صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







قراءة في “الثقافة العربية في عصر العولمة”

مبارك عامر بقنه


 كتاب "الثقافة العربية في عصر العولمة “ ، هو عبارة عن مجموعة مقالات ومحاضرات ألقاها تركي الحمد في مؤتمرات متنوعة، وفي قراءة سريعة لهذا الكتاب يلحظ القارئ المخالفات الشرعية البينة، والتجاوزات الفكرية الواضحة، ومحاولة الخروج عن قيم ومبادئ المجتمع المسلم. مستخدماً أسلوب التكرار الممل لكثير من العبارات والأفكار، وذلك لترسيخ الأفكار ـ المراد نشرها وتعميمها ـ في الذهن. وقد حاول الكاتب نقد الثقافة العربية بطريقة موضوعوية [1] وليست موضوعية، مما جعل الكتاب بلا هوية أو انتماء وهذا النهج الفكري القصد منه تمييع القضايا التي يتناولها للدراسة.

الكاتب ونشأة العولمة:
كثر القول في بداية تحديد بداية نشأة العولمة فبعض الباحثين يرجع ذلك إلى نهاية القرن التاسع عشر مع اكتشاف التلغراف، وبعضهم يرجعها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية مع انقسام العالم إلى معسكر شرقي وآخر غربي، ويذهب كثير من المثقفين في تحديد نشأة العلومة إلى نهاية القرن الخامس عشر، معللين ذلك ببداية ظهور الدولة القومية الحديثة، وهذا القول هو القول السائد عند الغربيين، وكثير ممن نقل وترجم عنهم أخذ بهذا القول تقليداً، ومن هؤلاء الكاتب إذ يقول:" إن العلومة ليست شيئاً جديداً جاء مع الثورة المعاصرة في الاتصالات والمعلومات، فهي بدأت منذ أن دخلت، أو أنتجت، أوروبا الحداثة في نهاية القرن الخامس عشر[2]"

ومن سبر أغوار التاريخ وقلّب صفحات الماضي يجد أنه في هذا العهد سقطت الدولة الإسلامية في الأندلس، وطرد الصليبيون المسلمين من قرناطة عام 1492م، وبدءوا زحفهم على العالم الإسلامي. ولهذا يصف الغربي هذا العهد بأنه بداية العلومة؛ إذ هو بداية إرسال البعثات التنصيرية للعالم الإسلامي. ومن الخطأ الفادح أن نجعل بداية هزائمنا، وتراجعنا عن الريادة، وتعميم النمط الحضاري الغربي والفكر الصليبي في بلاد المسلمين هو بداية العلومة.

ولكن يظهر أن الكاتب لن يبالي بذلك فهو يرى أن التقدم والتحديث لا يتم إلا بالتغريب كما يقول:" الحداثة ليست مجرد غشاء مادي؛ بل هي حالة عقلية إما أن تأخذ كلها أو تترك كلها، والتحديث عملية متكاملة، وغير ذلك هو المسخ[3]" فلقد وصل الكاتب مرحلة من الانهزامية، وفقدان للهوية، واستسلام مطلق للحداثة الغربية مما يجعله عاجزاً عن المقاومة ومحاولة النهوض والتحدي، فيقول:" لن تستطيع الثقافات التقليدية العريقة أن تفعل شيئاً، أمام هذه الثقافة المسلحة بوسائل وإمكانيات قادرة على اختراق الغرف المغلقة.[4]"

الكاتب والثقافة:
الكاتب يسعى إلى تمييع مفهوم الثقافة، وتجريد الأمة من خصوصيتها، وإذابة شخصيتها في ثقافة واحدة غربية المفهوم، علمانية التصور، مادية التوجيه. زاعماً أن ثقافتنا من طبيعتها التعايش مع الثقافات الأخرى ولكن التشبث بها هو الذي ولّد التصادم، ولا استطيع أن أصف هذا القول إلا بالجهل والتضليل على القارئ، فإن من خصائص الثقافة الإسلامية أنها ثقافة استقلالية لا تقبل الترقيع والتمزيق، أو التمازج مع أي ثقافة أخرى مغايرة لها، فهي لها نظرتها الفريدة للكون والإنسان والحياة وتتميز بأنها ثقافة تعتمد على الوحي والإيمان بالغيب، ومحاولة إلغاء الفارق بيننا وبين الآخر هو مرفوض من كلا الثقافات، فالصراع والمواجهة لابد أن تستمر ما دامت الحياة كما يقول الله تعالى ( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(البقرة: من الآية217) ولا يزالون مستمرون أبداً في مقاتلتنا حتى نكفر ونتخلى عن ديننا وعقيدتنا وثقافتنا ونكون مثلهم، عند ذلك يرضون عنا ويتعايشون معنا كما قال الله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة:120) فهل نتخلى عن ديننا حتى نكون ذو ثقافة عالمية؟!

