اطبع هذه الصفحة


التأويل السائغ وغير السائغ في صفات الأفعال

محمد عبد العليم الدسوقى


عندما أنكر متأخرو الأشاعرة صفات الأفعال ونفوها عن الخالق سبحانه، مقتدين في ذلك ومتأثرين بفرق المعتزلة والجهمية والمعطلة والنفاة ومتذرعين بأن في حملها على حقيقتها وظاهر معناها مدعاة للوقوع في دائرة التشبيه والتمثيل والتجسيم المنزه عنها رب العزة جل جلاله.. عمدوا إلى تأويلها زاعمين ورود مثل ذلك التأويل عن الصحابة وتابعيهم الذين يأتي على رأسهم وفي مقدمتهم محيي السنة وقامع البدعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
وللجواب عن ذلك نقول: إن التأويل لدى الموثوق بهم من أهل العلم نوعان، تأويل في اصطلاح السلف وأهل التفسير والفقه والحديث، ومرادهم منه التفسير والبيان أو ما يؤول إليه الكلام، وتأويل عند المعتزلة والجهمية وغيرهم ومرادهم به صرف اللفظ عن ظاهره وهو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الاعتقاد والأصول والفقه.
فالأول محمود لجريانه على قواعد اللغة ومبادئ الشريعة كتفسيرهم (من في السماء..الملك/16، 17) بـ (من على السماء) التي جاءت في عبارة كثير من أئمة السلف، يقول الذهبي فيما نقله عن العلامة ابن موهب وبنحوه فيما نقله عن الإمام أبي الحسن على بن مهدي تلميذ أبي الأشعري في قوله تعالى (أأمنتم من في السماء.. الملك/16): "قال أهل التأويل: يريد فوقها، وهو قول مالك مما فهمه عمن أدرك من التابعين مما فهموه عن الصحابة مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء، يعني فوقها وعليها"[1] ، ويقول فيما نقله عن الأزهري إما م أهل اللغة: "يجوز أن يقال في المجاز هو في السماء لقوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض)"[2] .. وكتفسيرهم القرب في قوله (ونحن أقرب إليه منكم) بقرب ملائكته للقرينة الشرعية المفهومة من سياق قوله: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ..الأنعام/61).. وكتفسير ابن عباس وأبي عبيدة للعلو الوارد في قوله: (ثم استوى إلى السماء..البقرة/29، فصلت/11) بـ(صعد)، وتفسير ابن راهويه والخليل والربيع بن أنس والبخاري فيما نقله عن أبي العالية للعلو الوارد في الآية الكريمة: (ثم استوى على العرش) بـ(ارتفع)، وتفسير أبي عبيدة ومجاهد له بـ(علا) وذلك فيما نقله عنه ابن جرير الذي علق عليه بقوله: "ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا" وقد ذكر الذهبي هذه التفسيرات وصرح بها [3]، وألمح إلى أن حمل الاستواء على معنى القهر أو الاستيلاء، هو مما أجمع أئمة الحديث واللغة والمحققين من أهل التفسير على بطلانه، لكونهما- ولو من غير المغالبة- مما يليقان بالمخلوق دون الخالق، يقول لغوي زمانه ابن الأعرابي ت231 لمن جادله وارتأى أنها بمعنى استولى: "اسكت ما يدريك ما هذا؟ العرب لا تقول للرجل استولى على الشئ حتى يكون له مضاد ، قال النابغة: إلا لمثلك أو من أنت سابقه * سبق الجواد إذا استولى على الأمد.. والله لا مضاد له، وهو على عرشه كما أخبر" وقد حدّث بهذا شيخ العربية ابن نفطويه ت323 ونقله عنهما الحافظ الذهبي [4]، قال علي بن مهدي تلميذ أبي الحسن الأشعري: "لما كان الباري عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكناً لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء"، وقال: "لو كان الأمر كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش وعلى الخلق، ليس للعرش مزية.. فبان بذلك فساد قول القائل أنه بمعنى استولى"[5] .
ومن التأويل المقبول تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله..الزخرف/84) بأنه (الذي يعبد في السماء ويعبد في الأرض) كما لو قال قائل: (فلان بالشام وبالعراق ملك) لدلالة العقل على أن ملكه فيهما لا ذاته، كذا ذكره ابن مهدي .. ومنه تفسير (هو معهم...المجادلة /7) بـ (علمه) وهو ما ورد عن أحمد وغيره من أئمة السلف، لدلالة النصوص على علوه سبحانه علو شأن وعلو ذات وعلى استوائه وفوقيته وتنزيهه تعالى عن الحلول والاتحاد، فهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن ولا شك أن هذا النمط هو أعلى وجوه التفسير وأصوبها، واقرأ معي إن شئت قوله تعالى في صدر نفس الآية: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم .. الآية)، وقوله في عجزها: (ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم...المجادلة /7)، وتأمل كيف خلص منها أهل التفسير والسلف قاطبة على أن هذا التأويل هو جمع بين نصوص الكتاب والسنة الدالين على علوه سبحانه بذاته، يقول أبو القاسم اللالكائي: "سياق ما روي في قوله: (الرحمن على العرش استوى) وأن الله على عرشه، قال الله عز وجل: (إليه يصعد الكلم الطيب)، وقال: (أأمنتم من في السماء)، وقال: (وهو القاهر فوق عباده) فدلت هذه الآيات على أنه في السماء وعلمه بكل مكان، روى ذلك عن عمر وابن عباس وأم سلمة، ومن التابعين: ربيعة وسليمان التيمي ومقاتل، وبه قال مالك والثوري وأحمد"[6] ، وقال الحافظ أبو نصر السجزي: "أئمتنا كسفيان الثوري ومالك وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة والفضيل - يعني ابن عياض- وابن المبارك وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وعلمه بكل مكان وأنه ينزل إلى السماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء"، قال ابن عبد البر: "أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنه التأويل، قالوا.. هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله"، والكلام في هذا أكثر من أن يحصى، وجميعه مدون في كتاب العلو للحافظ الذهبي ويلزم مراجعته [7].
