اطبع هذه الصفحة


حوار ديموقراطي

أمين بن بخيت الزهراني


بسم الله الرحمن الرحيم

حوار ديموقراطي
(حوار خيالي بين شخصيتين خياليتين)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

 يقول صاحب القصة:


في إحدى المناسبات العامة التقيت بصديق لي لم أقابله منذ فترة من الزمن، وكنت أعلم أن لديه اهتماماُ بموضوع الديموقراطية والحريات، فجرى بيني وبينه هذا الحوار:


قال صديقي: لماذا نمنع النصارى من نشر عقائدهم في بلادنا بينما يأذنون لنا بنشر عقيدتنا في بلادهم؟

قلت له بكل بساطة: لأن دستورهم يسمح لنا بذلك لكن دستورنا لا يسمح لهم بذلك، ومن حق كل أمة أن تطبق الدستور الذي تريد.


قال لي: إذاً لماذا ثارت حفيظة المسلمين عندما حُظِر النقاب في فرنسا؟

قلت له: سبب تحفظنا ليس في مجرد منعهم للنقاب، لكننا غضبنا بسبب ديموقراطيتهم المزيفة والتي تسمح بحرية العري، ولا تسمح بحرية النقاب، فحاكمناهم إلى قوانينهم ومبادئهم التي يزعمون. وليس إلى قوانيننا.
ثم تابعت: حتى أكون معك أكثر وضوحاً، لقد ندم الغرب كثيراً على إتاحته للحريات الدينية في بلادهم لأن تلك الحريات ساهمت في انتشار الإسلام رغم سطوة حضارتهم ورغم محاولاتهم لتشويهه، فالحرية مجال خصب لانتشار الإسلام لأنه الحق الذي يزهق كل باطل.. لذا تنبه الغرب إلى ذلك فبدأ بتقليص الحريات ليحد من انتشار المسلمين.
لكني أؤمن أيضاً أن الغرب لم يكن له خيار آخر.. لأنه هدف من تلك الحريات إلى استقطاب العقول من أنحاء العالم وقد حصل له ما أراد.. فساهمت تلك العقول فيما بعد وبشكل رئيس في بناء حضارتهم. وصدق الله حين قال { والله متم نوره ولو كره الكافرون} 8 الصف


قال محدثي: إذاً لماذا لا نتيح الحريات للناس لنستقطب العقول؟

قلت له: من المغالطة القول بأنه ليس في الإسلام مجال للحريات بإطلاق؟ لقد كان أصحاب الأديان المختلفة ينعمون بالأمان في ظل الحكم الإسلامي.. وبسبب تلك الحريات اجتمعت العقول من أنحاء العالم فظهرت حضارة الإسلام في وقت مبكر.
لقد أعطى الإسلام العهد ليهود المدينة، وأعطى الأمان لنصارى القدس، واستوصى خيراً بأقباط مصر. وفي المقابل أقيمت محاكم التفتيش وحولت المساجد إلى اسطبلات للخيول في الأندلس.
إذاً لقد قبل الإسلام بوجود الكافر لكنه وضع له ضوابط حتى لا تضيع هوية المجتمع.وكُتُب العلماء مليئة بحقوق أهل الذمة وأهل الكتاب. بل إن التسامح الساذج من بعض المسلمين في فترة من الزمن ساهم في تفشي السرطان اليهودي في جسد الأمة.
ولنتذكر دائماً أننا عبيد لله ولسنا أحراراً في كل تصرفاتنا، على النقيض من الرجل الغربي الذي تحلل من الكثير من القيم الأخلاقية والدينية. كما إنه وفي كل الأنظمة البشرية لا يوجد ما يسمى بالحرية المطلقة ولكنهم يختلفون في حدودها.(أنصح بالاطلاع على مقال "من ربقة الحرية إلى نعمة العبودية" للشيخ محمد السعيدي)