ثم لا أدري لماذا هذه التبعية والإعجاب لثقافة الغرب، فهم والله وإن كانوا تقدموا علينا مادياً وتقنياً وإدارياً لا يعني ذلك سلامة منهجهم الثقافي، وصحة تصوراتهم العقدية. ولكنهم وفقوا في الأخذ بالسنن الكونية في التعامل مع الحياة، وسنن الله لا تحابي أحداً ولا تتخلف عن فرد أو أمة أو جماعة من أخذ بها وعرف كيف يتعامل معها وفّق للصواب، فهي تسري على جميع الخلق. وتخلفنا اليوم نشأ عندما تركنا "فاتبع سببا" وأهملنا الأخذ بالسنن الطبيعية. فليس تخلفنا نتيجة خلل في ثقافتنا أو تصورنا للحياة والكون. وبروز الثقافة الغربية في العالم لا ينطلق من طبيعتها وذاتها وإنما يسند هذه الثقافة القوة السياسية والاقتصادية والإعلامية التي يملكها الغرب في نشر ما يريد. فثقافة الغرب سادت وانتشرت بعوامل مساعدة أخرى. وهذا خلاف الثقافة الإسلامية التي انتشرت في العالم بذاتها بدون أي مؤثرات خارجية وإنما بما تحمله في طياتها من حقيقة وصدق ووضوح وتكامل وتوازن شامل لجميع أشكال الحياة.

إن النظرة السطحية للثقافة الغربية والأخذ بالظاهر شكّل لدى بعض المثقفين انهزامية ثقافية، فالتقدم الحضاري دليل عند هؤلاء المثقفين على مصداقية الثقافة، وهذا التلازم خاطئ إذ أن الأمة قد تفصل أو تبعد عن مصدر التلقي لديها فيحدث التخلف، فالخلل ليس ناتجاً عن الثقافة الإسلامية وإنما عن عدم التطبيق لهذه الثقافة. وهذا مصدر البلاء أن يكون حكمنا على الإسلام هو تطبيق الفرد له وليس على ذات المنهج وطبيعته.

ومن هذه المنطلقات جعل الكاتب العقائد والأفكار من "الثقافة"، ولم يستثن من ذلك أي أمة على وجه الأرض؛ بل يسري ذلك التعريف على جميع الملل والنحل فيقول عن الثقافة بأنها:" مجمل العقائد التي تؤمن بها جماعة ما، وتمنح المعنى للأشياء من حولها، وما ينبثق عن ذلك من سلوك وعلاقات.[5]" ويقول أيضاً:" الثقافة بكل بساطة، هي فلسفة الجماعة ونظرتها إلى الوجود من حولها، فهي مجمل العقائد والقناعات المطلقة[6] التي تؤمن بها جماعة ما.[7]" ولم يقف الأمر عند هذا الحد بأن جعل العقيدة من "الثقافة"؛ بل استرسل الكاتب في مفهوم الثقافة ليجعلها من صنع ونسج الإنسان فيقول:" الثقافة، في نهاية التحليل، هي شبكة من المعاني والرموز والإشارات التي نسجها الإنسان بنفسه، لإعطاء الغاية والمعنى لنفسه وجماعته والعالم والكون من حوله.[8] " ويقول أيضاً :" تشبث الإنسان "بشبكة المعاني" التي نسجها بنفسه، يدفعه إلى منحها صفة السمو والقدسية في كثير من الأحيان، ناسياً جيناتها الأولى، ومبتدأ أصلها، ويدفعه هذا التشبث بالتالي إلى الأحادية في تعامله مع ثقافته في مقابل ثقافات الآخرين، على أساس أنها هي وحدها التي تحمل "المعنى" وتحمل الغا!
ية ببساطة، على أنها هي وحدها المتضمنة لحقيقة الوجود.[9]"

وهذه المقولة من رقى إبليس والتي تصف أن الثقافة الإسلامية كالثقافات الأخرى التي تستمد ثقافتها بما أنتجه مثقوفها، وقرره فلاسفتها، فألبسوه لباس القدسية والسمو، ولا يعجب هذا الوصف من الكاتب للثقافة فهو ينطلق من مفهوم "ماكس فيبر" للثقافة، والتي هي مستوحاة من قول كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلم:" وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان:5) فقريش زعمت أن القرآن العظيم من نسج البشر. والتي استمد ماهيته ومبادئه وقيمه من أهل الكتاب، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم له خصوصية ، ناسياً جيناتها الأولى وهي أن أصله من أهل الكتاب، الله أكبر، كيف تشابهت قلوبهم فقال مثل ما قالوا.

ثم إن تعجب فعجب قوله:" الثقافات ليست متصادمة بطبيعتها، ولكن التشبث المطلق بها وبرموزها، وما يحمله ذلك من إضفاء السمو والقدسية عليها، هو الذي يدفعها إلى التصادم.[10]" ثم يتمادى الكاتب في غيه منادياً إلى العالمية معللاً ذلك بأن الثقافة الإنسانية مشتركة في بنودها وقيمها فهي:" إرثاً إنسانياً مشتركاً وإيماناً إنسانياً عاماً .[11]" ويقصد بهذه الثقافة العالمية الديموقراطية كما فيقول:" الديموقراطية بصفتها مثلاً يسعى إليه وليس واقعاً معاشاً في كل أنحاء المعمورة. بصفتها تلك، فإن الديموقراطية اليوم أصبحت جزءاً من الثقافة العالمية المشتركة والذي يزداد الإيمان بقيمه يوماً بعد يوم. وهذا بذاته مؤشر كبير على مدى العالمية التي اكتسبها مفهوم الديموقراطية والمثل الديموقراطية.[12]"