لكن- وذلك من شديد ما يؤسف له- يذكر المتأولون ذلك وينقلونه عن أحمد وغيره ليستدلوا به على مشروعية التأويل وهم لجهلهم بحقيقة الأمر ينقضون - بما ينقلونه عنهم دون أن يشعروا - كلامهم في استواء الله وفوقيته وعلوه على عرشه، إذ كيف يتسنى لهم أن يعترفوا بأن له استواء وينقلون عن السلف ما يثبته ويفيد حمله على حقيقته ثم يتألونه بعد ذلك بأنه بمعنى الاستقرار أو الاستيلاء ويقولون أنه على خلاف ظاهره وأنه محمول على المجاز، ضاربين بكلام السلف عرض الحائط ومخالفين بذلك ما نقلوه عنهم وما أجمعوا عليه من القول بفوقيته وما يقضي به العقل من أن كل ما كان ثابتاً لا بد أن يكون له كيفية، وذلك عقيب تلاعبهم بالألفاظ وسلوكهم فيما ذهبوا إليه مسلك الجهمية وبعد ادعاءهم بأنه: "لا يجوز حمل قوله - أي مجاهد- على العلو الحسي فإنه يوجب المشابهة بينه وبين خلقه وذلك خلاف ما دلت عليه تلك الآية المحكمة (ليس كمثله شئ..الشورى/11)"، وهو كلام حق ممزوج بكثير من الباطل كما سيتضح لنا في الكلام عن نفي الكيف في تصور السلف؟ قال الإمام ابن عبد البر: "أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل .. هو سبحانه على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله"[8] ، وساق مثل هذا الإجماع فيما صرح به الحافظ الذهبي الإمام الأوزاعي، وحماد بن زيد، وابن المبارك [9]، والخزاعي، وابن راهويه [10]، وأبو زرعة الرازي القائل: "هو على عرشه وعلمه في كل مكان ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله"، والحافظ محمد ابن أبي شيبة [11]، والبوشنجي الحافظ فيما نقله عنه شيخ الإسلام الهروي، وأبو أحمد العسال [12]، والآجري، وابن بطة [13]، وابن أبي زيد شيخ المالكية، وأبو عمر الطلمنكي [14]، وأبو نصر السجري، وأبو الحسن الكرجي، وابن موهب [15].
ومن التأويل المخالف لقواعد الشرع ومبادئ اللغة وأصول الدين، ويعد مع ذلك من تحريف الكلم عن مواضعه: تأويل اليدين في قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ..ص/75) بـ(العناية والحفظ) أو بـ(القدرة)، إذ أي فضيلة تكون لآدم على إبليس إن لم يكن الله قد خلقه بيده التي هي صفته، وما معنى قوله تعالى للملائكة: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فيكون .. ومنه تأويلهم الاستواء بالاستيلاء، مستشهدين ببيت جاء على خلاف وجهه منسوب إلى رجل ليس على دين الإسلام هو الأخطل النصراني يقول فيه: قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق، تاركين وراءهم أكثر من ألف دليل من التنزيل، ومن كلام سيد المرسلين، ومتجاهلين اتفاق أئمة التفسير والحديث واللغة قرناً بعد قرن على إبطاله وعلى أنه بمعنى الاستعلاء والارتفاع .. ومنه تأويل نزوله تعالى بنزول رحمته، لبطلان هذا التأويل من عدة وجوه أهمها ما جاء في سياق بعض روايات حديث النزول من قوله عليه السلام فيما يرويه عن رب العزة: (أنا الملك) [16]، وهو صريح في حسم الخلاف، ونظيره قوله: (يستغفرني) (يدعوني)، وقوله: (فأغفر له) إلى غير ذلك مما يستحيل معه صرف اللفظ عن ظاهره وجعل المعنى يستغفر أمري أو رحمتي أو يدعو أيهما، ومن تلك الوجوه إضافة النزول إلى رب العزة صراحة في نحو ثلاثين رواية عن ثمانية وعشرين نفساً من الصحابة كلها جاءت مصرحة بلفظ: (ينزل ربنا)، وعدم وجود رواية واحدة منها بلفظ (تنزل رحمة ربنا) حتى يحمل ما خرج عن نظائره عليه، ومنها تضافر القرائن الدالة على إرادة المعنى الحقيقي كقوله: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)، وقوله: (من ذا الذي يسألني فأعطيه.. إلخ)، وقوله في بعضها: (فيكون كذلك حتى يطلع الفجر ثم يعلو على كرسيه)، فهذا وغيره مانع من حمله على المجاز.. ومن التأويل غير المشروع والمخالف لما عليه ظاهر نصوص الوحيين تأويل المجيء في قوله تعالى: (وجاء ربك..الفجر/22) بقدرته أو بمجيء أمره، فهو فضلاً عما اشتمل عليه من تكذيب لكتاب الله ولنصوص السنة المطهرة، فإن فيه خروجاً على الأصل وادعاء حذف ما لا دليل على حذفه، بل فيه مخالفة للدليل على عدم الحذف، لأن عطف مجيء المَلَك على مجيئه سبحانه دال على تغاير المجيئين وأن مجيء كلٍّ إنما هو بحسبه، ولنفس العلة يُستبعد عطف الملك على الأمر أو القدرة المقدرين إذ ذلك مما لا يستسيغه عقل، يضاف لذلك أن اطراد نسبة المجيء للفصل بين العباد يوم القيامة والإتيان ونحوهما من صفات الأفعال إليه سبحانه دليل الحقيقة، إذ لو كانا مستحيلين على الله لكانا كالأكل والنوم والغفلة ولما ساغ أن ينسبهما سبحانه إلى نفسه، بل إن في إنكار ونفي ذلك إلحاد في أسمائه وصفاته لكون المجيء والإتيان وكذا النزول والاستواء كلها من أنواع أفعاله وأفعاله كصفاته قائمة به، فكيف يتأتى نفيها عنه وهو الفعال لما يريد؟ بل كيف يتأتى نفيها ولولاها لم يكن فعالاً ولا موصوفاًً بصفات الكمال؟ لكن الأوهام الباطلة والعقول الفاسدة لمّا فهمت من نزول الرب ومجيئه وإتيانه واستوائه ما فهمته من فعل المخلوق نفتها عنه، فوقعت بذلك في محذورين: أولهما التشبيه وثانيهما التعطيل.

