من ظلالنا .. لا لشيء إلا لجنون ‏الأهوج فرناندو !‏

هكذا قال أحد الجنود بنزق ، فأجابه صوت آخر :‏

‏- تمهل .. تمهل يا صاحبي .. إنها مجرد ليال ونجلي الكفار من غرناطة ونرفع الصلبان فوق مآذنهم .‏

فرد عليه بضحكة صغيرة :‏

‏-‏ أتمنى لك أحلاما سعيدة يا سيدي.‏ ‏-‏ اسخر كما شئت .. فغرناطة ليست بأحصن من قرطبة أو إشبيلية أو سائر مدن الأندلس التي تهاوت ‏تحت جبروتنا .‏ ‏-‏ ولكن لا تنسى أنها آخر معاقلهم .. والإنسان ينقلب وحشاً كاسراً إن لم يتبق له شيء يخسره !‏

فجاء صوت من آخر الحلقة الملتفة حول النار ، جاء صوته ضعيفا :‏

‏-‏ مادامت روح مريم معنا .. فالنصر لنا ولكل مسيحي مخلص ! ‏

فسكت القوم ، وكأنهم رضوا بهذه النهاية المقنعة للنقاش .‏

وساد الصمت من جديد ، إلا بقية أصوات لحركة جنود هادئة في الهزيع الأخير من الليل ..‏

إنه الجيش القشتالي يحاصر غرناطة ، آخر معاقل الإسلام في الأندلس ، ويطوقها كقبضة فولاذية خانقة ؛ ‏وتحت وطأة هذا الليل الجاثم على الصدور ، تنتشر الكوابيس ، ويستبد الهلع ، وتضيق الأجساد بأرواحها ، ‏وكأن مارد الخوف العملاق يحمل منجله على كتفه ، ويرقب المشهد من قريب بابتسامة ساخرة ...‏

فما لذي _يا ترى_ كان يجري بالضبط داخل حصون تلك المدينة المسكينة ؟

وما لذي تخبّئه الأيام في طيّاتها ؟ ‏

‏*****‏

‏- من قال لكم أن المال ليس إله فهو مجنون !‏

هكذا قال فرناندو لبعض خاصته وهم يشربون نخب الخمور في حصار غرناطة .‏

كان يحلو له دائما ترديد بعض الحكم بشكل أستاذي ، محاولاً إخفاء ما يشاع عنه من فسق وفجور ، وتابع ‏فرناندو :‏

‏-‏ المال ليس كله وسخ ، كما قال سيدنا المسيح أو كما قال بعض المسيحيين الصالحين . يا خوليو .. ‏اذهب الآن واصرف مزيدا من الذهب لهؤلاء المسلمين الملاعين ، وركز على الوزراء .‏ ‏-‏ سيدي ، قد صرفنا لهم الكثير ..‏ ‏-‏ لا يهم .. لا يهم .. أنا أعرف منك بهؤلاء الأوباش .. الذهب بالنسبة لهم كل شيء ، وبه تفعل بهم كل ‏شيء ..‏ ‏-‏ حاضر يا جلالة الملك .‏

وانصرف خوليو وقد جلله بعض الحزن ؛ وتابع فرناندو كلامه وهو يهز رأسه بطريقة بطريركية :‏

‏-‏ كان الحكماء القدماء يقولون : لا بأس أن تستعين بشيطان لتهزم شيطانا آخر !‏

وبالفعل دخلت كميات إضافية من الذهب إلى المدينة المخنوقة ، ولكن ذلك تم بشكل خفي .. حيث أُوصل إلى ‏بعض الأعيان ، الذين كانوا بدورهم يحاولون إخفائه عن أعين الناس ، فالناس في المدينة بدأوا يجوعون ، ‏وتقل الأموال من بين أيديهم ، وبدأت تظهر على ملابسهم الرثاثة والقدم بسبب هذا الحصار الخانق ، وكانت ‏مهمة وكلاء القشتاليين هي شراء ذمم الأعيان بالذهب الحاضر ، أما غير الأعيان فكانوا يمنَّون بالوعود ‏المؤجلة الباذخة ..‏

اتفق الملك أبوعبدالله الصغير آخر ملوك بني الأحمر في الأندلس ، اتفق مع فرناندو ملك مملكة قشتالة على ‏الصيغة النهائية لتسليم غرناطة للنصارى ، وأعلن له استسلام غرناطة بشرط حفظ كرامة المسلمين _على حد ‏تعبيره_ ، وما تبقى الآن هو تنفيذ هذا التسليم فقط .. وهذا ما كان يؤرق الصغير ويقض مضجعه ! كيف سيسلم ‏غرناطة دون إثارة مشاكل وإراقة دماء ؟!‏

