جاءني أحدُ طلابي بالكليةِ وهو يبدي أن لديه أمراً لكنهُ مترددٌ في ذكرهِ ...
باسطتهُ العبارة ، وآنستهُ الحديث ، فاندفع ليطرح هذا التساؤل الصريح ، قال :
سمعتُ ورأيتُ لقاءً مع الحبيب علي الجفري في إحدى القنوات . شدني أسلوبهُ
وشياكتهُ وبهرني حديثهُ وابتسامتهُ ... وأسرتني عباراتهُ ثم لما أفقتُ قلتُ
لنفسي : ما أجمل حديثه ... لكنه غيرُ صحيحٍ . ثم رجعتُ لنفسي : كيف سحرني
بيانهُ ولم أتدبر معاني مقاله ... كان يتحدثُ عن مسألةٍ عقديةٍ هي التوسلُ .
ابتسمت في وجهِ أخي الطالبِ وقلتُ لهُ : كم أنت نبه وحاذقٌ فليس عيباً أن
تسمع ... ولكن الخطأ أن يُغْفِلَ المرءٌ منا السؤالَ عما يشكلُ عليه ...
وطلبتُ منه أن يوافيني بتسجيلٍ لما ذكره ، فجاءني به في لقاءٍ آخر .
وانتهى موقفي وإياهُ على صفاءٍ ووضوحٍ ... وعلى تجليةِ الأمرِ وإزالةِ
الشبهةِ - وللهِ الحمدُ من قبلُ ومن بعدُ - .
من مثلِ هذا الموقفِ كانت مؤثراتٌ كثيرةٌ تتابعُ على عقولِ وأفهامِ كثيرٍ من
أسرنا ، من شبابنا وفتياتنا أفكارٌ وطروحاتٌ مبهرةٌ ، ولكنها في كثير من
الأحيانِ جوفاء ، خاليةٌ من التأصيلِ الشرعي والصفاء الروحي ...
تلكم ضريبةُ التقنية ، وذلك ثمرةُ الخواءِ الفكري لدى أبناءِ الأمةِ ... وهو
أيضاً من إفرازاتِ التربيةِ الهزيلةِ في النفوسِ .
نظرتُ فإذا الموضوعُ واسعٌ ، ما بين طروحاتٍ فكريةٍ صُبغت بالصبغةِ
الإسلاميةِ والإسلامُ منها براءٌ ، وما بين جرأة على الإفتاءِ والقولِ في دين
اللهِ تعالى بلا علمٍ ، وما بين تعدٍّ على الأصولِ والمسلماتِ باسم الدينِ
والسماحةِ والتيسيرِ ، وما بين تمييعٍ لقضايا الإسلام لتتواءم مع ما يريدهُ
الغربُ الكافرُ والشرقُ المنحلُ .
صاحبُ الوسامةِ والطرحِ المبهرِ - كما وصف طالبي علي الجفري - شابٌ في مقتبلِ
العمرِ ، ما كان لي أن أعرض لتقييمهِ ، ولكن أردتُ التنبيهَ على نماذج من
هناتهِ ينبغي أن تُحذرَ وأن ينتبه لها :
على الشبكةِ العنكبوتيةِ موقعٌ خاصٌ به ... وسمٌ ناقعٌ في عسل حديثهُ وعذوبة
عبارته ... ليس الخطأ في أن يتقنَ الحديثَ ويجيدَ إيصالَ المعرفةِ للمتلقي ،
ولكن الأسى من أنّ هذا الطرح السلس يخالفُ نصوصاً صريحةً في ديننا ، ويناقضُ
أسساً متينةً في معتقدنا .
{
إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
}. أولئك هم أولياءُ اللهِ . ما
نرفهم فوق رتبةِ النبوةِ بل ولا ما يوازيها ، ولا نصفهم بما يخالفُ بشريتهم ،
ولكن حين تنمق العبارةُ ، ويصاغُ الحديثُ ليقال بأن الولي قد أذن اللهُ لهُ
وفوضه في إدارةِ أمورِ الكونِ ، وأن بإمكانهِ الرزق والإحياء والإماتة ، وأن
خلقَ طفلٍ من غيرِ أبٍ أمرٌ ممكنٌ على تحرزٍ في القول بهِ ، مع الاتفاقِ على
إمكانيتهِ .
حين يقالُ بأن الأولياءَ منهم من يجتمعُ برسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم
يقظةً ، حين يقالُ مثلُ ذلك ، يقفُ المرءُ فلا ينبهر بحسنِ العبارةِ ، ولكنه
ينتصرُ لدينِ اللهِ عز وجل ، فيقولُ : وأنى لك يا علي أن تقولَ ذلك ، وقد
رفعت رتبةَ الولي إلى ما يختصُ به الخالقُ جل جلالهُ .
ليس المقامُ للمناقشةِ والتفصيلِ في ذلك ، ولكن المقام هو :
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ...
إن أفضلَ الخلقِ نبينا محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلم ، ومع ذلك يقفُ موقفَ
الضراعةِ في مكةَ حين آذتهُ قريشٌ ، وفي بدرٍ حين رأى تكالبَ المشركين لحربهِ
، وفي الأحزابِ يسألُ اللهَ جل وعلا أن ينصرَ دينهُ ، وأن يدفعَ الفتنةَ عن
أتباعهِ ، ويناجي خالقهُ سبحانهُ فيقولُ :
" اللَّهُمَّ إِنَّك إِنْ تُهْلِك
هَذِهِ الْعِصَابَةَ فلن تُعْبَد فِي الْأَرْض "
.
