صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







في مايسمى " صدام الحضارات "

 د.فواز الجابري
- جدة - المملكة العربية السعودية


لفت نظري منذ فترة تنوف عن عامين, وفي غمرة استعدادات الدولة الاكبر في العالم ل"محاربة الارهاب" في أفغانستان , عنوان كتاب ل"صموئيل هتنغتون" وهو من مثقفي هذه الدولة يدعى" صدام الحضارات". بدأ,لم يثر العنوان اهتماما في , حيث انه كان مذكورا بأيجاز شديد في صفحةداخلية لصحيفة عربية تصدر في أوروبا. لكن تطورات الاحداث آنئذ في أفغانستان ثم العراق وبقاع أخرى من العالم, مع مارافقها من ظهور عالمي لتنظيمات جديدة أخذت تشرّع نفسها بلغة سياسية-دينية أسوة بالقوة الاكبر , جعل الريط بينها-أي الاحداث- وبين محتوى الكتاب أمرا لامناص منه. وجاءت قناعتي بكتابة هذا المقال بعد أن أرسل صديق لي عبر البريد الالكتروني مقتطفات باللغة الانكليزية من الكتاب المذكور مشفوعة باعجابه الشديد بالكتاب فكرة وموضوعا ومحتوى مع قناعته باحتوائه(أي الكتاب) على كثير من الحقائق. هنا, كان لابد من وقفة لوضع نقاط على حروف ولاستيضاح بعضا من تعريفات ضاع معناها الحقيقي في زحام الحرب الاعلامية المستعرة حاليا:

أولا: في تعريف الحضارة:
1-
الحضارة civilization : يقصد بالحضارة أو التمدن(الترجمة الحرفية للمصطلح اللاتيني) الانتاج الفكري والمادي والسلوك العام لمجموعة معينة من الناس في حقبة زمنية معينة. يشمل الانتاج الفكري كافة النشاطات العلمية والادبية والفلسفية بينما يشمل المادي انشاء البنى التحتية والفوقية والثراء المادي للفرد والمجتمع, أما السلوك العام فيمثل العادات والتقاليد والقيم الفكرية والاخلاقية والمفاهيم الاجتماعية للمجتمع والسلطة الحاكمة لهذا المجتمع.
2- منابع الحضارةresources : يستنتج من التعريف السابق ضرورة وجود مصادر مادية وفكرية لتكوين وبناء الحضارة في بلد ما . بالنسبة للمصادر المادية تمثل الثروات الطبيعية كالماء بكافة أشكا! له الطبيعية والنفط والمعادن والتربة الصالحة للزراعة أهمها بالاضافة للقوى البشرية الضرورية لاستثمار تلك الثروات في انشاء البنى التحتية والفوقية وفي التبادل التجاري. اما المصادر الفكرية فيمثل الدين والفلسفة والعلوم التجريبية والترجمة أهمها بالاضافة - بالطبع - الى العقول البشرية اللازمة لحفظ وتطوير ونشر تلك المصادر في المجتمع وفي المجتمعات المجاورة.
3 - نرى اذا - وبداهة - ان العنصر البشري هو العامل الاساسبي والمشترك لبناء كافة أشكال الحضارة مادة وفكرا. ومن هنا تبرزأهمية المحافظة عليه وتربيته وتنشئته بطريقة صحيحة جسما وعقلا ليؤد دوره كاملا في بناء المجتمع وتكوين الحضارة والارتقاء بها.
4- محطات للحضارة: عرفت البشرية على مر تاريخها الطويل الذي يقدر بملايين السنين أشكالا مختلفة من الحضارة, لكن كانت هنالك محطات رئيسية ومفصلية في مسيرة قطارها حيث أحدثت تلك المحطات تغييرات جذرية في الحضارة الانسانية واعطتها دفعات كبيرة الى الامام كما ونوعا. اهم هذه المحطات هي:
اكتشاف النار, اكتشاف وتصنيع أدوات الصيد, أكتشاف الزراعة والري ,أكتشاف العجلة, أكتشاف الكتابة وتطور أدواتها وأسلوبها, أكتشاف الرقم صفر والكشوفات الرياضية والفيزيائية والكيميائية الاخرى,الكشوفات الجغرافية والفلكية الكبرى, الثورة الفكرية فالصناعية وأخيرا-وليس آخرا-المعلوماتية.
هذا غيض من فيض من فترات حاسمة أعطت للنتاج الحضاري الانساني دفعات كبيرة للأمام,وبنظرة سريعة وشاملة لسلّم تطوّر الحضارة نلاحظ انّ شعوبا وأمما عدّة ساهمت في صنعها وأدلت بدلوها فيها بغضّ النظر عن انتمائها الجغرافي أو العرقي أو الطائفي.
5- مفاهيم مشتركة للحضارة: كالأبنية المتماثلة حجما وتصميما في شارع واحد والمختلفة والمتنوعة محتوى , هي المظاهر الحضارية عند مختلف الامم والشعوب,فقد تطابقت الأمم في أسس تكوين الحضارة من بنى تحتية وفوقية ولغة وقوانين وأنظمة حكم وأنتا! ج علمي وأدبي وفنّي بفروعه المختلفة, وتنوعت في مظاهرها, فالادب-على سبيل المثال- مفهومه واحد لم يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان لكن اختلفت لغته واختلف شكله وأسلوبه واتّخذ خصوصية تدل على الامة التي انتجته وكذلك بالنسبة للموسيقى ولجميع فروع الآداب الاخرى.
أما الانتاج العلمي فلا خصوصية له, فهو مشترك بين جميع الامم البائدة والحاضرة تقريبا, ويمكن تشبيهه بكرة الثلج التي تكبر عندما تتدحرج من مكان الى مكان, حيث يغتني عبر الازمنة والامكنة بمفاهيم جديدة وتتعدل أخرى وذلك يمساهمة كل شعب وكل أمة بنصيب في ذلك الاغناء. اما طرق هذا النقل فهي عديدة وتشمل الحروب بين الامم والممالك, طرق التجارة, السفارات بين الامم والبعثات العلمية والتجارية, الكتابة والكتب وأخيرا وسائل الاعلام والمعلوماتية المعاصرة.
6- نتائج مهمة: يجب ذكرها قبل أن نورد أسباب نفي صدام الحضارات وهو الهدف من مقالنا هذا:
أ- لايستطيع أي شعب أو أية أمة أو جماعة في أي! زمان أو مكان الادعاء باحتكار أي أنتاج حضاري
أيا كان نوعه أوهدفه وبالتالي ادعاء التفوق على أقرانهم من باقي الشعوب والامم, اذا فالحضارة
والعنصرية لايجتمعان وهما يتاقضان بعضهما تماما.
ب- أن الصراعات بين الامم والدول - وهي احدى وسائل الاحتكاك بين الشوب كما تقدم - هي التي تسهل
انتقال واغناء الانتاج الحضاري وليس العكس كما ذكر هذا الكاتب المرموق(الحروب الصليبية,حملة
نابليون على مصر,الفتوحات العربية الاسلامية, غزوات البرابرة للامبراطورية الرومانية).