أبو عبدالله الصغير ، ذلك الرجل المتوسط الطول ، البيضاوي الجسم ، ذو السحنة البيضاء واللحية القصيرة ، ‏كان هذا الملك يجتاحه هم ثقيل لم يمر عليه في حياته من قبل .. كان يحس أنه يواجه أحداثا تاريخية كبيرة ، ‏ويساوره شعور داخلي بأنه سيدخل "ملعنة التاريخ" من أوسع أبوابها ؛ وكلما تحرك ضميره وبدأ يثير الأسئلة ‏، حاول أن يشغل نفسه بالأمور الواقعية _كما كان يقول_ بدلاً من العيش في الأوهام والأحلام التي لا تورث إلا ‏الهم والحزن ..‏

ثم إنه مجرد ملك ليس إلا ، ملك على أمة طويلة عريضة هي أمة الإسلام ، ولو نصره المسلمون أو كانوا ‏أقوياء لما فعل ما فعل .. فهو ليس سوى فرد مهزوم من هذه الأمة المهزومة ، وهؤلاء المسلمين الذين خلف ‏البحر في إفريقيا لم ينصروه فعليهم المسؤولية أيضا !‏

هكذا كان يقول في داخله ، ويهز رأسه بشيء من القناعة ، ثم يعاوده هم الخور والانهزام ، فيقوم ويذرع ‏غرفته الفسيحة جيئة وذهابا ..‏

كانت غرفته الخاصة مليئة بالنقوش الذهبية ، وقد كسيت جدرانها بأفخر أنواع الحرير المختلفة الألوان ، وقد ‏علقت في إحدى جوانبها لوحة كبيرة رسمها له فنان كبير من أكبر فناني الأندلس ، وكان ضوء النهار المنبعث ‏للغرفة باهتا باردا ..‏

حين قام من أريكته ومشى قليلا ، التفت وإذا بخياله جالس على الأريكة يحدجه بنظرات ساخرة ، فارتعب واخذ ‏يطوّح بصولجانه في الهواء وكأنه يقاتل شخصا خفيا ، حتى إذا انجلت له الرؤية وغاب هذا الخيال المزعج ، ‏جلس متعبا على إحدى الأرائك واستكمل التفكير ..‏

كيف سيقنع بعض المتهورين الأغرار ، الذين قد يعيقون عملية التسليم ؟ فهم لا يعرفون مصلحة بلادهم ، ولا ‏يستطيعون النظر أبعد من أرنبة أنوفهم !‏

لا شك أنها مهمة صعبة ..‏

واعتلت وجهه الكروي ابتسامة صغيرة ، وبدت عليه ملامح الرضا ، بعد أن تذكر استطاعة القشتاليين كسب ‏شريحة كبيرة من أعيان غرناطة .. وغشيته الراحة أكثر بعدما جاءه خبر وصول كميات كبيرة من الذهب إليه ‏‏_كما وعده بذلك فرناندو_ ..‏

فنادى بصوت مرتاح : ‏

‏-‏ أيها الحاجب .‏ ‏-‏ لبيك يا مولاي .‏ ‏-‏ ادع لي كبير الوزراء .‏ ‏-‏ أمرك يا مولاي .‏

وبعد فترة وجيزة حضر رجل فاخر الملبس ، مهيب الطلعة ، زاده هيبة طوله ولونه الأقرب للسمرة ، إنه كبير ‏الوزراء عبد الملك .‏

‏-‏ كيف الأوضاع في غرناطة يا عبدالملك ؟ ‏-‏ لم يستجد شيء يا مولاي .. إلا خطتنا لسجن كبار المقاتلين غدا ، كي لا يثيروا المشاكل مع فرناندو .‏ ‏-‏ جيد .. هذا أمر جيد ..‏ ‏-‏ لكن قلبي يا جلالة الملك يقول لي أن الأمور لن تتم كما نريد ..‏ ‏-‏ لا تخف يا عبدالملك .. لا تخف .. نحن الآن في نهاية اللعبة ، وينبغي أن نواصل حتى النهاية .. أتعلم ‏يا عبدالملك ..‏

والتفت الصغير إلى إحدى نوافذ القصر ، وأخذ يتأمل في الأفق .. ثم أكمل :‏

‏-‏ أظن أننا لو أقمنا اجتماعاً لوجهاء غرناطة ، نخرج فيه أمام الناس بهذه الاتفاقية ، نكون قد أضفينا ‏شرعية كبيرة على عملنا .. لذلك فأرجوا أن ترتب لهذا الاجتماع ليلة الغد ، ونتناول موضوع التسليم ‏وننسقه ، كي نريح ونستريح !‏ ‏-‏ أمرك يا جلالة الملك .‏

‏*****‏

مرت تلك الليلة قبل ليلة التسليم كشر ليلة مرت على إنسان ..‏

الملك والوزراء وأعوانهم باتوا ليلتهم بأعين مفتوحة وقلوب تتراقص خوفاً .. وربما نام بعضهم فأفزعه من ‏نومه كابوس مرعب !‏