الكاتب والديموقراطية:
حدّث ولا حرج عن إعجاب الكاتب بالديموقراطية الليبرالية فهو يرى أنها: " هي فعلاً اليوم أفضل نظام سياسي ممكن ابتكره الإنسان في التاريخ[13]" ثم لا يقف عند هذا الحد؛ بل يجعل ذلك من المسلمات التي لا تقبل الجدل فيقول:" لا مجال للنقاش في القول إن الحضارة في الغرب المعاصر هي أرقى ما توصل إليه الإنسان في تاريخه حتى هذه النقطة من الزمان، سواء تحدثنا عن المنجزات المادية البحتة، أو تلك المتعلقة بالنظم والمذاهب السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية[14]"

ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول، ونسأل الله أن لا يؤاخذنا بما قال السفهاء منا، فالدعوة إلى النظام الديموقراطي دعوة كفرية ، وردة شرعية. وقد قرر علماؤنا بكفر هذه الأنظمة، وكفر من يتبعها، يقول شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب :" من أعتقد أن هناك هدياً أفضل أو أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أو متمم له فهذا كفر"

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :" ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر[15]"

وقال الحافظ ابن كثير :" فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة، كفر: فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين [16] "

وقال الشيخ الشنقيطي :" إن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يشك في كفرهم وشرهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم [17] "

ويقول الشيخ بن عثيمين:" من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أو احتقاراً له، أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق، فهو كافر كفراً مخرجاُ عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية، أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه. [18] "

والنظام الديموقراطي نظام كفري لا يتحاكم إلى الله؛ بل يتحاكم إلى الشعب، فالشعب هو المشرع للقوانين وليس الله، ومعلوم من الدين بالضرورة أن التشريع من خصائص الله فلا يحق لأحد أن يشارك الله في التشريع، وتنظيم شؤون الناس الفردية والاجتماعية حق لله وحده لا يحل لأحد أن يشارك الله فيه ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(يوسف: من الآية40) في كل شيء يجب أن ترجع أمورنا وقضايانا إلى شريعة الله المطهرة المنزهة من كل عيب ونقص. (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50) .

ومن لوازم تطبيق النظام الديموقراطي تشكيل الأحزاب المناهضة للإسلام، ولا فرق بين الناس وإن اختلفت دياناتهم ومعتقداتهم، ولا بد أن تصاغ الأفكار الدينية والآراء السياسية وفق النظام الليبرالي، فلا تقييد على الحرية الشخصية، فيعتقد الشخص ما يشاء، يرتد عن دينه، يدعو إلى الإلحاد والإباحية ونشر الفساد كل ذلك تحت شعار " دعه يعمل ما يشاء دعه يمر" كل هذا وغيره من لوازم النظام الديمقراطي والذي يتناقض مع النظام الإسلامي.

مصدر التلقي لدى الكاتب:
يقول الكاتب :" إن جوهر الوجود يتكون من خالق ومخلوق وموضوع لا رابع لذلك. ونقصد بالمخلوق هنا الكائنات العاقلة فقط (الإنسان وفق المعلومات المتاحة) [19] ."

أولاً: لا نسلم للكاتب أن حوهر الوجود يتكون من ثلاثة لا رابع لها؛ بل الوجود خالق ومخلوق لا ثالث لهما، فكل ما سوى الله فهو مخلوق. ولم يبين الكاتب ما المقصود بالموضوع، ويحتمل أن يراد به المعاني، وهذه لا شك أنها من أفعال العباد وهي مخلوقة.

ثانياً: لم يذكر الكاتب ما هذه المصادر المتاحة التي تلقى عنها العلم بأن الإنسان هو الكائن العاقل الوحيد في هذا الكون. ولا يمكن أن تكون هذه المصادر المتاحة القرآن والسنة لأنهما تقرران أن الكائنات العاقلة: الملائكة، والإنس، والجن. ويكفي أظهر دليل على ذلك إجماع الأمة بأنهم مكلفين، والتكليف لا يكون إلا لعاقل. وهذا أمر واضح بين، ولكنه مبهم لدى الكاتب لأن الملائكة والجن ليست من الأشياء الحسية التي يدركها بالحواس وهذا شيء لا يؤمن به الغرب.

