اطبع هذه الصفحة


فكان لا ينساها لطلحة

مرعيد بن عبدالله الشمري


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد :
أخرج البخاري ومسلم عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة توبته عندما تخلّف هو وصاحبيه عن غزوة تبوك في حديث طويل.
فاستوقفني جزء من هذا الحديث ، فأحببت أن أستفيد وأفيد القاريء الكريم منه.
يقول كعب رضي الله عنه عندما تاب الله عليه وبدأ الناس يهنئونه بالتوبة (...فانطلقت أتأمّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة ويقولون لتهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله جالس في المسجد وحوله الناس ، فقام طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره ، قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة...)
والله عندما أصل لهذا الجزء من الحديث أتوقف كثيراً ، وأتيقّن حينها أثر المواقف في حياة الناس حتى ولو كانت صغيرة ، فكعب رضي الله عنه مع استغراقه في لحظة الفرح العظيمة هذه ، وهي توبة الله عليه من فوق سبع سماوات ، واستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم له وتهلل وجهه من الفرح لتوبته ، وكذلك استقبال الأفواج المهنئة له ، إلا أنه لم ينسَ هذا الموقف القصير العابر من طلحة رضي الله عنه ، بل واستمر يستذكره طوال حياته رضي الله عنه.
فيالله كم هي المواقف التي نتركها في قلوب الناس طيبة كانت أو سيئة للأسف.

سأقف بعض الوقفات مع قوله ( فكان كعب لا ينساها لطلحة ) ومع هذا الموقف من الحديث :


الوقفة الأولى :

الحياة عند التأمل تحوي في طياتها مجموعة من المواقف التي تحدثها أنت أو يحدثها الناس من حولك ، وقد لا يمر على الإنسان يوم إلا ويحدث له بعض المواقف ، لكن هناك بعض المواقف الإستثنائية ترسخ في الذاكرة ويتوقف الإنسان معها إما مكبرا أو حزينا أو فرحا أو غاضبا بسببها.
فاجعل حياتك مجموعة من المواقف الطيبة والإيجابية مع الناس ، فأنت الذي تكتب سيرة حياتك.

الوقفة الثانية :

أننا بسبب مواقفنا نقسم الناس إلى فسطاطين ، الأول غاضب منا ولا يقبلنا في قاموسه بسبب الموقف السلبي الذي حصل معه ، والثاني راضٍ عنا وجعلنا في قائمة المقبولين لديه بسبب الموقف الإيجابي الذي حدث له ، وقليل من الناس لا يحمل هذين الانطباعين وذلك لأنه لم يحصل له مواقف معينة من فلان من الناس ، أو أنه لا تربطه علاقة مع هذا الرجل.
ففي مثل هذه المواقف تنطبع الذاكرة بها ولا تنمحي مع مرور السنين بل وتستحضرها النفس كلما رأت صاحب هذا الموقف ، وأحيانا لا تذكر هذا الموقف ولكنك تجد انقباضاً من هذا الإنسان بسبب الموقف المخزّن لديك تجاهه ، وهذه أمور نفسية تصنعها المواقف فينبغي ألا تُهمل.

الوقفة الثالثة :

يدخل في هذا الموضوع عظم تلك النفوس الكبيرة التي لا تنسى من أحسن إليها وتردّ هذا الإحسان بإحسان وتحفظه وتتذكره ، ويدخل فيه أيضاً أخلاق الكبار الذين يبذلون الإحسان إلى من لم يحسن إليهم بل إلى من أساء إليهم ، وبذلك تعرف هبوط بعض النفوس عندما تتخلى عن هذا الخلق الذي يتفق عليه كل البشر ، وأن النفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها فتجد البعض ينسى إحسان الناس إليه ، أو أشد من ذلك من يرد الإحسان بإساءة والعياذ بالله.

الوقفة الرابعة :

المواقف الإيجابية تحتاج إلى مبادرة وسرعة تحرّك واقتناص ، فكعب رضي الله عنه مع كثرة المهنئين له إلا أنه انتبه لتهنئة طلحة رضي الله عنه لمبادرته بالتهنئة من بين المهاجرين وإن كانوا قد هنأوه بعد ذلك ، وهذا يبيّن أهمية المبادرة في الخير ، فلاتنتظر من هو أكبر منك علماً أو سنّاً أن يبدأ في الخير الواضح ، ولكن عوّد نفسك أن تكون سبّاقاً للخيرات ، فطلحة رضي الله عنه كان هناك من هو أكبر منه سنّاً وعلماً وفضلاً من المهاجرين ، إلا أنه بادر وكسب ودّ أخيه ورضا ربه قبل ذلك.

الوقفة الخامسة :

(لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقَ أخاك بوجهٍ طليق) فالمعروف شامل لكل ماتعارف الناس على حسنه ولم يخالف الشرع ، وكل ما أمر الله به فهو معروف أيضاً يؤجر عليه الإنسان ، فلا تعمل مثل هذه المواقف الطيبة حتى تكسب مالاً أو جاهاً أو تجعل لك يداً عند من أحسنت إليه في موقفك ، بل اطلب في ذلك الأجر من الله واحتساب هذا العمل لله وحده وليس لمصلحة دنيوية ربما لاتحصل لك.
ولاتحقرن أي موقف إيجابي ولو كان في نظرك صغيراً ، فإنه قد يُفتح لك بذلك قلباً مغلقاً أو نفساً معرضة أو ربما تبني بذلك مشروعاً للأمة كبير بسبب موقف قمتَ به ربما نسيته ونمى وترعرع من بعدك ، مثلما حدث للحافظ الذهبي صاحب السير عندما قال له شيخه (البرزالي) وهو صغير (إن خطك يشبه خط المحدثين) يقول الذهبي : فحُبّب إليّ علم الحديث بسبب هذا الموقف من شيخه ومدحه لخطّه ، فأصبح علَمَاً من أعلام الأمة ، وبالضد من ذلك ربما بموقف بسيط تصنع طاغية ورأساً في الفساد.

الوقفة السادسة :

أن إظهار الاهتمام في مناسبات الناس ومواقفهم وإن كانت غير مهمة بالنسبة لك هذا مما يقرّب القلوب وينشر الرحمة والإخاء بين المسلمين ، وهم أحوج مايكونوا لجمع كلمتهم وتوحد صفوفهم وترابطهم فيما بينهم ، فكم من أخٍ رُزق بمولود ، وكم من صديق نال منصباً وظيفياً ، وكم من قريب أصيب بوعكة صحية وغيرها ، إلا أن بعض النفوس تمر عليها هذه المواقف العابرة دون أن تبارك أو تُهدي بل حتى إظهار الفرح والمواساة يُبخل بهما أحياناً والله المستعان.

أخيراً :

إنها دعوة للنفس أولاً ثم للأحبة ثانياً أن نترك مواقف وانطباعات إيجابية لدى الناس وألا نحقر شيئاً من ذلك.
وإن كان الواجب أن يتكلم في هذا الموضوع أهله لكن حسبنا ما قال الأول (اسمعوا مقالي ولاتنظروا لحالي) ونسأل الله أن يتجاوز عنا التقصير في حق إخواننا.
هذا وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

مرعيد بن عبدالله الشمري
abuomar1401@
١٤٣٤/٢/٣
 

منوعات الفوائد