وأما الأهالي فالليل يكاد يخنقهم ، والبرد يبري عظامهم ، وقلة المال والزاد انعكست على أجسادهم الناحلة ‏وأنفسهم المنفعلة .. وأما المجاهدون الذين كانوا يدافعون عن غرناطة في الأشهر الماضية ، وأبلوا في القتال ‏أيّما بلاء ، خصوصاً تلك الهجمات الليلية المباغتة بقيادة الوزير موسى بن أبي غسان الشجاع الباسل ..‏

أما هؤلاء المجاهدون فقد باتوا ليلتهم حيارى متسائلين ، خصوصا بعد سماعهم بعض الشائعات عن تسليم ‏غرناطة ، فكانوا يحسون بأن الأيام تخبّئ لهم مفاجأة ما .. ؟ ‏

وأشرقت شمس اليوم التالي مرتخية كسولة ، كأنها تريد الإحجام ؛ ومرت لحظات ذلك اليوم ثقيلة على النفوس ‏، وأحس الناس بشيء من العداء للطقس الثقيل الجاثم على صدورهم ..‏

وفجأة .. ودون سابق إنذار .. بدأت وحدات من الحرس الملكي بقيادة رئيس الشرطة "بن كماشة" بنفسه ‏باعتقالات واسعة النطاق في نواحي غرناطة .‏

كانت الاعتقالات لكبار المجاهدين في الجيش الغرناطي ، وقد تمت الاعتقالات بشكل مرتبك ومثير للدهشة ! ‏حتى إن الحي الواحد كان يمتلئ بالحرس والعسكر لاعتقال مجاهد واحد فقط !‏

وكان هؤلاء العسكر قلقين نزقين ، فربما ضربوا الشخص من المارة لمجرد أنه نظر إليهم ! كانوا يحسون ‏بالنظرات تفترسهم وتشعل في أجوافهم حريقا داخليا لا يُحتمل البتة ! ‏

حتى الاعتراضات التي كنّ يطلقنها زوجات المجاهدين أو أمهاتهم أو حتى نداءات أبنائهم كانت تواجه ‏بالصرخات الغاضبة والانفعالات المتشنجة ، وربما بعض المواقف القاسية من ضرب ونحوه .. لأنها كانت ‏بالنسبة لهم جحيما في الأحشاء لا يطاق !‏

وبهذه الطريقة .. وبعد جهدٍ ولأي .. استطاع بن كماشة أن يؤدي مهمته بنجاح !‏

وصلت أنباء الاعتقالات إلى قصر قائد الجيش الغرناطي الوزير موسى بن أبي غسان ، ذلك المقاتل البارع ، ‏والقائد الباسل ، الذي طالما أرهق الجيش القشتالي ، وأشعل الجبهات من فوقهم ومن تحت أرجلهم ..‏

كان بن أبي غسان متوسط الطول ، عريض المنكبين ، أسمر السحنة ، كأنه جاء للتو من جزيرة العرب ، يخفي ‏خلف ملامح وجهه الوادع إعصاراً مدمّراً وشجاعة نادرة ، وهو ذو بزّة ومظهر حسن متأنق .‏

ما إن وصلته أنباء الاعتقالات عن طريق حاجبه المخلص "مختار" حتى تمعّر وجهه واجتاحته سَورة غضب ، ‏فضرب الجدار بقبضة حديدية :‏

‏- ألا لعنة الله على هذا الأحمق ..‏

قالها وهو يخرج زفرات حارة ..‏

‏-‏ ومن الذي اعتقلهم يا مختار ؟ ‏-‏ يقال إنهم حرس الملك يا سيدي ، بقيادة بن كماشة .‏

فتمتم موسى :‏

وكم يوم بكيت منه فلما ** صرت في غيره بكيت عليهِ

واستأذن أحد الحجاب ، فأذن له موسى .‏

‏-‏ سيدي إن جلالة الملك يدعوك الليلة لاجتماع أعيان غرناطة في قصره على وليمة العشاء .‏

ابتسم موسى ابتسامة صغيرة :‏

‏-‏ حسناً فعل ، لأني كنت أنوي الذهاب إليه .‏

وقال لنفسه بصوت خفيض :‏

‏-‏ إن لم تطعني يداي فستعصره عصراً !‏

ثم رفع صوته :‏

‏-‏ أسأل الله أن يجعل عاقبة أمرنا خيرا .‏

‏*****‏

قضى الملك الصغير بضع ساعات مع جواريه الحسان قبل اجتمعا المساء ، وذلك ليروّح عن نفسه قليلا بعيدا ‏عن الملك ومشاكله _كما كان يقول_.‏

وما إن هبط الظلام حتى بدأت الاستعدادات في مجلس الملك المخصص لمثل هذه الاجتماعات ، وهو مجلس ‏فاره فسيح تكسوا سقفه النقوش والزخارف المذهبة والمفضضة ، وخط على جداره بخط بالغ الروعة : ( لا ‏غـــالـــب إلا الـــلـــه ) ، وتملأ المجلس الأرائك والنمارق الثمينة الأقرب للقدم ، ورغم كل القناديل المضاءة ‏والشُعل التي تملأ الكوى المبثوثة في أرجاء المجلس ، إلا أن الإضاءة كانت باهتة باردة ، وكأن الظلام ‏يحاصرها ويحبسها لتنطفئ ولكنها تقاوم للرمق الأخير !‏