والملاحظ على الكاتب كثرة استشهاده بالغربيين، واستدلاله بأقوالهم، بل لا تكاد تجد له استدلال على أقواله بقول من كلام السلف فهو يستنكف أن تكون هناك مرجعية ثابتة ينطلق منها الإنسان، ويستمد منها أصول التفكير إذ يقول:" إن النقد وثقافة النقد المتحدث عنها هي ذلك الأسلوب الذهني الذي يرى أن كل شيء قابل للنقد وإعادة التفكير والصياغة. إنه، بكلمات موجزة، ذلك الأسلوب المضاد للأسلوب أو العقلية "الدوغمائية[20]" المرتهنة لمرجعية معينة غير قابلة للنقد أو المراجعة أو المناقشة .[21]" ويقول أيضاً:" القول بالمرجعية لا يعني الديموقراطية المطلقة أو الثبات الدائم لمثل هذه المرجعية على مر الدهور والعصور، إذ أنها، أي المرجعية، ليست إلا متغيراً معيناً لا بد أن يتغير بتغير الظروف التي أنشأته أو على الأقل تتعدل وفق قدرة انفتاحية معينة [22]"

الثوابت والمتغيرات لدى الكاتب:
يرى الكاتب أن الأزمة التي يعاني منها العقل العربي هو التزامه بمبدأ الثبات فيقول:" إن علة العقل العربي، وما ينتجه من فكر، ومن يمثله من مثقف أو مفكر، إنما تمكن في سلفيته غير القابلة للتغيير. فالعقل العربي اليوم ليس إلا امتداداً لعقل الأمس ومواقفه من شتى الأمور، طالما أن الآلية التي يعمل بها بقيت ثابتة لا تتغير [23] ."

فهذه هي العلة لدى الكاتب وهو الالتزام بالآلية السلفية التي لا تتغير، فالثبات على المبدأ، والالتزام بالقيم هو نوع من الانهزامية التي يراها الكاتب، والمخرج لدى ـ الكاتب بزعمه ـ هو الخروج على هذه المسلمات، وكسر المبادئ والقيم التي قد تخلى عنها الناس إلا نحن، فيقول بهذيان عجيب:" المثقف العربي غالباً ما لا يعيد النظر في مسلماته الفكرية، ملقياً باللوم على كل شيء، إلا المسلمات ذاتها، وكل ذلك يأتي من باب الثبات على المبدأ، والإخلاص للمثل العليا التي تخلى عنها الجميع إلا هو بطبيعة الحال. وذلك يشكل، عند التحليل، نوعاً من آليات الدفاع عن الذات في وجه متغيرات تهدد بسلب دور الوصاية والتخويبة عنه [24]."

فكل شيء جب أن يتغير كما يقول الكاتب:" كل شيء يتغير، ولا بد أن يتغير [25] " وكل هنا من ألفاظ العموم التي تشمل جميع الأفراد؛ فيدخل في ذلك كل القضايا الإنسانية من عقيدة وفكر وسياسة واجتماع واقتصاد … إلا إن الكاتب قد استثنى في موقع آخر من كتابه العقيدة فقال:" العلاقة بين الخالق والمخلوق فتنظيمها عقيدي عبادي ثابت، لأن مناط العقيدة والعبادة ثابت أبد الدهر لا يطرأ عليه تغير [26]." وهذا حسن من الكاتب وإن كانت هدنة على دخن فهو لم يبرز ما هو مفهوم العقيدة لديه ، وكما أنه يقر أن العقيدة والعبادة وهي العلاقة بين العبد وربه لا بد فيها الثبات إلا إنه لم يلتزم بذلك في الشريعة فهو يرى أن الشريعة لا بد أن تكون متغيرة فيقول:" إن مضمونها العلمي ـ أي الشريعة ـ لا بد وأن يكون متغيراً ومتحولاً تبعاً لتحولات الزمان والمكان [27] " ويا ليت شعري، كيف قرر الكاتب هذه القاعدة بأن الشريعة لا بد أن تتغير وتتحول؟ من أين أتى بهذه المقولة الزائفة؟ فهل في كتاب الله أو سنة رسوله أو أحد من العلماء المعتبرين من قال بذلك؟ ثم ما مدى هذا التغير والتحول؟ أم أن المسألة مطاطية ليس لها ضابط أوحد؟ ثم من هو الذي يقرر بتحول وتغير الشريعة هل هو نبي مرسل أم عالم أم مفكر أم سياسي؟ من له الحق بالتغيير والتبديل؟ ومن أين حصل على هذا الحق في تغيير الشريعة؟ وهل التغيير والتحويل يشمل النصوص الثابتة أم يلحق فقط القضايا الاجتهادية؟ فمن هو الذي يقرر المصلحة والمفسدة؟ أسئلة وإشكاليات كثيرة يتحتم على الكاتب إيجاد أجوبة لها حتى يثبت ما أدعاه.

إن تغيير الشريعة وتحويلها هو في الحقيقة تحويل للعقيدة، فإننا نعتقد أن نصوص الشريعة من الله، وأنها تتوافق مع الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان ولن تضيق أو تعجز يوماً في تقديم أرقى وأسمى ما يصبو إليه الإنسان، وإننا نعتقد أنه لا يحل لأحد من البشر كائناً من كان أن يبدل شريعة الله، فيحل الربا والخمر والزنا من أجل ضرورات المجتمع وطبيعة الحياة المعاصرة، فهذا نوع من رفض وإعراض عن شرع الله، فتغيير وتبديل الشريعة هو عزل للدين عن الحياة.