ثانيا: العنصرية أداة ولها أدواتها:
1-
تعريف العنصرية: Racism : هي تعصب فرد أو فئة من الناس لجنس أو عرق أو قبيلة أو عشيرة أو دين أو طائفة أو معتقد أو حتى لون بشرة واباحة قتل أو اضطهاد أو حتى ازدراء الفئات الاخرى بدون وجه حق أو سبب واضح سوى انها تختلف عنه في جنسها أو عرقها أو طائفتها أو لون بشرتها(زنوج وهنود أمريكا,القبائل العربية قبل الاسلام, فكرة الحروب الصليبية, الحركة الصهيونية,النازية,التحزّب والحزبية,الصدامات العرقية والطائفية المعاصرة, مصطلح محاربة الارهاب).
2- تربة العنصرية Environment: من التعريف السابق نصل الى نتيجة بالغة الاهمية هو أن الفكر العنصري يزدهر في المجتمع الجاهل والبيئة غير المتنورة, نتيجة عدم معرفة الفرد أو تلك الفئة من الناس بالطبيعة الانسانية وبحضارات وتاريخ الآخر وكذلك - وهو الاهم حتما -! الجهل التام أو الجزئي بالقيم الدينية والاخلاقية والنواميس الالهية التي لاتتغير على مرّ العصور. اذا: الجهل مرادف للعنصرية وبكلمة أخرى : الجهل عدو الحضارة.
3- الفكر العنصري كأداة للصراعات: بما ان الفكر العنصري مناف للعقل والحضارة كما تقّدم, ويجد في المجتمعات المتخلفة فكريا وصحيا واقتصاديا مرتعا خصيبا له,فلايدّ اذن من وجود مستفيدين وأصحاب مصلحة في وجوده ثم استمراره في مكان وزمان معينين وذلك عبر استخدامه كستار لخدمة وتحقيق مصالحهم الفردية والمادية فقط . لذا, يمكن اعتبار الفكر العنصري كأداة فعّالة في يد أصحاب طموح السلطة والنفوذ والجاه على مرّ العصور واختلاف الامكنة(نفس الامثلة التي ذكرتها في تعريف العنصرية). ويقتضي التنويه للاهمية البالغة هنا بأن أصحاب الفكر العنصري والمستفيدين منه ليسوا مجموعة واحدة متجانسة يورثون فكرهم وسلطتهم لاحفادهم أو منتسبي مجموعتهم فقط (كما يعتقد بذلك أصحاب نظرية المؤامرة), بل هم موجودون ومنتشرون في كافة البلدان وعلى مرّ العصور, والشواهد التاريخية كثيرة جدا لايتسع المجال لذكرها هنا.
4- أدوات الفكر العنصري: حالما تتوافر التربة الملائمة لنمو الفكر العنصري ويتواجد من يستفيد منه كما تقدّم, يبدأ البحث عن وسائل لنشره وترويجه وتشريعه بين أكبر عدد ممكن من الناس على أنه المعيار الحقيقي لاسباب الصدامات بين المجتمعات الشرية. هنا, يبدأ تشويه التاريخ ونتشأ مصطاحات جديدة مغلوطة, ويتغير تفسير أخرى معروفة منذ قدم التاريخ المكتوب لتلائم هذا الفكر الخطير. أما أهمّ مظاهر وأدوات الفكر العنصري فهي - الترتيب حسب الاهمية - :
أ- تشويه الفكر الديني وجعله بخدمة طبقة من الساسة والطامعين بدل أن يكون هو الموجه لرقي وصلاح المجتمع والفرد ولدفع مسيرة الحضارة. من أبرز مظاهر هذا التيار: قادة الحركة الصهيونية, الاباطرة البيزنطيين,ملوك فرنسا وألمانيا وانكلترا في العصور الوسطى, بعض القادة" والخلفاء" المسلمين وخاصة العثمانيين وقادة الثورة "الاسلامية في ايران ,الاحزاب والمنظمات الدينية المعاصرةالتي شوهت مفهوم الجهاد والخلافة في الاسلام وابتدعت مصطلح الصليبية العالمية وذلك خدمة لاهداف الولايات المتحدة في ربط المقاومة الفلسطينية واللبنانية المشروعة بالارهاب والعنصرية وبالتالي محاربتهما.
تتجلى هنا "ثقافة الطائفة" بأسوأ صورها حيث تبيح هذه "الثقافة" رفض وأحيانا الالغاء الجسدي (ان لزم)
لأفراد من طوائف اخرى وذلك خدمة فقط - وثم فقط - لاصحاب المصالح- من الاقطاعيين والملوك في
العصور الوسطى- وليس لعامة النلس الذين سيكتشفون لاحقا بانهم " طلعوا من المولد بلا حمّص"....!!!
( الحروب الصليبية, حرب المائة عام بين فرنسا وبريطانيا,الصراعات بين الامبراطورية النمساوية وروسيا
القيصرية والدولة العثمانية).
ب- تشويه الفكر القومي: نشأ هذا المنحى في عصور لاحقة (العصور الحديثة بالتعريف التاريخي والتي تبدأ مع مطلع القرن 15 حتى اليوم) بعدما بدأت الامبراطوريات القديمة بالتهاوي(البيزنطية، الرومانية المقدسة ثم
الاسبانية, البرتغالية والهولندية) والتي كانت قائمة على التحالف المشبوه بين الاباطرة ورجال الدين(وليس الدين)
وحلّت محل أصحاب القرار نخبة من الصناعيين وكبار التجار التي مافتئت تزيد ثرواتها من خلال امتصاص
دماء شعوبها وشعوب مستعمراتها الآخذة في التوسعّ. تلك النخبة كانت تبحث عن " تشريع" legalization
وتبرير لحروبها الاستعمارية, فاستخدمت النعرات القومية والاثنية لذلك واستغلت الفروق والخصائص القومية
والحضارية الموجودة اصلا بين الشوب والامم على مرّ العصور واختلاف الامكنة لتحقيق مآربها الشخصية من مادية واسترتيجية (نابليون,المانيا,ايطاليا,فرنساوبريطانيا في القرن التاسع عشر الى الحرب العالمية الثانية,
الاحزاب القومية المعاصرة في شتّى بقاع العالم).
ج- تشويه الفكر الانساني: وذلك باستخدام معايير انسانية وأخلاقية ثابتة ومطلقة لتبرير وتغطية التوسع والهيمنة:
كالدفاع عن الحرية والديموقراطية, محاربة الارهاب(وهو بيت القصيد في مقالي هذا).
د- استخدام نظريات ومصطلحات ماتت مع موت أصحابها: كالماركسية, الاشتراكية الخيالية, الهيغلية, المكيافيللية الفوضوية,......الخ.
ه- ابتداع نظريات وفلسفات خاصة لتغطية وتبرير التوسع والهيمنة: كالنازية, الفاشية, الصهيونية, و العلمانية.
5- اعود للتنويه والتركيز على أن الفكر العنصري بكافة أشكاله وادواته المعروضة سابقا هو أداة وليس هدفا في حدّ ذاته, حيث لم يكن يهم أصحاب القرار السياسي تحقيق الهدف المعلن لهم والذي شرّعوا على أساسه عدوانهم أو حربهم ضد الآخر بل كان يهمهم تحقيق أكبر كسب مادي واستراتيجي على حساب الاطراف الاخرى المتصارعة(الحربين العالميتين الاولى والثانية, انشاء دولة اسرائيل).