وبالفعل بدأ أعيان غرناطة يتوافدون على مجلس الملك الصغير ، بدأً بالوزراء ثم بعض التجار والعلماء ‏والوجهاء ..‏

واكتمل الحضور سريعا على غير العادة ، وأُخبر الملك بذلك فاستعد للنزول ، وتأهب وتزين ، وكان منفعلاً ‏مرتبكاً ، حتى إنه اصطدم بقنديل في إحدى ممرات القصر فسقط وكاد يحرق ثيابه ..‏

كان يحس نفسه تريد الفرار من بين جنبيه ، فهو يكبحها ويلزمها على البقاء :‏

‏-‏ سيدخل الآن جلالة الملك .‏

قال حارسا باب المجلس الذي يدخل منه الملك ، بعد أن ضربا الأرض برجليهما وحركا رمحيهما بحركة معتادة ‏، فانقطع صوت وشوشات الأعيان في المجلس ، وتطلع الجميع نحو الباب .‏

دخل الملك في المجلس المعتم :‏

‏-‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .‏

فرد الجميع التحية .‏

أخذ الصغير يتطلع يمنة ويسرة ، ويتفرس وجوه الحاضرين وهو يمشي بخطوات متسارعة حتى اقترب من ‏أريكته الخاصة وجلس .‏

كان بادي الاضطراب ، خصوصا حين وقعت عيناه على عينيّ بن أبي غسان اللتين تشتعلان غضباً ، ولكن ‏نظرات كبير الوزراء وابتسامته التآمرية بعثت فيه شيئا من الاطمئنان ..‏

أخذ كبير الوزراء عبدالملك يفلّ رقعة "بيان الاجتماع" :‏

‏-‏ بسم الله الرحمن الرحيم . لا غالب إلا الله .‏

ابتدأ عبدالملك بقراءة البيان ، ثم تنحنح ليخرج صوته مصقولا:‏

‏-‏ الحمد لله على جزيل آلائه ، والشكر له على وافر نعماءه ، والرضا والتسليم الأتمين الأكملين على ‏امتحانه وابتلائه ، أما بعد :‏

أيها السادة الموقرون ، أعيان ووجهاء مدينة غرناطة ..‏

قد قدر الله مقادير البشر قبل آلاف السنين ، وقضى بحكمته وعدله في هذه الدنيا بما شاء _سبحانه جل في ‏علاه_ ، فمن رضي فهو المؤمن المطيع ومن سخط فهو الكافر الآبق ، فالدنيا دار بلاء يميز الله فيها الصابرين ‏من الساخطين ، والراجين من القانطين ، وهو سبحانه له الآخرة والأولى والآخرة خير وأبقى .‏

ومن ابتلاء الله لدولتنا _أدام الله عزها_ هذه الجنود المسيحية التي لا قِبلَ لنا بها ، والتي اجتمعت على الأسوار ‏، وأذاقتنا لباس الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات .‏

وتعلمون جميعا ما أمَرنا به شرعنا الإسلامي الحنيف من وجوب حقن دماء المسلمين والحفاظ على سلامة ‏أعراضهم وأموالهم ، قال تبارك وتقدس في كتابه العزيز : ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وقال الرسول الكريم ‏عليه السلام : حفظ النفس من الإيمان .‏

وقد أفتى علماؤنا الأفاضل _بارك الله في علمهم_ ..‏

هنا بدأ بعض العلماء يعتدل في جلسته ويبتسم في بعض الوجوه الناظرة إليه .‏

‏-‏ أفتوا بجواز الصلح مع المسيحيين عند الضرورة ، مع اشتراط الحفاظ على كرامة المسلمين وأمنهم .‏

وبعد مشاورات ومداولات مع أعيان غرناطة ووجهائها ، فقد ارتأى جلالة الملك المعظم _أدام الله عزه_ أن ‏تسلّم غرناطة إلى فرناندو بعد العهود والمواثيق الغليظة أن لا يسفك فيها دم مسلم ، ولا يستباح عرضه أو ‏ماله.‏

ولله الحكم من قبل ومن بعد ، والحمد لله أولا وآخرا ودائما ، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه .‏

ولا غالب إلا الله .‏

ثم شرع عبدالملك بطيّ الرقعة ، فخرج صوت من الجهة اليمنى للجلسة : ‏

‏-‏ من أجل هذا سجنتم رجالي يا جلالة الملك ؟

هنا اضطرب الملك :‏

‏-‏ نعم .. لا .. لا .. المقصود هو تسليم غرناطة بنجاح و .. و ..‏

بدأ الملك يتصبب عرقا ، فأكمل عنه كبير الوزراء :‏

‏-‏ إن هذا هو اتفاق أهل غرناطة جميعا ، ولا نريد أن يؤثر بضعة أشخاص على مصير مجتمع كامل ..‏

