اطبع هذه الصفحة


مصر تسترد هويتها الإسلامية

د/ خالد سعد النجار


مشهد فريد لم تتعوده الحياة النيابية والسياسية في مصر.. إنها المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية بعد قيام ثورة يناير 2011 المباركة .. شفافية وحيادية منقطعة النظير .. جموع غفيرة من المواطنين على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم في طوابير طوال أمام صناديق الاقتراع .. قمة الوعي السياسي والإحساس بالمسئولية وسعة الصدر في تقبل الآخر .. انتخابات نزيهة تليق بمصر العظيمة.
تتمخض النتائج عن فوز الإسلاميين بنسب باهرة، ونصر ساحق، رغم خوضهم الانتخابات بصورة مستقلة لأول مرة في حياتهم .. الأغلبية موزعة بين حزب الحرية والعدالة (إخوان مسلمين) وحزب النور (السلفيين) الأمر الذي دعا أحد المحللين بالقول: وكأن الانتخابات بين هاذين الحزبين، رغم تكاثر عدد الأحزاب لرقم فلكي يقترب من الخمسين حزبا.
ومع أن النتائج كانت متوقعة، إلا أن الحقائق نزلت كالصاعقة على القوى الليبرالية والعلمانية، ولم يخف بعضهم حنقه الدفين على شاشات الفضائيات وراح يشكك في نتائج بعض الدوائر ورصد مخالفات جسيمة من قبل الأحزاب الفائزة، في محاولة يائسة لتشويه الفوز، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى كيل الاتهامات للناخبين ووصفهم بالسذاجة وقلة الوعي وحسن استغلال الإسلاميين لفقرهم وجهلهم السياسي.
كان رد كل النخب الإسلامية على أمثال هؤلاء في غاية التعقل، بل أشاروا بنصحهم لكل من رصد مخالفات بأن يتوجه للقضاء، وحرصوا على أن تكون ردودهم متحفظة في كل الملتقيات الحوارية، خاصة وأن الخصوم كثر، وهم يشتاقون لأي كلمة عن الخلافة الإسلامية أو الشريعة الغراء لكي يستغلوها أسوأ استغلال، وما بتصريحات رئيس وزراء تونس عن (الخلافة الراشدة) منا ببعيد، فلقد أقامت القوى العلمانية الدنيا وأقعدتها على ذكر هذه العبارة التي قالها صاحبها بعفوية مطلقة، لكن هاجت الدنيا وماجت حتى اضطر رئيس الوزراء لتصحيح الموقف، والتصريح بأن عبارة (الخلافة الراشدة) حملوها أكثر مما تحتمل.
أما كاتب هذه السطور فليس من صناع السياسة ولا من كوادر الفائزين في الانتخابات الأخيرة، وحق علينا أن نرصد الواقع بكل شفافية دون مواربة ولا مداهنة لأحد، من منطلق إسلاميتنا ووطنيتنا.
إن الواقع في هذه الانتخابات لا يمثل فوزا للإسلاميين بقدر ما كشف عن المعدن الحقيقي للشعب المصري العظيم، هذا الشعب المتدين بالفطرة، المحب لشريعته ولدينه، الراغب في أن تسوسه القيادة بأعدل شرع وأقوم منهج.
إن من الوهم -كما يرى بعض المحللين- أن نعتبر هذا الفوز انتصارا للتيار الإسلامي السياسي، وكأنه أحد التيارات السياسية على الساحة، والتي كسبت صولة وفازت بجولة بحسن تنظيمها وعراقة تاريخها كما يدعي البعض.
بل إن ما حدث إنما هو ارتماء حقيقي في أحضان الفطرة المتدينة بدواخلنا، ورضا بشريعة الله تعالى أن تعود وتسود .. لقد كتب هذا الشعب العظيم في هذه الانتخابات سطورا من نور مفادها تلك المقولة العظيمة: «رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا»، خاصة بعدما ذاق المر ممن لا يتقون الله تعالى فيه.
من الخطأ أن نعتبر هذا الفوز جولة من الجولات السياسية، وأن نصفق له ونطبل كما فعل الأتراك عندما أسقطوا الخلافة وعلمنوا الدولة، أو عندما قامت الثورات العربية على أيدي العسكر، أو غيرها من الأحداث السياسية الجسام .. كلا وألف كلا، إنه نداء الفطرة، وبواعث الإيمان التي بدأت تدب في أوصال الأمة فابتعثتها من سباتها بل من مواتها .. إنه العودة للمسار الصحيح الذي يليق بشعوب رضعت رحيق الإسلام أبا عن جد، ونبتت قلوبها ومشاعرها في كنفه وتحت لوائه. شعوب تعرف لدينها قدره وقدرته على سياسة الحياة بجدارة واستحقاق، قال تعالى:
- {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]
- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً{60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً{61} فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً{62} أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً{63} وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً{64} فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً{65} [سورة النساء]
وفي الختام نهيب بكل مرشحي التيار الإسلامي أن يكونوا على مستوى الحدث، وأن يبذلوا قصار جهدهم في حسن سياسة الأمور، لأن الآمال عليهم معقودة، والأنظار إليهم موجه، ولا نملك إلا الدعاء لهم بالتوفيق والسداد، وأن نكون أفرادا تحت لوائهم لخدمة هذا الوطن، وتطبيق رسالة هذا الدين على أرض الواقع، فإن حدث خلل فمنا ومن الشيطان، والإسلام منه برئ، فهو المعصوم بعصمة رب العالمين، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41-42]


د/ خالد سعد النجار
طبيب وكاتب مصري
alnaggar66@hotmail.com
 

منوعات الفوائد