ثالثا: الاديان,الحضارة والعقل:
عودة الى تعريفنا السابق للحضارة ومقوماتها, حيث ذكرت بان العقل البشري هو أحد المقومات الرئيسية لصنع الحضارة وان الاديان هي أحد المصادر الفكرية الرئيسية لها.
بمحاكمة منطقية بسيطة وبعيدا عن السفسطائيات نصل الى نتيجة عظيمة في الاهمية وهي : حيثما يوجد عقل سليم يعمل نجد حتما تطبيقا سليما للدين وبالتالي نجد الحضارة. اي أن العقل والدين والحضارة توائم ثلاثة لاتنفصل مطلقا على مرّ العصور وباختلاف الامكنة, وان أي غياب لاحدها يعني حكما غياب الاثنين الباقيين.
وبمحاكمة مماثلة نستنتج أنه حيثما يوجد الفكر العنصري وأدواته وزبانيته يغيب العقل والدين الصحيح والحضارة.
لكن, هل ينطبق هذا الاستنتاج على الواقع التاريخي قديما وحاضرا؟ وبعبارة أخرى؛ ! هل حدث وتعايش في مكان واحد وزمان واحد الفكر العنصري مع بيئة حضارية متنورة أم لا؟
الجواب؛ نعم حدث في أكثر من زمان ومكان أن تعايش الفكر الجاهل العنصري مع الفكر الحضاري المتنور. هذا واقع تاريخي لايمكن انكاره, وهو يناقض- ظاهريا على الاقل- النتيجة التي توصلنا اليها منذ قليل,لكن بقليل من الدراسة المتأنية لمعظم الدول والحضارات البائدة والسائدة نتبين انكفاء الجهل والفكر العنصري(وليس غيابه نماما) في حال ازدهار الحضارة كما نلاحظ ازدهاره في فترات انكغاء الحضارة والعقل, وهذا مايفسر وجود طبقات السياسيين والاقتصاديين المغامرين والطامعين الى الثروة والسلطان حتى في أعتى الدول قوة وأكثرها حضارة( بسمارك وهتلر في ألمانيا, نابليون في فرنسا, لينين في روسيا واتحاد الصناعات العسكرية والمافيا في الولايات المتحدة), كما يفسر أيضا وجود جمهرة مفكرين وكتّاب متنورين حتى في أشد المجتمعات تخلفا وظلامية. اذن, انه صراع أبدي وتوازن بين العقل والجهل, بين الحضارة والتعصب, وبعبارة أخرى: بين الخير والشرّ.