فلملم الملك نفسه واقتحم :‏

‏-‏ إن فرناندو قد وعدني وعدا قاطعا بألا يمس أحدا من المسلمين بمكروه ، وإن جندك سيفرج عنهم ‏حين تستتب الأمور وتهدأ ..‏

فقاطعه موسى بصوت محبوس بالغيظ :‏

‏-‏ بأي حق تبيعون غرناطة .. آخر ما تبقى لنا ؟!‏ ‏-‏ الكل هنا راضون .. وهذا خير لأهل غرناطة .. انظر .. ثم إن .. آ ..‏

قاطع كبير الوزراء الملك التلجلج :‏

‏-‏ نحن لم نبع شيئا ! أرجوا أن تحترم ألفاظك يا بن أبي غسان !‏

فأحس الملك بشيء من الراحة :‏

‏-‏ نعم نحن لم نبع شيئا .‏ ‏-‏ بلى بعتم أراضي الإسلام ، وأملاك المسلمين ، من عهد موسى وطارق وحتى اليوم ، وهذه الأرض ‏تُروى بالتضحيات ، ولكم سكبت فيها الدماء والدموع ، وفداها أجدادنا بأرواحهم وأموالهم ‏وأعراضهم .. وها أنتم اليوم تبيعونها بأبخس الأثمان !‏ أنسيتم مافعل فرناندو بالمدن القريبة حولنا ؟! لم يرع فيها عهدا ولا وعدا ، واستباح الدماء والأعراض ‏والأموال ، وأجبر الناس على التنصّر ، فإذا جاء يومكم .. لن يرقب فيكم إلاًّ ولا ذمة !‏ ‏-‏ ماذا تريدنا أن نفعل يا بن أبي غسان ؟!‏

رد الملك مغضبا .‏

‏-‏ الموت ...‏ إن لم يبق لنا إلا سبيل الشهادة ، والموت الكريم ، فهو خير من تقديم رؤوسنا لنذبح كالنعاج !‏

‏-‏ تريد أن تزج بالأمة إلى دركات الجحيم يا موسى ؟!‏ ‏-‏ وهل كانت الحياة الكريمة يوما ما شيئا غير الجحيم ؟!‏

فتدخّل كبير الوزراء حين أحس بتدهور الوضع :‏

‏-‏ الموضوع انتهى يا بن أبي غسان ، والجلسة ختمت ، وأنت تعارض برأيك الشاذ أهالي غرناطة ‏أجمعين !‏ ‏-‏ فلنسأل الناس دون تخويف لنرى من الذي يعارضهم !‏ ‏-‏ لا .. لا .. هؤلاء الذين أمامك يمثلون أهالي غرناطة ، وهؤلاء العلماء أخذنا بفتواهم ، فهل تريد أن ‏تعارض الشرع أيضا ؟!‏

فالتفت موسى إلى العلماء وحدجهم بنظرة ملتهبة ، فزاغت أبصارهم وارتبكوا ، فمنهم من علّق ناظريه في ‏السقف ومنهم من طأطأ ..‏

وانتصب موسى قائما ، وأخذ يقلّب ناظريه في الحاضرين الذين تاهت أنظارهم .. كان بعينيه اللامعتين ‏يستجديهم : أليس فيكم رجل شريف ؟!‏

ثم التفت إلى الملك بأسى وقال :‏

‏-‏ فستذكرون ما أقول لكم .. ألا لا نامت أعين الجبناء .. والله لو لم يبق في غرناطة إلاي .. لأقاتلنهم ‏حتى تنفرد سالفتي !‏

وانطلق مخلفا الجميع وراء ظهره ، متجهاً إلى خارج القصر ، والألم يعتصر فؤاده الكليم ، والمرارة تجتاح ‏حلقه ، وكأن الدنيا ستتهاوى على بعضها بعد قليل ...‏

‏*****‏

خرج موسى من قصر الملك يلفه الغمّ لفّا ، والليل سواده يشي بالحزن ، حتى بعض الأصوات المنبعثة من هنا ‏وهناك من الحشرات أو حفيف الأشجار أو غير ذلك ... كانت الأصوات كأنها تأوّهات من ألم خفيّ ؛ فصاح ‏موسى بمولاه مختار ، الذي ما إن رأى سيده خارجا حتى أخذ يهيئ له رَكوبه :‏

‏-‏ يا مختار .‏ ‏-‏ نعم يا سيدي .‏ ‏-‏ أريدك الآن تذهب وتدعوا لي من تبقى من قادتي ، انظر إن وجدت : أبالهيجاء ، أو القعقاع ، أو ‏سليمان ، أو صلاح ، أو النعمان ، إن وجدت أحدا منهم فاطلب منه الحضور فورا إلى قصري .‏ ‏-‏ حسنا سيدي .‏

وانطلق مختار ماشيا بهمة ونشاط ، وما إن ابتعد قليلا حتى واراه الظلام ، واختفى في أحشاء الليل ..‏