وعقيدة الأمة في باب الأسماء والصفات وأفعال الرب لم تحارب من المتغربين كما حاربت الشريعة، والتي تمثل نظام متميز بقوانينه ومبادئه في جميع شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفيما يتعلق بشؤون المرأة والتعليم، وقد أرتأ أهل الزيغ والضلال بعزل النظام الإسلامي عن الحياة وعن المجتمع وجعل الدين هو علاقة بين العبد وربه، وأما الشريعة وتطبيقها فهي مسألة متغيرة متحولة ليست ثابتة تتشكل وفق حاجة الزمان والمكان فلا يمنع من تطبيق النظام الرأسمالي مثلاً لأنه هو الأنسب في هذا العصر، ونحن لسنا ملزمين بتطبيق الشريعة؛ إذ أن الشريعة متحولة متغيرة فيمكن تغيرها إلى النظام الغربي. سخف من القول وزورا. إن موقف المؤمن المسلّم بأمر الله هو الاستسلام والانصياع لأمر الله كما قال الله تعالى:" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" وهذا القضاء يكون في الأمر الشرعي ؛ فإن قضاء الرسول عليه الصلاة والسلام يكون في الأمر الشرعي التعبدي ، فالآية صريحة بأنه لا خيرة لنا في حكم الله وقضاءه الشرعي لا تغيراً ولا تبديلاً ولا تحويلاً لأحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا القول الكريم مطلق لا يقيده زمان أو مكان ، وتقييد ما أطلقه الله من غير دليل هو تحريف للكلم عن مواضعه، فليس لنا الخيرة فيما قضى الله ورسوله في جميع الأزمنة والأمكنة؛ حتى وإن بدأ لنا أن حكم الله ورسوله لا يتناسب مع الزمان والمكان، وهذا افتراض لا يمكن وقوعه، ولكن نذكره جدلاً ، فإن المؤمن ليس له الخيرة إلا التسليم لله ولرسوله ، وعدم تغيير النصوص وتبديلها. وما حدث للأمة من انتكاسة وتخلف هو نتيجة عن تعطيلهم نصوص الشريعة عن التطبيق والامتثال، وتأويل النصوص عن غير مراد الله ، فأحدثوا في الدين ما ليس منه ، فكثرت البدع والخرافات والانحرافات الفكرية والعملية فكان ذلك سبباً في تسلط العدو علينا. فالخلل ليس من الشريعة؛ وإنما الخلل في تطبيق الشريعة وفي فهمها وكيفية التعامل معها. وهذا ما وقع فيه الكاتب، فهو لم يدرك حقيقة الشريعة الربانية ، وتوائمها مع الطبيعة البشرية ، وخلله ينبع من انبهاره بالحضارة الغربية المادية ، وجعلها المقياس الصحيح لصحة النظم وتقدم البشرية.

الكاتب وتطفله على العلم الشرعي:
مما يحزن المرء ويمرضه هو تطفل كثير من الكتاب والمثقفين على العلم الشرعي، والتعامل مع العلم الشرعي كأي علم إنساني آخر ليس له خصوصية أو ميزة، فالكل له حق الطرح في القضايا الشرعية وانتقاد مناهج العلماء بزعم أن هذا الدين ليس حكراً على طائفة.

ولا شك أن الدين ليس مخصوصاً لطائفة معينة ولكن الفتى وتقرير المسائل العلمية هو لطائفة معينة لا يشاركهم فيها إلا من اتصف بصفاتهم، فالله عز وجل لم يجعل لكل أحد أن يتكلم في القضايا الشريعة بما شاء؛ بل جعل هناك مرجعية لمعرفة أحكام الله، وهم العلماء الربانيين الذين بذلوا مهجهم في طلب العلم وتحصيله ، فهم الذين لهم الحق في الحكم والفتيا كما قال الله تعالى:" فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" فهذه الطائفة قد خصصت نفسها في التفقه في دين الله ، فجعل الله لها الحق في إنذار أقوامهم.

ومن آفات هذا العصر عدم احترام التخصص، وهذا ما سقط فيه الكاتب فقد انتقد مناهج العلماء ، وحاول رفض رأيهم من غير استدلال يستدل به فهو يمنع القياس ويجعل القياس يقيد العقل فيقول:" بقي العقل العربي الإسلامي، بصفة عامة، أسير قضية القياس، دون اعتبار لحركة الواقع [28] " فالذي يحكم على النص هي حاجة الواقع، ومتطلبات العصر وليس النص فيقول :" الانطلاق من الحادثة نفسها للحكم عليها، في إطار متغيرات وحاجات المجتمع المتجددة، وليس مجرد إخضاعها لقياس شاهد حديث على غائب قديم، أو حتى إخضاعها لنص أصلي، طالما أن التغيرات التي أحاطت بإنتاج النص، ليست هي ذاتها المحيطة بتكرار الحادثة [29] "