رابعا: الشرق والغرب:
سأكتفي بسرد مثالين مرتبطين ببعضهما ارتباطا وثيقا منذ قدم التاريخ شكّلا- ومازالا يشكلان حتى اللحظة الراهنة_ محور الصراعات العالمية أو مايعرف ب" الصراع بين الشرق والغرب" وهما: الحضارة العربية الاسلامية والحضارة الغربية الحديثة:
كان لظهور الاسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي الاثر الاعظم في نقل المنطقة بأسرها من حالة الجهل والتخلف والعنصرية القبلية وعبادة الاوثان وتقديس الطاغوت الى عبادة الاله الواحد وازالة الفروق بين البشر. حمل الاسلام كافة المفاهيم الانسانية الى ثلاثة محاور رئيسية: محور علاقة الفرد مع خالقه(العبادات), محور علاقة الافراد والمجتمعات ببعضها بعضا(التشريع الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي), ثم محور علاقة الحاكم بالرعية وأسلوب الحكم.
لم يتسامح الشرع الاسلامي في اهمال اي محور من تلك المحاور وشدد على تطبيق الكل, وهذا مانراه واضحا في سيرة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- والصحابة والخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم_ حيث شددوا في كل مناسبة على تلازم هذه المحاور بحيث يكون المسلم مسلما في كل شيء ابتداء من سلوكه الشخصي فسلوكه مع محيطه وأخيرا اسلوب حكمه(اذا كان حاكما).
النقطة التي تهمنا هنا هي "اسلوب الحكم في الاسلام". فبحسب النصوص الشرعية والكتب الكثيرة المختصة بهذا الشأن, قام الحكم في الاسلام على ثلاثة دعامات رئيسية: العدل, التسامح وتكافؤ الفرص. أما العدل فيقصد به اعطاء كل ذي حق حقّه من ثواب أو عقاب بغض النظر عن صفة اعتبارية أو لون أو عرق أو دين. وأما التسامح فيعني حرية المعتقد والاتجاه السياسي. وأخيرا يعني تكافؤ الفرص وضع الرجل المناسب في المكان المناسب واتاحة الفرصة أمام جميع الرعايا لممارسة عملهم ونشاطهم اقتصاديا أكان أم اجتماعيا أم علميا.
كان لتطبيق أسلوب الحكم الذي ذكرته آنفا والنابع لاشك من ايمان ديني عميق الاثر الكبير في انطلاق الحضارة العربية الاسلامية واشعاعها على العالم كله في ذلك الوقت. انقلبت موازين وتغيرت مفاهيم ودالت دول الى غير رجعة وزالت طواغيت الى الابد في فترة زمنية قصيرة لاتنوف عن الثلاثين عاما منذ أنزل الوحي على الرسول- صلى الله عليه وسلم- لاول مرّة , وتتابعت الانجازت الحضارية التي كان الشرع الاسلامي دعامتها ومنبعها وملهمها دائما. كانت الفترة التي طالت حوالي ستمائة عام تقريبا فترة عقل وتنوير وانفتاح بحقّ. ولم يجد العلماء والمفكرين المسلمين وغيرهم ممّن انضووا تحت لوائها حرجا من الاستفادة من كل ماوقع تحت ايديهم من علوم واكتشافات وحتى فلسفات لشعوب اخرى بغضّ النظر عن دينها أو عرقها حيث لم يخرج ذلك عن نطاق النصوص الشرعية الاسلامية التي أمرتهم بالبحث عن المعرفة اينما وجدت.
بالطبع, لم تعدم تلك الفترة وجود الطامعين السياسيين واصحاب المصالح المادية البحتة, ولم تعدم وجود الباحثين عن السلطان والجاه والنفوذ, غير ان الوعي الديني الصحيح بين كافة فئات الناس من خاصة وعامة ومن علماء وباحثين ومستشارين وادباء وحتى عامة الناس, هذا الوعي كان يحبط دائما الانحراف في مسيرة الحضارة تلك.
في الفترة ذاتها(العصور الوسطى: 500-1500 م)كانت القارة الاوروبية غارقة في الجهل والتخلف والعنصرية. كان يحكمها خليط من امبراطوريات ادّعت خلافة الامبراطورية الرومانية ومن اقطاعيات عديدة متفرقة وصغيرة انتشرت في انحائها. وكان اصحاب السلطة والنفوذ من أباطرة واقطاعيين وأمراء يتحالفون مع رجال الدين لاضفاء الشرعية على سلطتهم. ولم يجد اولئك مقاومة تذكر من الشعوب التي حكموها آنذاك كونها(اي الشعوب) كانت غارقة في الفقر والجهل والمرض الذي بدأ يدبّ في أوصالها في السنين الاخيرة للامبراطورية الرومانية. لم تنفع محاولات قسطنطين (في القرن الرابع الميلادي) من اعلانه المسيحية دينا رسميا للدولة ثم تقسيمه لها الى شرقية وغربية في بعث الروح في جسد الامبراطورية الميّت بل عجّل -على العكس - في نهايتها, حيث حوّل بخطواته تلك تسامح المسيحية الاصولية وعالميتها كما نادى بها السيد المسيح- عليه السلام- وحواريه الى تعصب ديني وصل الى أوجه مع بداية الحروب الصليبية.
ظلّ نجم الحضارة للشرق العربي الاسلامي في صعود وللغرب الاوروبي في هبوط حتى ارهاصات القرن الثالث عشر الميلادي. فمع توسع مساحة الدولة الاسلامية وانطواء شعوب كثيرة تحت لوائها,كثرت المطامع السياسية وعادت المناحرات القبلية الى الظهور وخاصة مع ازدياد ثروة ورخاء الامّة, فكان التقسيم السياسي لها الى دويلات يحارب فيها الاخ أخيه(الاخوة أميري دمشق وحلب قبيل الغزو الفرنجي)مما أثار شهوة الدول والشعوب المجاورة ايضا والغير متحضرة(المغول البداوة والفرنجة الاقطاعيين), هنا بدأ نجم العقل والدين وال! حضارة يأفل ويفسح المجال لانحطاط بدأ سياسيا وانتهى دينيا واجتماعيا وفكريا واقتصادي الانزال نعيش اثاره لليوم(حلقة الجهل والفقر والمرض)....لكن:
لم تأب الحضارة العربية الاسلامية أن تختفي وتضمحلّ قبل أن تفسح المجال للأوروبيين بان ينهلوا منها, فكيف؟.
كانت الاندلس وصقلية وجنوب ايطاليا ثم الممالك الفرنجية في بلاد الشام الجسور التي عبرت منها الحضارة العربية الاسلامية وشعّت الى الغرب الاوروبي, حيث تدفّقت الانجازات الحضارية بكل اشكالها من علم وفلسفة وأدب ولاهوت عبر مناطق التماس تلك الى الشعوب الاوروبية سواء بالبعثات الدراسية أو بالترجمات المكثّفة أو الدبلوماسية أو بالتجارة أو بالحروب, ووجد في الغرب من يتبنّى التنوير ويعتبره فرصة للخلاص من نير وتسلّط الحكام والامراء ورجال الدين وخاصة في المدن التجارية الايطالية(البندقية, بيزا وجنوا)التي احتفظت على الدوام بعلاقات جيّدة مع الشرق الاسلامي.
شيئا فشيئا استبدلت بخارى والري وبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان ومراكش وفاس وقرطبة كمراكز اشعاع فكري وحضاري في العالم المعروف آنذاك ببادوا وسالرنو و بولونيا وفلورنسا وبالرمو ثم لاحقا لشبونة وروما ومدريد ومونبيلييه وباريس وبرلين ولندن, وكانت نقطة البداية هي كسر القاعدة التي وضعها رجال الدين والقائلة بعدم دراسة فكر الشعوب الاخرى غير المسيحية باعتباره " زندقة وكفرا ومروقا على الدين".
استمر الصراع حادّا- وبالتوازي - بين الفكر الظلامي والفكر التنويري في أوروبا لمدة تزيد عن ثلاثمائة عام, حيث لم يسلّم الحلف المكوّن من! الملوك والامراء ورجال الدين مواقعه بسهولة. عرفت القارة موجات عارمة من التعصب الديني والطائفي والعرقي وعانت من حروب داخلية مدمّرة, لكنها عرفت في الوقت نفسه حركات اصلاح ديني وفكري واجتماعي واقتصادي كثيرة تّوجت بالثورة الفرنسية والانكليزية ثم الوحدتان الالمانية والايطالية, وعرفت على الصعيد العلمي تتابع الاختراعات والاكتشافات حتى يومنا هذا..
كانت النهضة الفكرية الاوروبية بدورهاسببا رئيسيا في الكشوف الجغرافية الكبرى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر التي خلقت طبقة من كبار التجّار ثم الصناعيين بفعل الثروات المادية المتدفقة من المستعمرات, وهذه, بالاضافة للثورة الفكرية والعلمية, ساهمت في ادخال القارة في دوامة الحلقة الحضارية التي كان الشرق الاسلامي قد دخلها قبلها بحوالي 800 عام وهي حلقة الغنى والعقل والصحة.
أفسح اضمحلال طبقة الملوك والاقطاعيين ورجال الدين وزوال التحالف بينهم المجال لظهور طبقة جديدة في مراكز القرار وهي طبقة تحالف الشرك! ات الصناعية والتجارية الكبرى مع رجال السياسة الذين تبدلت ألقابهم وتغيرت مسمياتهم, اذ كان لابد للصناعات المتنوعة التي استحدثت بفضل التقدم العلمي والثروات الهائلة من المستعمرات المكتشفة حديثا أن تبحث لها عن أسواق لتصريف منتجاتها ,الى يد عاملة رخيصة والى- وهو الاهم- مواد أولية خام ضرورية لتلك الصناعات, فاشتد التنافس الاستعماري بين الدول الاوروبية الاكثلر تطورا واتصف لاول مرة في التاريخ - ومن الآن فصاعدا- بالعالمية لانه لم يعد مقتصرا على الحدود البرية المشتركة بين بلدين -كما كان سابقا-بل شمل كل البقاع التي وصلتها أساطيل وجيوش تلك الدول.
وصل التنافس الاستعماري بين ساسة وصناعيي الدول المتطورة الى ذروته خلال النصف الاول من القرن العشرين, وحاول كل طرف تحقيق مكاسب استعمارية جديدة على الساحة العالمية المفتوحة وخاصة بعد انضمام لاعبين جدد للنادي الاستعماري(المانبا, ايطاليا, بلجبكا, الولايات المتحدة,اليابان والاتحاد السوفياتي). وفي حين شهدت الحرب العالمية الاولى زوال آخر الامبراطوريات الاقطاعية -اللاهوتية القديمة ( النمسا,هنغاريا , الدولة العثمانية,روسيا القيصرية) شهدت الحرب العالمية الثانية زوال القوى الاستعمارية الامبريالية المتطورة (فرنسا,بريطانيا,المانيا,ايطالياواليابان) وصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الى المسرح الاستعماري العالمي كقوتين عظميين وحيدتين تصولان وتجولان كما يحلو لهما عبر ماسمي "بالحرب الباردة", اذ لم يحدث صدام عسكري مباشر بينهما بل حدث عبر حروب ساخنة شتّى في العديد من بلاد العالم الثالث( كوريا, فييتنام, لاوس, كمبوديا, لبنان, فلسطين, القرن الافريقي, كوبا, نيكاراغوا, أنغولا....الخ). وقد اتخذت هذه الحروب ذرائع شتى من قومية وطائفية وقبلية وايديولوجية اذكت اوارها الآلة الاعلامية الضخمة للقوتين العظميين بالاضافة للتنظيمات والانظمة التابعة لها في تلك البلدان وايضا الجهل والفقر والمرض المتفشي بين شعوبها(اي شعوب العالم الثالث).!
شهد العقد الاخير من القرن العشرين انكفاء الاتحاد السوفياتي كقوّة عالمية وتفرّد الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في الساحة العالمية. تجلّى ذلك في اكتسابها مواقع استراتيجبة جديدة في شتّى بقاع العالم عبر اثارة الحروب الاهلية والاعمال الارهابية مباشرة أو بواسطة منظمات وأنظمة تعاديها ظاهريا, ثم التدخل عسكريا بحجة ايقافها واعادة الامن والاستقرار. كان هذاواضحا في يوغوسلافيا السابقة,بنما,القوقاز, أفغانستان,العراق.... والبقية تأتي.....!!