قال محدثي:
إذاً لماذا  فُرض الجهاد؟ أليس فيه إجبار للناس على الإسلام؟ ألم يقل الله {لا إكراه في الدين
قلت: لم يُفرض الجهاد لإجبار الناس على دخول الإسلام , لكنه فرض لإزالة الطغاة الذي يحولون دون حرية الناس في التعرف على الإسلام. فالإسلام يحارب لأجل تحرير العباد من ظلم الطغاة وجبروتهم. ثم إن الغرب لم يعلن بصراحة محاربته لنشر الإسلام.. لكننا نؤمن بأنه سيعلنها يوماً ما لأن الإسلام يهدد وجودهم.. {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } البقرة 120

ألم يستخدم الغرب كل أسلحته العسكرية والإعلامية والاقتصادية لتصدير وفرض ديموقراطيته على دول العالم؟ إذاً لماذا يحرم علينا تصدير مبادئنا؟

ثم إن كل شرائع الإسلام يا صديقي العزيز مرهونة بالإستطاعة { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } والأمة اليوم تعاني من ضعف وظلم كبيرين.. وهي لم تستطع تحرير نفسها من طغاتها.. فضلاً عن تحرير الغرب والشرق من طغاته.


قال محدثي: أليست الديموقراطية مفيدة لنا.

قلت: ربما، لكن ما هي الديموقراطية؟ هل تسألني عن فلسفة الديموقراطية أم آليّاتها أم واقعها؟


قال: آليّاتها وواقعها.

قلت: الديموقراطية، مثلها مثل غيرها من العلوم الغربية التي نأخذ منها ما يفيدنا ونترك منها ما يتعارض مع ديننا. وكما أن في الشيوعية سلبيات، فالديموقراطية لديها سلبيات.
أما من خلال واقعها فأعتقد أن الديموقراطية فيها خلل كبير..بل بدأت الشعوب الغربية تعيد النظر فيها، فإن الذي يترشح في انتخاباتهم هم أصحاب الأموال والنفوذ والإعلام.. فتحولت الشعوب من ديكتاتورية أهل السلاح إلى دكتاتورية أهل المال والإعلام. أما اقتصادياً فقد أثبتت الأزمات المالية العالمية المتوالية فشل النظام الرأسمالي الذي يقوم على الربا. وقد شهد بذلك"بوفيس فانسون
" عندما كتب في افتتاحية مجلة "تشالينجز" (أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا). وفي هذه الأيام خرج آلاف  المتظاهرين في نيويورك تحت شعار (احتلوا وول ستريت) ليوقفوا جشع الرأسماليين وملاك البنوك(الجزيرة نت، 22/12/1432 هـ).

قال: لكن الإسلام يحثنا على الاستفادة من تجارب الآخرين.

قلت: نعم، لنا أن نستفيد من بعض التجارب لكن أن نأخذ نظاماً كاملاً لتطبيقه في بيئة أخرى فهذا لا يستقيم.
ثم تابعت: ألم يتدخل الإسلام في تنظيم حياة الإنسان الاجتماعية وفي تنظيم الطعام والشراب والجلوس بل وفي آداب الخلاء؟


قال: بلى.

قلت: هل يعقل أن ينظم الخالق حياة الفرد الشخصية ويترك أمور المجتمع والسياسة والمال والدولة والحكم بدون تنظيم؟


قال: إذاً أنت تحرم الديموقراطية كفلسفة!

قلت: ما معنى الديموقراطية؟


 قال: الديموقراطية تعني سلطة الشعب وأن الحكم للشعب.

قلت: بغض النظر عن تعريفها فأنا شخص بسيط ويهمني الواقع والنتيجة ولا يهمني المصطلح الذي قد يختلف الناس في تعريفه. فسؤالي هو: وماذا نصنع لو طالب الشعب بإلغاء حد جلد شارب الخمر الذي هو حكم الله؟


قال: نحقق رغبة الشعب.

قلت: وماذا نفعل بقوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} المائدة 44


قال: لكن المسلمين في تونس وفي مصر لا يتسطيعون فرض الحدود وإخراج الخمور وتطبيق تلك الأحكام على شعوب عاشت في غربة عن الإسلام دهراً من الزمن.