وهكذا يضع أصلاً جديداً للتشريع هو حاجات المجتمع، وكأن الإسلام يتصادم مع حاجات المجتمع. وفي رأي الكاتب أن النص يعالج قضية آنية حادثة لا يصح نقلها إلى مجتمع أو عصر مغاير ، فالنصوص ليست كلية ؛ بل هي لحالات فردية لا يحق لنا إصباغها بالعمومية والشمول. وقصر الأحكام الشريعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هو دعوة صريحة لتعطيل الشريعة وأنها غير صالحة لهذا الزمن إذ أن تركيبة وطبيعة المجتمع الحديث يختلف عن المجتمع الذي انتج في النص، ويمكن من هذا الباب مثلاً تحليل الربا لأن تحريم الربا جاء في عصر ساد فيه ظلم الأغنياء للفقراء، أما في هذا العصر والذي اصبح فيه التعامل المالي عن طريق المصاريف المالية فإن الفقير لا يلحقه ظلم ، وهذا ما قرره الكاتب بأن التحريم مبني على مقدمات غير صحيحة وهو التشابه بين واقعة حادثة مع واقعة سابقة ، فيقول:" إن التشابه منطقياً لا يفيد التجانس المطلق، لدرجة التوحد. بقدر ما يفيد الاختلاف بحسب درجاته. فالبنوك، وهي مؤسسات حديثة، تتعامل بالفائدة، والفائدة تبدو متشابهة مع الربا القديم. وطالما أن الربا محرم، فالفائدة ربا أذن، وبالتالي فهي محرمة ، نقطة الانطلاق إذن ليست هي الحدث ذاته أو المتغير ذاته، البنوك هنا، ولكنها العملية الذهنية نفسها، التي تحولت إلى هدف باذته، وبذلك انقلبت المعادلة. [30] " وهذا الكلام يشعرك أن الكاتب لا يفقه معنى القياس، وما ضوابط ثوابت العلة وانتفائها، ولا أظنه قرأ أقوال العلماء في هذا الباب العظيم، فقوله أنها عملية ذهنية يدل دلالة قطعية أنه لا يدرك من القياس إلا قوله التشابه بين واقعتين لاحقة وسابقة، فالضوابط التي قررها علماء الأصول من تحقيق المناط ، وتنقيحه ، وتخريجه ، وشروط ثبوت العلة، وقوادح العلة ، كل ذلك يجهله الكاتب لذلك أتى بالعجائب .

وهذه السفسطة من الكاتب هي تلاعب بالأصول الثابتة، ومحاولة لعزل الدين عن واقع الناس، وإشعارنا أن الدين يتعامل مع قضايا سابقة قد اندثرت، وأنه لا صلة بين الدين والواقع وإن تشابهت الواقعة لأن الحدث تغير، وأن النص محدود لا يمكن أن يكون لكل زمان ومكان.

وتجد مسألة التحريم عند الكاتب من أشد المسائل وأعسرها، فيقول :" التحريم لا يكون إلا بنص جامع ومانع أي بنص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة. وحتى في مثل توافر مثل هذا النص فإن القراءة وفهم النص خاضعة للظروف المحيطة بمن يقرأ ،وكيف يقرأ، وأين ومتى [31] " وهذا الحد للتحريم لم يسبقه أحد من العالمين، فهنيئاً له هذا العلم! وبهذا الحد للتحريم لن يكون هناك حرام مطلقاً ، حتى وإن وجد النص الجامع المانع فإن الظروف المحيطة تغيير الحكم.

لم أر جرأة مثل هذه الجرأة في التطاول على أحكام الشريعة ، تغيير وتبديل وتعطيل وتمييع لأحكام الله من غير ذكر لدليل يستند عليه أو ذكر لقول عالم يستأنس به ، وإنما مجرد تعالم مبني على جهل مركب وهوى أعمى وغايات خبيثة ، ولم يكتف بهذا الكذب على الشريعة في حد التحريم؛ بل يرى أن التحريم عند علمائنا ليس مبني على علم؛ بل الغلو والمصالح هي وراء التحريم وليس النص، فيقول:" المشكلة أن الغلو، والأغراض السياسية، والمصالح الشخصية في التاريخ الإسلامي، قلبت القاعدة، فتحول التحريم إلى أصل، والتعددية إلى أحادية، والشريعة إلى تفصيلات قياسية اجتهادية فردية تتعلق بكل شأن من شؤون الدنيا، منحت صفة النص المقدس، رغم أن النص المقدس قليل وعام في أضيق الحدود لقد أصبحت مقولة "الإسلام دين ودنيا" مقولة مضللة أكثر الأحيان، وأدت إلى ظهور طبقة من رجال الدين المتحكمين في كل تفاصيل الحياة [32] " وهذا اتهام لعلماء الإسلام ، وتشويه لتاريخنا، وهذا إن كان يصدق على بعض العلماء ـ وهم قلة في التاريخ الإسلامي ـ إلا أن البحث العلمي يتحتم الإنصاف في الحكم وعدم التعميم للقضايا الفردية . واحترام علماء الأمة والذين هم رم!
وز وقدوات يستضيئون بعلمهم، فهو يقول عن الشافعي العبقري واضع علم أصول الفقه :" فما قام به الشافعي هو أنه وضع قيوداً على عمل العقل، أي عقلن العقل [33] " وهو حق أن الشافعي وضعاً قيوداً ليمنع العقول الفاسدة من التلاعب بأحكام الشريعة ، فحجز السفهاء وحجر على عقولهم وقولهم من أن ينال من هذه الشريعة الغراء، فهي محفوظة باقية ثابتة ما دامت السموات والأرض، فهذه القواعد التي وضعها الشافعي وغيره كفيلة بأذن الله أن تجعل الشريعة الإسلامية نقية ناصعة صالحة لكل زمان ومكان.