خامسا: الحركة الصهيونية, الهيمنة الامريكية وصدام الحضارات؛ نتيجة
هل هنالك ثمة علاقة بين الفكرة الصهيونية ونظرية" صدام الحضارات"؟
للاجابة على هذا السؤال يلزمنا العودة الى بعض التعريفات والمحطات التاريخية.
تعرّف الحركة الصهيونية بانها حركة تهتم بتجميع يهود العالم أجمع في "وطن قومي" أو "دولة يهودية" عبر جميع الوسائل الممكنة, وقد لخص روّادها هذه الوسائل " بالتجمّع والاقتحام", حيث قامت منظمات صهيونية عديدة بتجميع السكان اليهود من كافة بلدان العالم وتقديم التسهيلات المادية والاجتماعية لهم مقدمة لارسالهم الى فلسطين,ومن هناك, وبعد توفير عدد كاف منهم وتدريبهم تدريبا عسكريا مكثفا, قاموا بتثبيت أقدامهم في "الارض الموعود" ومن ثم تأسيس " الوطن القومي" ثم الدولة في عام 1948 م.
اعتمدت الحركة الصهيونية منذ نشأتهاعلى الاساطير الدينية التي لاأساس لها من الصحة كغطاء لعملها ولاعطائه الشرعية اللازمة,
لم تستطع الحركة الصهيونية منذ نشأتها في عام 1897 م وحتى اللحظة الراهنة- مرورا بكافة مراحل انشاء الدولة اليهودية- العمل منفردة ومن دون دعم مادي وسياسي وعسكري وبشري, فكان اعتمادها على بريطانيا وفرنسا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ومن ثم انتقل السند الى الولايات المتحدة التي ماتزال تعتمد عليها حتى الآن. ومن جهتها وجدت هاتان الدولتان في تلك الحركة ورقة رابحة عظيمة الاهميّة لتحقيق اهدافها الاستعمارية في المنطقة العربية خاصة بهدف تمزيقها الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي(اهمية وحدة مصر والشام في تكوين دولة قوية في المنطقة).

بناء على كل ماسبق نخلص للنتائج التالية:
1- الحركة الصهيونية هي حركة عنصرية خالصة اعتمد خطابها على تفضيل اليهود على ماسواهم من البشر وتصويرهم للعالم على انهم المضطهدين والمساكين تمهيدا للقيام بأكبر عملية استعمارية استيطانية في التاريخ.
2- اتفق المضمون العنصري للحركة الصهيونية مع تفكير بني اسرائيل الاول حين حوّلوا الشريعة الالهية التي نادى بها موسى عليه السلام من توحيد الهي وعالمي لكل البشر الى عنصرية يهودية خاصّة بهم(شعب الله المختار).
3- تزامن ظهور الحركة الصهيونية عام 1798 م مع بداية ظهور الولايات المتحدة الامريكية كقوة استعمارية عالمية عام 1898 م ذلك وخلال الحرب الاسبانية-الامريكية التي جرّدت اسبانيا من معظم مستعمراتها في العالم.
4- اعتمدت الولايات المتحدة منذ ظهورها كقوة عالمية جديدة تسعى الى الهيمنة, أساليب وتشريعات عديدة لتبرير تدخلها الاستعماري ومنافسة القوى الكبرى المعروفة آنذاك أسوة بكل القوى والنظم الاستعمارية على مرّ التاريخ)كما ذكرت قبلا). وكان توافق المصالح بين الحركة الصهيونية من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة اخرى, واعتماد تلك الحركة كليا عليهما, كان ذلك مقدمة للزواج الابدي بين الحركة الصهيونية ومراكز صنع! القرار في الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة.

