اطبع هذه الصفحة


ابن القيم والإنترنت

عبد العزيز بن فاهد الحسيني


نحصر شره – أي الشيطان -  في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر: الشر الأول: الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه, واستراح من تعبه معه, فإذا يئس منه من ذلك نقله إلى المرتبة الثانية من الشر وهي البدعة وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن؛ ضررها في نفس الدين وهو ضرر متعد, وهي ذنب لا يتاب منه, فإن أعجزه من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر وهي الكبائر على اختلاف أنواعها فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها ولاسيما إن كان عالما متبوعا فهو حريص على ذلك؛ لينفر الناس عنه ثم يشيع من ذنوبه ومعاصيه في الناس, ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا  - بزعمه إلى الله تعالى - وهو نائب إبليس ولا يشعر, فإن عجز الشيطانُ عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم - "إياكم ومحقرات الذنوب" [صحيح], فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب, فإن أعجزه العبدُ من هذه المرتبة وكان حافظا, لوقته شحيحاً به, يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها, وما يقابلها من النعيم والعذاب, نقله إلى المرتبة السادسة وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه؛ ليزيح عنه الفضيلة, ويفوته ثواب العمل الفاضل, فيأمره بفعل الخير المفضول, ويحضه عليه, ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه, وقل من يتنبه لهذا من الناس !!

هكذا أطلقها مدوية ابن القيم الجوزية الإمام الحبر الهمام, في سماء العلم, مُبْدِعاً بها في البدائع, مجللة تنفذُ إلى القلوب
أنفذ من السهم المرسَل، وأمضى من الصَّمْصامة, من غير استئذان حاجب, أو هيبة هائب. 

هُو البحرُ لا بَلْ دونَ مَا عِلْمِهِ البحرُ ... هو البدرُ لا بل دونَ طَلْعَتِهِ البدْرُ
هُوَ النَـجْمُ لا بل دونَه النـجمُ رُتْبَةً ... هو الدُّرُّ لا بل دون مَنْطِقِه الدُّرُّ

***

كلامه كلُّه دررٌ, وعجائبه لا تنقضي, لكنَّ ما شدَّني منه, وداعب مشاعري, وفضح صمتي, وكشف مكنوني,  ما ذكره – رحمه الله – في المرتبة السادسة من كلامه آنف الذكر, حيث إنه بيَّن حال الشيطان مع أولياء الرحمن, الذين صعدوا إلى فروع العزِّ، وترقّوا إلى ذرى المجد, ووصولوا إلى الرُتب العاليات, في تزكية تلك النفوس الطاهرات, كيف أنه دخل عليهم مدخلاً لا يُتفطن له, إذ أنه صرفهم من طاعة إلى طاعة !

نعم فإذا رأى العبدُ الطائعُ داعيا قويا, ومحركا إلى نوعً من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة, فإنه لا يكاد يقول إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير ويرى أن هذا خير فيقول: هذا الداعي من الله وهو معذور, ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل !

بالأمس القريب لا يكادُ يمر عليَّ اليوم واليومان إلا وقد انتهيت من كتابٍ وبدأت في آخر, والمعلومات حاضرة, وكناشات الفوائد مترعة, أما اليوم وبعد دخولي لعالم (الانترنت) فقد ارتدع العلم, وانقمع الفكرُ, وتردى المحصول, فيمضي عليَّ الأسبوعُ والأسبوعان, بل ربما الشهر والشهران في قراءة مجلدً لطيف, حتى يمل الكتاب من طول الانتظار, ومطاولة المماطلة, (
ومطل الغني ظلم) [متفقٌ عليه] .

لا شك أن جلوسي إزاء (الانترنت) أحتسبه عند الله قربة وطاعة, فوقتي ما بين حلً لمشكلة مكروب أضرمت قلبه, وأقضت مضجعه, أو جواباً لمحتاجٍ للتفقه في دينه, لم يجد هاتفاً مفتوحاً لعالمٍ يشفي غليله, ويثلج صدره, أو محاولة في تعبير رؤيا لمن ضاق ذرعاً بها, وأكسفت باله, وأشازت جنبه, فهو في كربٍ وهمٍ لا يعلمهما إلا الله .


رحمك الله يا ابن القيم
  .. حين ختمت العسلَ بالشهدِ, فقلتَ في آخر كلامك: وهذا لا يتوصل إلى معرفته, إلا بنور من اللهِ, يقذفه في قلب العبد, يكون سببه تجريد متابعة الرسول, وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله, وأحبها إليه وأرضاها له, وأنفعها للعبد, وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم, ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول ونوابه في الأمة, وخلفائه في الأرض, وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك, فلا يخطر بقلوبهم, والله تعالى يمن بفضله على من يشاء من عباده.

بالله لفظك هذا سال من عسلٍ ... أم قد صببتَ على أفواهنا العسلَ

أسأل الله أن يمنَّ عليَّ وعلى من قرأ مقالي هذا من فضله الواسع,,,

 

كتبه
أبو عمر عبد العزيز بن فاهد الحسيني


 

منوعات الفوائد