ولم يكتف الكاتب بهذه الأباطيل، بل جعل مذهب الأشاعرة هو الوحيد لمعرفة الحقيقة وهو مذهب أهل السنة والجماعة. يقول:" مع الاعتراف بمنهج الإمام الشافعي في الشريعة، والأشعري في العقيدة، والغزالي في الفكر، بصفتها سبلاً شبه وحيدة للوصول إلى الحقيقة، وبصفتها الأركان الثلاثة للوسطية الإسلامية... لقد تشكلت هذه الأركان تحديداً، بالإضافة إلى روافد فرعية، ما أصبح يعرف بمذهب أهل السنة والجماعة [34]" لست أدري لمن يكتب الكاتب! أيظن أن القارئ جاهل أحمق حتى لا يعرف منهاج أهل السنة والجماعة! والزعم أن مذهب الأشعري هو المسلك الوحيد لمعرفة الحقيقة وأنه هومذهب أهل السنة والجماعة فهذا الإدعاء يرده الأشعري والغزالي كلاهما؛ فقد تبرأ الأشعري من منهجه ووضع كتابه "الإبانة" معلناً فيه رجوعه إلى ما عليه الإمام أحمد وهو مذهب أهل السنة والجماعة، والغزالي يتبرأ من علم الكلام ومسلك الفلاسفة كما في كتابه " تهافت الفلاسفة" وأن العقل محكوم بالنص ولا يستطيع لوحده أن يدرك الغيبيات.

كنت أتمنى أن يحترم الكاتب عقل القارئ وأنه ليس عقلاً ساذجاً يقبل كل فرية تقال، فالكاتب لا يتردد بأن يسطر ما شاء دون مبالاة بما يقول، ولذلك تجد كتابه خال من البرهان العقلي أو الدليل الشرعي، فيثبت وينفي حقائق علمية بدون ذكر أي برهان على صحة قوله ومن ذلك مثلاً قوله :" لظروف عملية، وسياسية تحديداً، لا علاقة لها بالمسألة المعرفية، صنف الأئمةالأربعة على أنهم ينتمون إلى منهج واحد، بغض النظر عن الدقة المنهجية [35] " وكذلك تقريره أن منهج المرجئة والمعتزلة هما كمنهج أهل السنة ولكن لأمور سياسية هي التي خرجتهما من هذا المنهج، فيقول :" المرجئة والمعتزلة مثلاً، يستمدان شريعتهما من المرجع ذاته، القرآن والسنة، وبالتالي فإنهما معرفياً يقفان على قدم المساواة، والشيء نفسه يمكن يقال عن البقة. ولكن، الأيديولوجيا، وليست الابستمولوجيا [36] ، هي التي تقف وراء سلطة مذهب دون آخر، أوتار سياسي دون آخر، وبالتالي هذه الأحادية التي يحاول البعض، قديماً وحديثاً، فرضها على الإسلام [37] "

وهكذا يلقي الكاتب الكلام على عواهنه من غير ذكر أي دليل يثبت صحة مزاعمه، فألفاظ زور يلقيها الكاتب الأكاديمي لا يبنى على أسس علمية، أوحقائق تاريخية مبنية علىالبحث والاستقراء، فليدرك القارئ أن هذه محاولات من الكاتب وأمثاله لتشويه تاريخنا، وتمييع العقيدة وأنها عامة غير منضبطة بقواعد وأصول، وأن التصنيف العقدي نتج بسبب قضايا سياسية ليس لها علاقة بالمنهج الإسلامي. كل ذلك من أجل تغريب الأمة.

رأي الكاتب في الصحوة:
يشتد الكاتب غضباً، ويتحسرألماً عندما يرى الاكتساح الأصولي ـ على حسب وصفه ـ في هذا العصر، فيقول ـ وقد ركب السيل الدّرج ـ بتبجح ووقاحة :" هل استطاع المثقفون والمفكرون العرب على اختلاف اتجاهاتهم وميولهم ومذاهبهم، وما أنتجوه من فكر، أن يزرعوا قيما معينة تظهر في سلوك المواطن العادي (العامة) الذي هو محل كل خطاب يطرحه المثقف المنشغل بإشكاليات العصر، وقضاياه ... الجواب بصفة عامة هو لا، وإلا كيف نفسر ذلك الاكتساح الأصولي للساحة السياسية والثقافة العربية المعاصرة، والذي هو دعوة إلى قيم تقليدية بحتة بأفج صورها وسطحيتها، وأنماط سلوك لا تنتمي للفترة المعيشة، رغم مرور قرنين من محاولات التنوير والحداثة والنهضة [38]"