أمّا الاساليب والخطابات التبريرية التي اعتمدها الثنائي "الصهيونية-الولايات المتحدة" حسب التسلسل الزمني فكانت كما يلي:
1- نقاط الرئيس الامريكي ويلسون الاربعة عشرة بشأن حق الشوب في تقرير مصيرها بنفسها(عام 1919 غداة انتهاء الحرب العالمية الاولى) وماتبعها من انشاء عصبة الامم ثم اعطاء الدول الاستعمارية الكبرى مايسمّى ب" حق الانتداب" لتهيمن به على الشعوب المستضعفة بحجة مساعدتها على بناء نفسها وتقرير مصيرها حيث ان هذه الشعوب غير مؤهلة للاستقلال بعد.....!!!!
2- محاربة النازيّة والفاشية والآلة العسكرية اليابانية باسم الحرية والديموقراطية وذلك في فترة مابين الحربين العالميتين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية وانشاء محاكم "نورمبرغ" لمحاكمة" مجرمي الحرب النازيين" كما ادّعوا.
3- محاربة "الشيوعية" المتمثلة في القوة العظمى الثانية(الاتحاد السوفياتي)التي ظهرت الى المسرح العالمي قبيل الحرب العالمية الثانية.وقد استمرّ هذا المنحى حتى تفكك الاتحاد السوفياتي السياسي نهاية عام 1991 م.
4- محاربة الارهاب: وهو مصطلح قديم حديث بدأ الكلام عنه في بداية السبعينات من القرن العشرين مع تصاعد المقاومة الفلسطينية المشروعة ضد الوجود الاسرائيلي في فلسطين(وليس فقط ضد الاحتلال الاسرائيلي لاراضي مابعد حرب 1967).اذ روّعت المقاومة الفلسطينبة(وقبلها الجزائرية والفيتنامية والدومينيكانية والبوليفية وبعدها الافغانية ضد الاحتلال السوفياتي واللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي) دوائر صنع القرار في الثنائي الامريكي-الصهيوني ووجدت نفسها أمام عدو حقيقي اعتمد الفكرة والاسلوب الصحيحين في مواجهة الظلم والطغيان. لم تتبن المقاومة الفلسطينية- وبعدها اللبنانية- أي مشروع عنصري أو طائفي في صراعها مع عدوّها, كما لم تخرج قيد أنملة عن قتال من يجب قتاله(وهو الجيش المحتلّ فقط), فكان أن كسبت احترام العلم كله بمصداقيتها بمثل ماحققت من مكتسبات على صعيد التحرير وارباك العدو وترويعه ناهيك عن افقاده مصداقيته ومشروعيته. لقد حققت حركات المقاومة هذه بعض ماحققه نور الدين زنكي وصلاح الدين الايوبي قبل حوالي ثمانمائة عام في صراعهما ضد الغازي الفرنجي(وليس النصراني)رغم محاولات الفرنجة اضفاء الشرعية على غزوهم للشرق الاسلامي.اعتمد نور الدين وصلاح الدين الاسلوب ال! حضاري والصحيح في مقاومة الاحتلال ومحاربة قوى الظلام والعنصرية مشفوعا بالايمان الديني الصحيح وهو ماأدّى-حكما- الى نجاحهما.
لم يكن أمام الولايات المتحدة من خيار أمام تصاعد حركات المقاومة تلك واكتسابها تعاطفا شعبيا عربيا واسلاميا وعالميا, وخاصة بعد دعم الاتحاد السوفياتي لبعضها في سياق الحرب الباردة(وليس بالطبع لحسن نيّته), لم يكن أمامها من خيار الاّ البحث عن وسائل جديدة لتطويع المقاومة الشعبية ضد قوى الهيمنة والظلام , فكان اللجوء الى ثقافة العنف الطائفي والارهاب ومحاربة الارهاب, فكيف؟
اعتمد استراتيجيو البنتاغون لهذا ثقافة كاملة بدأ نشرها عبر وسائل الاعلام المتعددة و خطابهم السياسي بشكل مكثّف منذ منتصف السبعينات وهي ثقافة "الطائفة" حيث حلّت المسميّات الطائفية والاثنية محل المسميات الدالة على الظلم, الاستبداد, التحرر والمقاومة وتحول وصف الصراع في ايرلندة الشمالية من صراع بين الوحدويين والانفصاليين في اذاعة ب.ب.سي. باللغة الانكليزية الى صراع بين البروتستانت والك! اثوليك في نفس الاذاعة باللغة العربية......!!!...... ساعدهم في ذلك بشكل رئيسي كثير من الانظمة والمنظمات والحركات والاحزاب في العالم الثالث التي استحدث بعضها و"حدّث" بعضها الآخر خصّيصا لتلك الاغراض. شكّلت الحرب الاهلية اللبنانية التي دامت ستة عشر عاما(1975-1991 م) أكبر مثال على ذلك حيث برزت ثقافة الطائفة والاقليمية والاثنية بشكل واضح فيها, كما شكلت الحرب الاهلية الافغانية التي دارت بين "المجاهدين" الافغان في العقد الاخير من القرن العشرين المثال القبيح لثقافة القبلية والطائفية.
وفي الواقع, فان تمرير ثقافة الطائفة لغايات استعمارية لم يكن جديدا في العصور الحديثة. فقد استعمل بشكل واضح في القرن التاسع عشر من قبل القوى الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت في الشرق العربي والهند . حيث تسابقت تلك القوى- وبدعوى حماية طائفة معينّة من التصفية على يد الطائفة الاخرى(ياللعجب....!!)- الى التدخل المتزايد في تلك البلدان واقتسام تركة الدولة العثمانية المريضة , حيث ادّى ذلك الى تقسيمها ! بعد استقلالها الى كيانات سياسية عديدة,كما ادّت تلك السياسة في الهند الى تقسيمها لثلاثة دول كان التوتر هو الغالب على علاقاتها ببعضها لغاية الآن.
استعمل سلاح "ثقافة الطائفة" بشكل فعّال كذلك في وأد الاتجاهات التنويرية التي ظهرت في مصر والشام والصين والهند والبلقان وروسيا القيصرية في القرن التاسع عشر. اذ حّجم مشروع محمد علي باشا في مصر لبناء دولة اسلامية حديثة منفتحة وعصرية وقوية,واثيرت الحركات الاثنية والطائفية ضده. كما صّور كثير من كتاب مصر والشام المسلمين وغير المسلمين المتنورين كملحدين مارقين وعملاء "للغرب الصليبي" وللمستشرقين الاوروبيين. تمّ هذا بمباركة السلطات العثمانية والدول الاستعمارية الاوروبية التي كانت تفَضّل وجود دولة مريضة ظالمة في الشرق تمهيدا للانقضاض عليها في اللحظة المناسبة,.هكذا,وبدلا من قيام ثورة عامة ضد الظلم والاستبداد في كافة ارجاء الدولة العثمانية ومن كافة شعوبها بدون استثناء (كما بشّر الكواكبي في كتابه"طبائع الاستبداد"), قامت ثورة "عربية" غير واضحة الاهداف متعاونة مع البريطانيين في وجه حكم طوراني متعصّب ساهمت بريطانيا نفسها في صنعه.....!!!!
توافق استعمال سلاح"ثقافة الطائفة" مع مضمون الحركة الصهيونية من أساسها كما ذكرت سابقا, ووجدت الحركة في تلك السلاح تشريعا أساسيا لوجودها ولوجود الدولة العبرية المصطنعة , ومن جهة أخرى, ونظرا لحاجة الولايات المتحدة الدائمة لتبرير استعمارها وهيمنتها و الحاجة لوجود عدو ايديولوجي دائم تحاربه(كما تدّعي), تم اعتبار الارهاب كعدو أول للديموقراطية والحرية الامريكية بعد سقوط الشيوعية ومن قبلها النازية والعسكرية اليابانية,ووجدت في الانظمة والمنظمات التي استعملت العنف الديني والقومي ضالتها فأخذت تشجعها وتدعمها تمهيدا لعصر جديد من الهيمنة العالمية.أما الحركات والمنظمات التوّاقة الى الحرية والتنوير فقد أخذت تضمحل شيئا فشيئا وأصبحت توصف بالارهاب أسوة بالمنظمات الارهابية الفعلية الاخرى التي كان للولايات المتحدة الدور الكبير في صنعها.
وأخيرا كان للصبغة الدينية أو الاثنية لتلك المنظمات الايحاء الاكبر(لدى شعوب العالم الثلث خاصة) بان الحروب التي يخوضها الثنائي الصهيوني الامريكي هي حروب دينية وأثنية لاعلاقة لها مطلقا باية مصالح استرتيجية أو اقتصادية, وهو بالضبط ماأراد هذا الثنائي ايهام العالم به ! واظنه نجح الى حدّ ما في ذلك......للأسف.