ركب موسى دابته وسار بها متجها نحو قصره ، عبر طرق غرناطة وسككها التي يعرفها جيدا ؛ كان يسير سير ‏المحزونين ، ساهيا واجما ، يحدّق في اللاشيء ، وكأنه يتأمل في لوحة فنية لا مرئية ، ويوجه دابته بحركة ‏عفوية نحو قصره ..‏

كانت تدور في مخيلته تلك الوجوه التي اجتمع معها قبل قليل ؛ وجه الملك ، ووجه كبير الوزراء ، ووجوه ‏بعض العلماء والتجار ، يتفرسها وجها وجها ، كلما مر عليه وجه نُخسَ قلبه نخسة ألم مشوبة بندم ..‏

وبينما هو يسير والحزن يغمره .. فجأةً انتبه .. وأخذ يتطلع يمنة ويسرة .. وكأن شيئا خفيا استوقفه ..‏

أخذ يتلفت ، وإذا عن يمينه نهر " شنيل" يمشي ببطء ثقيل ، وقد أحال الليل لونه الأزرق السماوي إلى أسود ‏قاتم ، والضباب ممتد كلحاف وثير يلفّع المدينة ..‏

وعلى الضفة الأخرى من النهر .. ومن بين كتل الضباب ، رأى منارة شامخة ، فاستبان .. فإذا هي منارة مسجد ‏‏"التقوى" القديم ، من أوائل المساجد التي بنيت على أرض الأندلس ، كانت باسقة شامخة .. وكأن الظلام ‏والضباب خافا أن يخفياها عن عينيّ موسى ، فرآها وتفرسها جيدا ، كانت تكاد تبتسم له وتباركه ، فغمره ‏شعور بالطمأنينة جعله يحث سيره ، عجِلاً إلى موعود الله ...‏

وبالفعل بدأ يحث خطى دابته ويسرع سيرها ، فأحس بالأشياء تبتسم له .. الأشجار والمنازل والقناطر ‏والطرقات والأزقة ... كلها تخلع عنها ملكوت الليل وتكاد تضيء وتفرح له وتحنو عليه وتمسح رأسه رضا بما ‏يصنع ..‏

فتمتم بصوت خفيض :‏

أبت لي شيمتي وأبى بلائي ** وأخذي القول بالثمن الربيحِ
وإقدامي على المكروه نفسي ** وضربي هامة البطل المشيحِ
وقَولي كلما جشأت وجاشت ** مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ ** وأدفع بعض عن عرض صحيحِ

وحثّ السير حتى وصل قصره ..‏

‏*****‏

ترجل عن دابته ودخل قصره مسرعا يحث خطاه ، وما إن سُمع صوت دخوله من باب القصر حتى هب بعض ‏الخدم والموالي المخصصين لمهنة الاستقبال ، وأخذوا عنه جبته وعباءته _كما العادة_ وهم مرهقون حيث إن ‏الوقت متأخر في الليل .‏

‏-‏ أيقظوا الحاجب سعيد الآن ، وبلغوه أن يسرج البلقاء ويجهزها فورا !‏ ‏-‏ حاضر يا سيدي.‏

وتقافز بعضهم مسرعين لإبلاغ سعيد ، وانطلق موسى إلى جناحه الخاص ، وما إن اقترب حتى رأى الباب يفتح ‏بهدوء ، وإذا "سمية" زوجته وقد أرهقها السهر تتطلع إليه بشيء من الفرح لعودته ..‏

‏-‏ سمية .. لمَ لم تنامي إلى الآن ؟ ‏-‏ لم يأتني النوم حتى الساعة .‏

فسكت قليلا وهي تنظر إليه منتظرةً دخوله :‏

‏-‏ سمية .. آ .. آ ..‏ ‏-‏ ما بك يا موسى ؟ لم لا تدخل لتنام فالإعياء باد عليك ؟

وأرتج على موسى .. وساد صمت غريب ..‏

‏-‏ موسى .. ما بك ؟ ‏-‏ سمية .. سمية .. آ .. الأوغ .. آ ...‏ ‏-‏ خيرا .. اللهم اجعله خيرا ..‏ ‏-‏ الأوغاد سيسلمون غرناطة غدا للصليبيين !‏ ‏-‏ ماذا ؟!‏ ‏-‏ نعم حبيبتي سمية .. ‏ نعم يا حبيبتي ..‏ انتهى زمن اللهو وحانت ساعة الحقيقة .. هيا أعدي لي لأمتي وسلاحي كما تفعلين دائما .. ‏

فخالجها شعور بالحزن والاعتزاز معا ..‏

‏-‏ ولكن ..‏ ‏-‏ أسرعي يا سمية رجاءً ..‏ ‏-‏ ونحن .. هل ستجعلنا لقمة لفرناندو وأتباعه ؟ ‏-‏ لا .. إن مختار يعرف طريقا سهلا آمنا إلى المغرب ، وستخرجون الليلة قبل طلوع الفجر .. قبل الفجر ‏أفهمت يا سمية ؟ ‏-‏ فهمت ..‏ ‏-‏ هيا الآن .. جهّزي اللأمة .‏