والسؤال هل الدعوة إلى التمسك بقيم الوحي، قيم تقليدية فجة سطحية لا تتناسب مع العصر؟ كلام في غاية الخطورة؛ إذ فيه استحقار وإزدراء واستهانة بقيم الدين، وهذا هو ديدن الكاتب دائماً الاستهجان بكل ما يتعلق بثقافتنا الإسلامية الأصيلة، ولا يرى التقدم والتنوير إلا من الغرب، فتأمل كيف يصف بتبجح بداية الغزو الفرنسي على مصر (1798ـ1801) بأنها بداية التنوير والحداثة فهذا يدل على جهل وانهزامية نفسية عميقة لدى الكاتب، فالحملة الفرنسية التي قام بها " نابليون" على مصر حملة صليبية يراد منها هدم معقل من أكبر معاقل الإسلام الفكرية والعلمية، لقد كان يهدف هذا التنوير إلى " تنحية الشريعة الإسلامية وهي أول نقاط المخطط التي بدأ بتنفيذها بالفعل [39]. وهذا التنوير هو الذي ضرب الأزهر، وجلب البغايا ونشر الفاحشة.

ختاماً: فهذه مقتطفات خاطفة لبعض ما كتبه الكاتب، وقد حاولت أن تكون هذه الكتابة مختصرة، فلم أذكر كل ما رصده القلم، وذلك خشية الملالة، فاقتصرت على البعض، والبعض يدل على الكل. وخطر الكاتب واضح بيّن لذلك لم أذكر الأدلة الشرعية والعقلية على ما ضل به قلم الكاتب؛ إذ أن الهدف هو تحذير الأمة من هذا الكتاب لما فيه من مخالفات عقدية، وتجاوزات شرعية. ولولا أنه يباع في أسواقنا لما كتبت عنه . فالكتاب ليس له هوية، أو طرح علمي رصين، يستحق المناقشة العلمية الجادة، لذلك اكتفيت بالعرض لهذه المفاهيم الخاطئة.

وكتبه: مبارك عامر بقنه


--------------------------------
[1] يتصف الكاتب باستخدام مصطلحات كثيرة تتسم بالغموض والإبهام والرمزية، فكثير من الأحيان لا يعرف أحد معنى هذه المصطلحات أحد إلا هو وشيطانه، ويقصد بالموضوعوية هنا أنها نزعة علموية تقف موقفاً نهلستياً (عدمياً) وليس حيادياً تجاه القضايا التي تثيرها حياة الإنسان. بخلاف الموضوعية والتي تقف موقف الحياد لكنها لا تقف موقف العدمية. ولا شك أنه لا يمكن أن يكون الإنسان في لحظة من لحظات حياته في خالة عدمية تجاه القضايا الإنسانية، فهذه افترضات ذهنية لا توجد في الخارج.
[2] ص (11)           [3] ص (45)             [4] ص(118)           [5] ص(63)،(42)
[6] كثيراً ما يذكر الكاتب المطلق مع أنه يرفض المطلق.
[7] ص (90)          [8] ص (17)             [9] ص(17)              [10] ص(17)
[11] ص(178)        [12] ص (179)           [13] ص(46)           [14] ص (80)
[15] مجموع الفتاوى (28/217)      [16] البداية والنهاية (3/128)     [17] أضواء البيان (4/91ـ92)
[18] مجموع فتاوى ورسائل فضيلة بن عثيمين (2/140)          [19] ص (201)
[20] الدوغمائية: مصطلح نصراني كاثولكي مشتق من كلمة (دوجما) ومعناها: المبدأ ذو الصحة المطلقة، ويرتبط هذا المصطلح بالإلهام الذي تزعمه الكنيسة لنفسها، ويدخل في نطاقه الإدعاء المثير للسخرية وفحواه أن بابا الفاتيكان معصوم، وذلك بموجب دوجما صدرت عام (1870م)، وأصبحت الدوجماتية وصفاً يطلق على الحركات الشمولية كالشيوعية والفاشية. وفي نطاق ببغاوية اللادينيين العرب أصبحوا يفترون على الإسلام بإلصاق الدوجماتية به ظلماً وعدواناً، مع أنهم هم الأجدر به، لأن الاقتناع بالإسلام أمر اختياري يلي التفكير والتدبر. (المغني الوجيز) للأسعد. نقلاً من كتاب (تركي الحمد في ميزان أهل السنة والجماعة) للخراشي.
[21] ص (189)       [22] ص (189)         [23] ص (138)          [24] ص (139)
[25] ص (139)       [26] ص (202)         [27] ص (203)          [28] ص (36)
[29] ص (123)       [30] ص (118)         [31] ص (112)          [32] ص (125)
[33] ص (123)       [34] ص (112)          [35] ص (112)
[36] ابستمولوجية: من اليونانية، تعني نظرية المعرفة العلمية، استخدم مع بداية القرن العشرين كمصطلح دال على فلسفة العلم، ثم اتسع مدلوله ليعني الدراسة الفكرية المحضة لطبيعة العلم، ولذلك فإنه يعني تناول الموضوعات على المستوى المعرفي.
[37] ص (125)              [38] ص (122)          [39] انظر واقعنا المعاصر(201)

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

منوعات الفوائد

  • منوعات الفوائد
  • الصفحة الرئيسية