سادسا: هل يوجد صدام للحضارات؟:
بعد كل ماتقدم, هل نستطيع أقرار وجود صدام للحضارات؟
هل يعقل أن تدمر حضارة ما حضارة أخرى اذا كان السلام والامن أحد ركائزها؟

وهل من المنطقي أن تدمر الحضارة نفسها بالحروب بينما اسمها وتعريفها يعنيان "البناء والازدهار"؟
وهل ثقافة العدل والتسامح ونشر المعرفة تؤدي الى العنصرية والاحتكار والطغيان؟
وهل تحضّ تعاليم السماء حقا على قتل الانسان للأنسان لمجرد اعتقاده؟
وأخيرا, هل من الممكن أن تصارع الحضارات بعضها اذا كان وجود كل واحدة منها سبب للأخرى؟
هل يريد السيد هتنغتون أن نصدّق أن البروتستانتي والكاثوليكي يقتلان بعضهما بسبب المعتقد في بلفاست بينما يشربان البيرة سوية في احدى بارات لندن أو ليفربول؟
وهل يريدنا أن نصدّق ان الغرب "المسيحي" والشرق "المسلم" يكرهان بعضهما لدرجة الموت بينما عشرات الرحلات الجوية ومثلها البحرية الشرعية وغير الشرعية تنتقل كل يوم ناقلة "الشرقيين" الباحثين عن الامن الاقتصادي والاجتماعي الىالغرب المتطوّر من جهة وناقلة الغربيين الى الشرق المليء بالتاريخ والحضارات والمغامرة الفكرية والفلسفية؟
وهل يطلب منّا أن نوافقه القول باستحالة تعايش الماليزي المسلم والصيني البوذي والهندي بكافة طوائفه وأديانه في ماليزيا ويبنون معا بلدا متطورا وحضاريا منفتحا؟
هل يطلب منّ الاطباء والعلماء العرب بعدم اعتماد المراجع الاجنبية في دراستهم وابحاثهم بحجة انتمائها(أي المراجع) لحضارة مغايرة؟
وهل كان يتصوّر نهضة أوروبا في نهاية العصور الوسطى من دون الاحتكاك المستمر بالعرب والمسلمين؟
وهل في اعتقاده أن حضارة بلده(الولايات المتحدة) قد نزلت من السماء ولم تأت عبر الاطلسي من أوروبا نفسها ومن العقول الجبارة لابناء العالم الثالث المهاجرون اليها؟
هل يريد السيد هيتينغتون أن لايعرف غير الامريكي بأرنست همنغواي وأن لايعرف غير الروسي بليون تولستوي وغير العربي بنجيب محفوظ؟ وبناء عليه هل يريد ألغاء الترجمة ورمي القواميس في البحر نظرا لانتفاء الحاجة لها في عصر صدام الحضارات؟
ان الحضارة ياسيد هتنغتون ليست سيوفا ورماحا ودبابات وطائرات وصواريخ تفني بها أمّة سواها من الامم, وهي ليست مطامع مادية واس! تراتيجية وسياسية. ان الحضارة تعني العقل, والعقل لايعرف سوى العقل, والفكر لايعرف سوى الجدل والدين لايعرف سوى التسامح, والثقافة تقول دائما لنظرائها :" هل من مزيد"؟
اذا كان هنالك مايسمّى فعلا "صدام الحضارات" فلماذا انتشرت الكتابة المسمارية من جنوب مابين النهرين صعودا حتى "ايبلا" (جنوب حلب) والى أوغاريت(شمال اللاذقية)؟, ولماذا انتشرت الابجدية الكنعانية وحروفها الى كافة انحاء أوروبا ثم العالم كله عبر الابجدية اللاتينية؟. لماذا سمّى العرب المسلمون " أبوقراط الاغريقي" بأبي الطبّ وترجمت كتبه وكتب جالينوس الى العربية؟. كيف انتشرت صناعة الورق من الصين الى أوروبا مرورا بالشرق الاسلامي؟.و لماذا ظلّت مؤلفات الرازي وابن رشد وابن زهر وابن سينا تدرّس في الجامعات الاوروبية حتى نهاية القرن الثامن عشر؟ . لماذا ألّفت المستشرقة الالمانية(الشرقية الشيوعية) "زيغريد هونكه" كتابها المشهور " شمس العرب تسطع على الغرب" ؟,ولماذا اتجه معظم المثقفين والعلماء من كافة انحاء العالم الى باريس (عاصمة النور)ولندن وبرلين للدراسة والتحصيل ابتداء من القرن التاسع عشر؟. وأخيرا, لماذا يتمنى مئات الملايين من سكان ه! ذا العالم البائس الاقامة في الولايات المتحدة سواء للعمل أو للتحصيل العلمي في عصرنا الحالي؟.
أذا سلّمنا بوجود ما يسمّى"صدام الحضارات" فكيف نفّسر الحروب اللانهائية التي شهدتها دول أوروبا"المسيحية" فيما بينها على مدى ألف وستمائة عام؟ وكيف نشرح الفتن السياسية والطائفية التي شهدتها بلاد الشام والعراق ومصر والاندلس "الاسلامية" عندما بدأت منذ ألف وثلاثمائة عام ولازالت؟؟!!... بماذا ننظّر حرب استقلال الامريكيين "البروتستانت" عن بريطانيا " البروتستانتية" ثم الحرب الاهلية الامريكية(بين الامريكيين البروتستانت انفسهم) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ؟...وهل كانت الغزوات الهمجية لتيمورلنك "المسلم" في العراق والشام " الاسلامية" أوائل القرن الخامس عشر تعتبر صداما حضاربا؟؟!! وكيف نفسّر الستعمار الاوروبي "المسيحي" الدائم لافريقيا "المسيحية" وامتصاص ثرواتها ودماء شعوبها وتركها فريسة للمجاعات والجهل والمرض؟.
وأخيرا كيف نفسّر وجود دولة اسرائيل بذاتها على أساس ديني (كما ادّعوا) بينما يتواجد ثلاث! ة أرباع يهود العالم خارجها(خاصة يهود الدول المتطورة), بينما تعاني تلك الدولة المصطنعة من علل الهجرة المعاكسة والتمييز الحاد بداخلها بين يهود الاشكناز والسفارديم....!!!؟.