قلت: هذه حالة خاصة تعود إلى تقدير علماء تلك البلدان، وقد تدخل في باب {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}  أو (ارتكاب أخف المفسدتين) أو(التدرج في التشريع) وإن رأى العلماء ذلك فستبقى كحالة استثناء، والضرورة تقدر بقدرها، ويزول حكمها بزوال سببها.


قال: لكن من الصعوبة أن نجد مجتمعاً متكاملاً.

قلت: لذلك فرض الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله سر بقاء وخيرية هذه الأمة{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}.آل عمران 110.


قال: لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلزام الناس بالشريعة يخرج مجتمعاً منافقاً.

قلت: لكن عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخرج مجتمعاً منحلاً، لأنه يتيح المجال لأهل الفساد لنشر فسادهم.
 ومن الطبيعي أن يظهر النفاق والكذب في المجتمعات المحافظة ، ولا يضطر الإنسان إلى النفاق إلا عندما يهيمن أهل الفضيلة ويتصاغر أهل الرذيلة.
وليس مجتمعنا بأطهر من المجتمع النبوي الذي ظهر فيه أعتى المنافقين والذين لم يستطيعوا تقبل شرائع الإسلام التي فرضها عليهم محمد صلى الله عليه وسلم، بل إنه صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الحكيم الحليم و{بالمؤمنين رؤوف رحيم} التوبة128، همّ بإحراق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة، برغم أنها ليست من أركان الإسلام.
إذاَ, وجود المنافقين ليس مؤشر خلل في المجتمع، بل قد يدل على قيام المسلمين بتطبيق شعائر الإسلام على الوجه المطلوب.
ثم ليس الخوف والإلزام هو الدافع الوحيد إلى النفاق, فقد يقع الإنسان في النفاق لأجل مصالح دنيوية من مال أو منصب أو وجاهة، وقد فضحهم الخالق سبحانه في سورة النساء141 في قوله{الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين
نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين}
كما إنه ليس كل من تخفّى بالمعصية كان منافقاً، بل الإسلام يحث أصحاب النفوس الضعيفة على ستر أنفسهم،  وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) رواه البخاري، لماذا؟ لأن في مجاهرتهم ضرراً على المجتمع باستمراء المعاصي، وضرراً على العاصي نفسه الذي سيتمادى في معصيته بعد افتضاح أمره بين الناس، فيصعب عليه حينها التعافي من معصيته. (أنصح بالرجوع إلى مقال "هل الإلزام بأحكام الإسلام يؤدي إلى النفاق" للشيخ فهد العجلان)
إذاً يسعى الإسلام إلى المحافظة على المظهر العام للمجتمع وعدم ظهور الفواحش، لأن المجاهرة بالمعاصي وتسهيل طريقها يزيد من انتشارها. لذلك يشرع للحاكم أن يضيّق على متعاطيي المخدرات ومروجيها، ليس خوفاً عليهم فقط، بل حفاظاً على المجتمع. ولسنا مسئولين عن رضى أولئك المدمنين، ولكننا مسئولون عن باقي المجتمع لئلا يتجرّأ على الخطأ.
 كما أن العاصي كثيراً ما يبحث عن من يساعده على نفسه الضعيفة للتخلص من المعصية. إذاً المنع والإلزام يقلِّص الفساد، ومن المغالطة القول بأن نسبة ضحايا المخدرات في بلدٍ يمنع بيعها تعدل نسبة ضحاياها في بلد يجيز أو يتساهل في بيعها.
بل إننا نتّبع أسلوب الإلزام في تربيتنا الدنيوية لأبناءنا، فإن الإستيقاظ المبكر للذهاب إلى المدرسة بشكل يومي يعتبر بيغضاً للطفل، لكننا لا ننتظر رضاه بل نلزمه عليه حتى يعتاد عليه فيتطبع به ويحبه، ولم نقل بأن ذلك نفاقاًّ!  كذلك الأمر في تشريع الله، وقد أوصانا صلى الله عليه وسلم أن نأمر الطفل بالصلاة لسبع ونضربه عليها لعشر، برغم أنها لم تفرض عليه، لكنه يُلزم بها حتى لا تثقل عليه في مرحلة البلوغ. فهل يجرؤ جاهل على القول بأن هذا الأسلوب النبوي يغرس النفاق في أطفال المسلمين.