وانسابت دموع دافئة في الليل البارد على وجنتي سمية الورديتين ، فأسرعت بمسحها لعلمها بأنه يكره رؤية ‏الدموع كرها شديدا ، وانطلقت تعد لأمته وهي لا تكاد تدرك دموعها السحّاء ..‏

وفي أثناء إعدادها ، أراد موسى أن يلقي النظرة الأخيرة على أبناءه ، "محمد" الأكبر ، و "عائشة" الوسطى ‏، و"سلمى" الصغيرة التي شارفت على إكمال سنة من عمرها .‏

دخل إلى غرفة محمد المستغرق في نومه ، وقبله بين عينيه قبلة حارة ، وحدق في وجهه مليا ، وودعه بقبلة ‏أخرى سريعة ، ونظر إليه نظرة الوداع ..‏

‏ ثم انتقل إلى غرفة عائشة ودخل عليها وهي نائمة ، فأخذ ينظر في وجهها الطفولي البريء ويبتسم ، ثم تذكر ‏مهمته ، فقبلها قبلة حارة بين عينيها وبدأت الدموع تجتاح أجفانه الحديدية ، فمسح وجه عائشة كأنه يستدفئ ‏به ، وتأملها تأمل الوداع ..‏

‏ ثم تركها وخرج نحو سلمى ، فدخل غرفتها وبدأت بعض الدموع تفرّ من إرادته فيبادرها بأكمامه ، واقترب ‏منها وأخذ يتأمل وجهها المستدير ذو الملامح المرحة ، وما إن هبط ليقبل بين عينيها حتى استيقظت وبدأت ‏بالبكاء ..‏

فتردد قليلا وهو ينظر إليها تبكي ، ثم حملها على كتفه وأخذ يربت على ظهرها الصغير علّها تسكت ، فهدّأها ‏حنان أبيها وسكنت ثم التفتت إلى والدها كأنها تتأكد ..‏

فابتسم ابتسامة الأبوة ، وما إن رأت ابتسامته حتى بدأت تعابث وجهه ولحيته وتطلق الكركرات الطفولية ظنا ‏منها أن أباها يمازحها ويلاعبها _وهل في حياة الأطفال شيء غير اللعب ؟_. ‏

فاستجاب لرغبتها في اللعب وأخذ يقفّزها بين يديه ويعليها في الهواء وضحكاتها تملأ المكان ..‏

انتهت زوجته سمية من تجهيز لأمته وذهبت تبحث عنه ، فلما اقتربت من غرفة سلمى وسمعت ضحكاتها ‏توقفت وأدركت الذي يجري .. فانسابت الدموع على وجنتيها مرة أخرى .. وودت لو توقف الزمن على هذه ‏اللحظة توقفاً سرمدياً خالدا ...‏

ودخل موسى عالما آخر مع صغيرته سلمى ، وما هي إلا لحظات حتى تذكر مهمته و واجبه !‏

أوقف لعبه مع سلمى ، وأخذ يتأمل وجهها البريء ، وهي تطلق ضحكات صاخبة وكلمات طفولية غير مفهومة ‏، وأحيانا تقوم ببعض الحركات بوجهها أو لسانها فيتطاير رذاذ لعابها على وجه أبيها ...‏

توقف موسى وأخذ يتأمل مليّا .. فلما أحست بتوقف أبيها غضبت وبدأت تعبر عن ذلك بحركات يديها وتقاسيم ‏وجهها تريد استكمال اللعب المرح في هذا المساء الفريد ..‏

‏-‏ سأذهب لأدافع عنك وعن مستقبلك يا طفلتي العزيزة ، وأحمي الآلاف من أطفال المسلمين أمثالك ، ‏اللذين ربما أصبحوا أصدقائك في الكبر .. وأذبّ عن آبائهم وأمهاتهم .. فلا تحزني يا عزيزتي .. فوالله ‏لست قاسي القلب ولا وحشيّ الطباع .. فهيا شجعيني بابتسامة وداع تعظّم شجاعتي وتربط جأشي ..‏

هكذا كان موسى يحدث نفسه ، وسلمى لا تزال غاضبة تريد استكمال اللعب ؛ فأعادها موسى إلى فراشها وقد ‏فارقته ضحكته وحل محلها ابتسامة لا تكاد تبين .. فما إن وضعها حتى بدأت تبكي بشدة احتجاجا على هذه ‏النهاية ، وكانت تبالغ في بكائها كخدعة طفولية مكشوفة استدرارا لعاطفة أبيها الذي لا يزال واقفا .‏

‏-‏ اهدئي يا شقيتي الصغيرة .. فإني لم أدعك إلا ليستمر هناؤك ومرحك ..‏

قال ذلك ، ثم أسدل على أذنيه وقراً نفسيا ليقطع وصول صوتها ، ثم قبّل جبهتها قبلة طويلة جعلها تسكت وتهدأ ‏، ثم استدبرها ومضى إلى غرفته مخلفا ورائه بكائها ..‏