سابعا: لماذا" صدام الحضارات"؟
ماهي الأهداف اذا من تعميم نظرية "صدام الحضارات" وماشابهها من نظريات "كالصراع الديني والعقائدي" ," الحروب الصليبية الجديدة(كما نطقها السيد بوش ) وانتظار قدوم المسيح الدجّال, "نظرية المؤامرة والثورة العالمية"...الخ؟.
اذا عدنا لما جاء سابقا في المقال , سنجد أن الاهداف من تعميم تلك النظريات تتلخص في النقاط التالية:
1- اضفاء الشرعية على انشاء دولة "اسرائيل" ذات الطابع العنصري والتي هي اصلا أداة بيد سياسيي واقتصاديي الدول الاستعمارية على مدى تاريخ وجودها.
2- ابعاد الانظار عن الاهداف الحقيقية للتدخلات الاستعمارية في كافة بقاع العالم وهي كما أثبت ويثبت لنا التاريخ كل يوم أهداف اقتصادية واستراتيجية(النفط خاصة)بحتة, وأودّ التنويه فقط بان احصائية نشرت في منصف عام 2002م أظهرت بان الشعب الامريكي وحده والذي يشكلّ تعداده 1/ 25 من التعداد العالم! ي يستهلك 1/4 الانتاج اليومي العالمي من النفط...!! أليس هذا سببا كافيا؟؟
3- ايقاع الشعوب المقهورة والباحثة عن حرّيتها وكرامتها بفخ الصراعات الوهمية التي تهدف الى الالغاء الجسدي للآخر( تشجيع الفكر العنصري).
4- تشويه التقييم التاريخي الصحيح للأفراد ولأنظمة الحكم والدول والحقبات الزمنية وغيرها, بحيث يتمّ تقييمها في هذه الحالة على أساس انتمائها الطائفي أو العرقي أوالقومي وليس على أساس نتيجة عملها وبمقدار ماساهمت به في الحضارة الانسانية.
5- الخلط بين حركات التحرر من جهة وحركات الارهاب من جهة اخرى واعتبارها كلّها ارهابا مصدره حضارة معيّنة يجب مواجهتها بحضارة اخرى(الارهاب الاسلامي والتمدن الغربي....!!).

ثامنا: مواجهة الفكر العنصري:
عودة على بدأ, وكخاتمة لمقالي هذا, هل هنلك من سبيل لمواجهة الفكر العنصري؟
الجواب: نعم, وهذا دور يقع على عاتق المثقّفين والمتنوّرين في جميع انحاء العالم. فبما أنّ تعلّم أية لغة يبدأ بتعلّم حروفها الابجدبة وتمييزها ونطقها نطقا صحيحا, كذلك هي الطريقة التي تجب فيها مواجهة الفكر العنصري ونظر! يات" صدام الحضارات" التي هي أحدى افرازاته.
لقد استعمل منظّرو الفكر العنصري التاريخ بشكل رئيسي لتمرير أفكارهم معتمدين على جهل وعدم معرفة معظم العامة والخاصّة به على مرّ الازمنة واختلاف الامكنة. وكما رأينا سابقا فان الجهل يشكّل الوعاء الخصب لنمو الفكر العنصري وترعرعه. اذا, وكنتيجة منطقية وحتميّة يعتبر استخدام العقل الدواء الناجع لمرض الفكر العنصري هذا ولاحد أهمّ اعراضه وهو "صدام الحضارات".
ادعوا جميع متنوّري العالم وخاصّة العرب والمسامين منهم الى اثبات تنورهم وعقلانيتهم وعدم تحيّزهم. ادعوهم الى حكم صحيح ماأمكن على التاريخ اذا أرادوا مستقبلا أفضل. ادعوهم الى فرز الغثّ من السمين من زحام المصطلحات المشبوهة التي حفل بها حاضرنا, وليتذكروا دوما انّ التاريخ واحد لايتغيّر مهما حاول دعاة الفكر العنصري تجييره لصالحهم وانّ حكمه هو الاصحّ على الدوام مهما طال الزمن.
دعونا - ان كنّا مثقفين ومتنوّرين حقّا - نقتدي بسيرة الرسول محمّد - صلّى الله عليه وسلّم - والخلفاء الراشدين وغيرهم من عقلاء الامّة واليشرية كلّها. دعونا نقتدي بنور الدين وصلاح الدين اللذان ل! نتصرا على العنصرية الصليبية بالعقل والتسامح والرحمة وليس بالرمح والسيف فقط. لنتذكّر دائما أبا ذر الغفاري وابن الحلاّج والمتنبّي الذين قاوموا الطاغوت ونطقوا بوجهه كلمة الحقّ بدون خوف أو وجل. دعونا نقتدي بديكارت الذي قال:" أنا أفكّر اذا أنا موجود" وفرنسيس بيكون صاحب المنهج التجريبي وجان جاك روسّو صاحب "العقد الاجتماعي", ولنضع نصب أعيننا دائما كلام العالم الايطالي غاليليو الذي همس لمساعده بعدما وقّع على وثيقة أمام قوى الجهل والعنصرية يتراجع فيها عن قوله بدوران الارض, اذ قال:" ومع ذلك فهي تدور"....!!

والله أعلم

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

منوعات الفوائد

  • منوعات الفوائد
  • الصفحة الرئيسية