وما ادعي على الإمام مالك في أن نزوله سبحانه نزول رحمة، وادعي على الإمام أحمد في أمر المجيء وأنه مجيء أمره وقدرته، وكذا ما احتيل به على الإمام البخاري والخطابي وسفيان الثوري، كذب وافتراء لتعارضه مع ما جاء في مذاهبهم، يقول الذهبي في تعليقه على ما ورد عن مالك من أن الاستواء منه تعالى معلوم والكيف غير معقول: "هذا ثابت عن مالك .. وهو قول أهل السنة قاطبة..أن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه وأنه كما يليق به لا نتعمق ولا نتحذلق ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاُ، بل نسكت ونقف كما وقف السلف ..ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله لا مثل له في صفاته ولا في استوائه ولا في نزوله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً" [17]، ويقول أبو نصر السجزي: "أئمتنا كسفيان الثوري ومالك وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة والفضيل وابن المبارك وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وعلمه بكل مكان وأنه ينزل إلى السماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء" [18] ، ويقول الإمام الطحاوي: "قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث .. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل .. وأن الله تعالى استوى على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواء منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته وهو فوق العرش.. فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء"، وذكر ضمن ما ذكر "ونقول إن الله يجئ يوم القيامة كما قال سبحانه: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً..الفجر/22)"[19] .

فاللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك واهدنا إلى صراطك المستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

حمل السلف لصفات الأفعال على ظاهرها

-----------------------
[1]  مختصر العلو للشيخ الألباني ص283، 252.                  [2]  المختصرص249.
[3]  ينظر مختصر العلو160، 171، 202، 224،266،280.       [4]  ينظر المختصر ص 195.
[5]  ينظرالمختصرص251.                                       [6]  المختصر ص262.
[7]  ينظر المختصرص253، 262، 266، 268.                  [8]  المختصرص268.
[9]  المختصر ص137، 146، 151.                             [10]  المختصر ص187، 194.
[11]  المختصرص203، 220.                                   [12]  المختصر ص225، 245.
[13]  المختصرص247، 253.                                  [14]  المختصرص255، 264.
[15]  المختصرص266، 281 ،283.
[16]  أخرجها أحمد من حديث أبي هريرة ورواها مسلم عنه وعن أبي سعيد.     [17]  المختصرص142.
[18]  المختصر ص 266وينظر سير أعلام النبلاء17/656.
[19]  الإبانة بتحقيق د/ فوقية حسين محمود ص20، 30.

 

منوعات الفوائد