وما إن خرج حتى واجه سمية ، فأسرعت تمسح دموعها ، وقالت محاولة إخفاء مشاعرها :‏

‏-‏ لأمتك جاهزة يا حبيبي ..‏ ‏-‏ أشكرك كثيرا .‏

وانطلق إلى الغرفة وتوشح المغفر والأدرع والسيف والرمح ، واستكمل سلاحه ، ثم تطلع إلى سمية بعين ‏حانية :‏

‏-‏ لا تنسين يا حبيبتي .. قبل الفجر .. إلى المغرب !‏

فانهارت باكية .. وتملّكها حزن الفراق الأخير .. وألم الإحساس بالنهاية .. فسقطت ولم تتمالك نفسها ..‏

فقبّل بين عينيها واحتضنها وهدأ من روعها :‏

‏-‏ حبيبتي .. لا تنسين أن بيننا لقاء ليس ببعيد .. في الجنة إن شاء الله ..‏

فبدأت تلملم روحها المتشظية .. وتتكاتم بكائها وحزنها .. وهي تعلم جيدا أن زوجها لا يوقفه عن هدفه جميع ‏عواطف الأرض .. فقالت بصوت متهدج:‏

‏-‏ حفظك الله ورعاك .. وأسأل الله أن يجمعنا في الدنيا وفي الآخرة ..‏

وانطلق موسى متجاسرا يزيح عن روحه ثقل الألم ، وينفض عن فؤاده مرارة الحزن ، وما إن نزل حتى ‏استقبله مولاه مختار :‏

‏-‏ بشرني يا مختار ؟ ‏-‏ للأسف يا سيدي .. كلهم قد حبسهم بن كماشة ..‏ ‏-‏ كلهم ؟ ‏-‏ كلهم ..‏ ‏-‏ ألا لعنة الله على الظالمين .‏

اسمعني جيدا يا مختار .. إن أهلي أمانة في عنقك حتى يرشد محمد ، أريدك أن تخرج بهم من غرناطة قبل ‏الفجر ، وتذهب بهم إلى المغرب .‏

‏-‏ حسنا سيدي ، ولا تقلق فإني أعرف أسهل الطرق وآمنها للوصول إلى المغرب .‏ ‏-‏ أشكرك .. وفي رعاية الله .‏

وانطلق موسى مسرعا ، وامتطى "البلقاء" ، فرسه المفضلة للقتال ، وانطلق بها مسرعا خارج القصر ، ‏وأمام عينيه شيء واحد فقط : جيش الصليبيين !‏

كانت الوشائج والذكريات تمر في ذهنه دون تركيز ، فتركيزه منصب على تبديد جيوش قشتالة ، وسفك دمائهم ‏على عتبات غرناطة ! ‏

وبالفعل .. تجاوز مباني غرناطة وأقبل على حصنها ، ثم اجتازه فتبدى له الليل رمادياً داكناً ، ومن خلف الليل ‏تبدوا التماعات نيران وشُعل الجيش القشتالي الكبير ..‏

فاقتحم شهاباً لاهباً يشق جنح الظلام ... ‏

وانقضّ باشقاً يرمق فريسته باستخفاف ...‏

واجتاحَ حقيقةً تبدّد أشباح الوهم ...‏

وما هي إلا لحظات حتى ابتدأت حفلة المساء ! وانقض موسى بحسامه يمزّقهم شر ممزق بضربات خاطفة ‏صاعقة لم تعطهم المتنفس ليدركوا الأمر ، حتى تشحّط القوم في دمائهم .. فاستوعبوا الأمر وانقضّوا عليه ‏وابتدأت المعركة !‏

وظهرت فيها فروسية بن أبي غسان ومهارته الفائقة في القتال .. وبعد أن أرهقهم توجهوا نحو حصانه فلم ‏يدعوه حتى نحروه ، فاضطر موسى للقتال راجلاً ، وابتدأت معركة جديدة .. ‏

وما هي إلا لحظات حتى توجه المعتركون نحو أرض وحلية طينية ، واستعر القتال واشتدّت ضراوته .. وما هي ‏إلا لحظات حتى نالوا من ذلك الجسد المنهك وجرّحوه ..‏

فانساب دمه دافئاً .. واستحال لباسه أحمر قانياً .. وتغير شكله .. وتبدلت هيئته .. كأنه سيسافر إلى مكان بعيد..‏

واعتلت محياه ابتسامة هادئة .. ليعيش في عالم آخر ...‏

ورحل تاركاً خلفه غرناطة الإسلام .. تتراقص فيها الأشباح .. وقد وُشم على رؤوسها سؤال عريض ...‏

موسى بن أبي غسان ؟ ‏

كتبه بدر الدخيّل
شبكة الفوائد الإسلامية

الصفحة الرئيسة      |     منوعات