قال محدثي: لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضد الديموقراطية.

قلت: لذلك لدي شك في نجاح الديموقراطية في بلاد المسلمين.


قال: إذاً نأخذ من الديموقراطية ما يوافق شريعتنا ونترك منها ما يتعلق بمسألة (حدود الحريات).

قلت: ربما، لكن في هذه الحال لا يصلح أن تسميها ديموقراطية، لأنك تفرِّغ الديموقراطية من أخص خصائصها.


قال: فما رأيك بمن يقول نظام ديموقراطي إسلامي؟

قلت
: هذا جمع بين المتناقضات، وكأنك تقول (الديموقراطية الشيوعية) أو (الشيوعية الإسلامية) أو )الإشتراكية الرأسمالية) أو(الربا الإسلامي)!
 الإسلام والديموقراطية والإشتراكية يا أخي الكريم هي أنظمة حياة متكاملة تشمل النظام الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
وحتى تختبر مدى نجاح أي نظام، يجب أن تأخذه بالكامل، وإلا سيخرج لنا نظاماً هجيناً مسخاً مشوهاً متناقضاً، وهذا هو سبب فشل معظم التجارب السياسية في المجتمعات العربية، وذلك عندما أراد البعض تطبيق الاشتراكية أو الرأسمالية فيها . فنجم عنها أنظمة سياسية هشة، وتخلف اقتصادي اجتماعي وثقافي لم يشهد التاريخ مثله.


قال محدثي: إذاً أنت لا تؤيد التصويت والانتخاب.

قلت: إن كان التصويت على شرع الله فأنا أرفضه، وإن كان في غيره فالأمر فيه سعة, بل إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم باستشارة أصحابه فقال { وشاورهم في الأمر } آل عمران 159. وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في شئون الدولة الكبرى ، حتى في شئون الصلح والقتال التي تزهق فيها الأوراح.


قال: ولكن المشاركة المجتمعية في المراقبة والمحاسبة هي من أصول الديموقراطية.

قلت: بل هي من بدهيات الإسلام، فقد عدّ صلى الله عليه وسلم أنّ من الجهاد ( كلمة حق عند سلطان جائر) رواه الترمذي، وقال ( الدين النصيحة) لمن يا رسول الله ( لله وكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه البخاري. وبرغم أنه صلى الله عليه وسلم كان يتلقى الوحي إلا أن الصحابة بل حتى نسائه رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يراجعونه ويناقشونه في أمور كثيرة.
وقد أُثر عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: (إذا اعوججت فقوموني). فقال أحد الحاضرين (أما إنك لو اعوججت قومناك بسيوفنا).


ختاماً أخي الكريم:

الديموقراطية كغيرها
من التجارب البشرية.. ومن الجميل أن نأخذ منها ما يفيدنا من أدوات وآليات .. ولكن التوازن مطلوب.. وكما أنه لا ينبغي لنا رفض ولفظ كل ما هو غربي .. فإنه لا ينبغي لنا أن نعطي التجارب البشرية قداسة أو نظن كمالها ومثاليتها..

صديقي العزيز..إذا حار فهمك.. وتاه فكرك.. فأسلم قياد عقلك.. إلى وحي ربك.. تنج بنفسك .. ويطمئن قلبك..

وأوصيك ونفسي بهذا الدعاء النبوي الذي ترويه أمّنا عائشة رضي الله عنها عندما سئلت: بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت : كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : " اللهم ! رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل . فاطر السماوات والأرض . عالم الغيب والشهادة . أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون . اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " . رواه مسلم

آمين,,,
انتهى الحوار بين الصديقين..
إلى لقاء آخر..
أمين بن بخيت الزهراني
ذي الحجة 1432

حساب تويتر 
amin_alzahrani@
ameenzhrani@hotmail.com



 

منوعات الفوائد