أليس صلى اللهُ عليه وسلم أعلى من الأولياء ؟ قلماذا لم يكن له التصرفُ في
أمورِ الكونِ ؟ ولماذا لم يقل لأعدائهِ : موتوا ... ارجعوا ؟
لِم ضحى بأصحابهِ في معارك وقتال وحروب وغزوات ؟ إن كان له ما لهؤلاءِ
الأولياء ؟ ولن يكون الأولياءُ أفضلَ عند اللهِ من أنبيائهِ ورسلهِ .
أيضاً قولهُ : " الولي يمكنهُ أن يخلقَ طفلاً ؟!! هذا من صفاتِ اللهِ جل وعلا
، فاللهُ هو الخالقُ وحدهُ لا شريك لهُ .
واللهُ هو الذي
" يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا
وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا
" .
حقيقةً ... ما أردتُ التفصيلَ في الردِ ، ولكني أقولُ : إن الإسلامَ دينٌ له
أصولهُ وقواعدهُ ، دينٌ له أسسٌ واضحةٌ وصريحةٌ ، لا تقبلُ التنازلَ لأهواءٍ
ولا المسايرة لقوةٍ ، ولا الاستسلام لوسامةٍ أو جمالِ حديثٍ .
ولهذا فإن أهمَ ما ينبغي أن يؤكدَ عليه في مثلِ هذهِ المسألةِ ، أن يدركَ
المسلمُ أنه يقصدُ من وراء السماعِ والتلقي لأمورِ دينهِ عن الناسِ أن يقصدَ
الحقَ ومرضاةَ اللهِ تعالى ، ولا يكون القصدُ هو البحث عن الرخصةِ والتنازلِ
عن مسلماتٍ من أمرِ دينهِ لأنه سمع من فلانٍ من الناسِ القولَ بذلك ، بل
مطلبُ المسلمِ الحقُ حيثُ كان ، حتى يتعبدَ الله َ على صوابٍ ، وحتى لا يكون
حاله كحالِ من
" ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا "
.
المسلمُ يعبدُ الله َ تعالى من واقعِ أصولِ الإسلامِ ، لا من واقعِ من يدَّعي
الحديثَ باسمِ الإسلامِ .
إن هنالك وقفات مهمة ينبغي النظرُ
فيها والتنبيهُ عليها ، وقفاتٌ نعرف من خلالها دورنا ، والمهام المناطة بنا :
•
دورُ الإنسانِ في هذه الحياةِ عبادةُ اللهِ تعالى والمسلمُ يحرصُ على تحقيقِ
ذلك وفق شرعِ اللهِ ، ومن أعظمِ الأسسِ التي يقومُ عليها بناءُ هذا الدور
النصيحة فالدينُ النصيحةُ ، كذا أجمله النبي صلى اللهُ عليه وسلم ، النصيحةُ
ببيانِ الحقِ للناسِ ، وتحذيرهم من طرقِ الضلالِ والغوايةِ .
•
دورُ الأمةِ ممثلة في هيئاتها
العلميةِ الشرعيةِ أن تضعَ ضوابط وقيود ، تحمي بها حوزةَ الدينِ ولا تكون
مستباحةً لكلِ أحدٍ .
•
على الجهاتِ الحكوميةِ أن تتبنى
مثل ذلك لتوحيدِ صفِ الأمةِ ، ولتحقيقِ العبوديةِ الحقةِ للناسِ ، فيتحققُ من
خلال ذلك أن ينصرَ اللهُ الأمةَ ويمكّنَ لها ...
•
على وسائلِ الإعلامِ - بفئاتها
المختلفةِ - أن تتقي اللهَ فيما تعرضُ ، وأن تحذرَ من أن تسعى لاجتذاب
المشاهدين والمتابعين من خلال من يدَّعون العلمَ الشرعي ، فيفتون للناسِ بلا
علمٍ ، ويزينون للناسِ أعمالهم وتقصيرهم ، ويجعلون الدينَ مطيةً للمكاسبِ
الماديةِ والمغانمِ الدنيويةِ .
أخصُ وسائلَ الإعلامِ ؛ لأنها منبعُ تلك الأصواتِ ، وموردُ تلك الإنحرافاتِ ،
ومع الأسف فإنها تبحثُ عمن يلبي احتياجات الناس من التيسيرِ ، دون أن يلبي
نداءَ الخالقِ العظيمِ في لزومِ عبادةِ اللهِ تعالى على هدى وعلى صراطٍ
مستقيمٍ ، دون اتباعٍ لهوى ولا استجابة لشهوةٍ ، لا مسايرة لواقعٍ ولا
انهزامية أمام قوةٍ ضالةٍ ، لا استحياء من بيان وجهِ الحقِ والصوابِ .
•
ثم علينا جميعاً أن نسعى لإصلاحِ
الأمرِ وإبلاغ النصيحةِ ، وإيضاحِ الحقِ للناسِ .
المصدر : مجلة الأسرة - العدد 126 -
رمضان 1424 هـ .