اطبع هذه الصفحة


ضوابط اعتبار استفتاء القلب

السعيد صبحي العيسوي
@esawi_said


بسم الله الرحمن الرحيم

 
لما كانت الأفهام تتفاوت, والعقول تتمايز, وفتوى القلوب تختلف من قلبٍ إلى آخر, دعت الحاجة إلى ضَبْطِ الاستدلال بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (استفت قلبك, وإن أفتاك المفتون), فاحتاج الأمر إلى استخراج معيار فهمه والتعامل معه.
فربَّ راءٍ ما لا يراه غيره, ومستحسنٍ لما يستقبحه آخر, وهذا يجرُّ إلى دعوى التَّناقض والاختلاف في الأحكام, خاصَّة إذا ما نشر المجتهد ما رآه, وحثَّ النَّاس على ما ارتضاه, فإنَّ مثل هذا يوقع الحرج على المكلفين, ويكون مدعاةً لاتباع الهوى, لذا كان لا بدَّ من ضبط ذلك.

ضوابط اعتبار فتوى القلب
[1]:
1-  أنْ يكون عند المستفتي من أصول العلم والفهم, ما يستطيع أن يميِّز به:

ذلك, لأنَّ الميزان والمعيار هو العلم لا الهوى, والعلم هو المحكُّ والاعتبار, كما أنَّ (القلب الذي يستفتيه صاحبه فيفتيه هو مَنْ كان عنده علمٌ. فإنَّه يُكشف له عن الصواب، ولا يتستَّر دونه من الشَّك بجلباب)([2]).
وإذا لم يكن لدى المستفتي لنفسه علم وفهم وتمييز فهو إعمال لهوى النفس, (فإنه معلوم أن النبي r لا يقصد ذلك قطعاً, وقد نهى الله ورسوله أن يتخذ الإنسان النفس أو العقل مشرعين من دون الله)([3]).
وأيضاً (لا نقول على كل قلب، فرُبَّ قلبٍ مُوَسوَسٍ ينفي كل شيء، ورب متساهلٍ يطير إلى كل شيء، فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق لدقائق الأحوال، فهو المحكُّ الذي يُمتحن به حقائق الأمور، وما أعزَّ هذا القلب)([4]).

2- أن يكون عند المستفتِي من الورع عن الوقوع في الشبهات والحرام.

   فإذا لم يكن العبد ورعاً عن اقتراف الحرام أو القرب منه فسيكون متعللاً بأدنى خاطر, متذرعاً بأدنى شبهة يجدها في قلبه.
   وقد أشار أبو العباس القرطبي([5]) -رحمه الله تعالى- إلى هذا, فقال: (لكنَّ هذا إنَّما يصحُّ ممَّن نوَّر الله قلبه بالعلم، وزيَّن جوارحه بالورع، بحيث يجد للشبهة أثراً في قلبه. كما يحكى عن كثير من سلف هذه الأمَّة، كما نقل عنهم في "الحلية" و"صفة الصَّفوة"، وغيرهما من كتب ذلك الشَّأن)([6]).
   وعلَّل ذلك السِّندي([7]) -رحمه الله-: (فإن قلب المؤمن ينظر بنور الله إذا كان قوي الإيمان, وهو المأمور به بهذا البيان)([8]).
   وكلام أبي العباس القرطبي والسِّنديِّ -رحمهما الله تعالى- محمول على القول بعموم الحديث, وإلا فهناك من ذهب إلى القول بكونه واقعة حال تخص وابصة t.
   ومما يُنَبَّه عليه هنا ما ذكره الغزالي -رحمه الله: (فإذا وجد القابض في نفسه شيئاً ممَّا يأخذه فليتق الله فيه, ولا يترخَّص تعللاً بالفتوى من علماء الظاهر؛ فإن لفتواهم قيوداً ومطلقات من الضرورات, وفيها تخمينات واقتحام شبهات, والتَّوقِّي من الشبهات من شِيم ذوي الدِّين, وعادات السالكين لطريق الآخرة)([9]).
   فكلامه يحتمل الصحة إذا حُمل على ما إذا أباح له المفتي بحِلِّ ما يجد السائل فيه حزازة وشكاً من كونه شبهة, فيصح إعمالُه في باب الورع والتقوى -لأنَّ الفتوى غير التَّقوى, كما قال ابن علان -رحمه الله-([10]).
   وهذا ما قصده الباحث بإيراده هنا, وإلا فإن كلام الغزالي قد يكون مُلبساً؛ فإنَّ على الفقيه والمفتي أن يعملا بظاهر ما يجدوا من البيِّنات والدلائل, وأن تُنحَّي التخمينات والظنون جانباً ما وجد إلى ذلك من سبيل.
   وما احتُمل من تصحيحٍ لفهم كلامه -رحمه الله- قد صرَّح هو به في موضع آخر من (الإحياء), حيث يقول: (واستفتاء القلب إنَّما هو حيث أباح المفتي، أمَّا حيث حرَّم فيجب الامتناع)([11]).
   يحذر هنا أيضاً من مسلك صوفي باطني قد يُفهم من كلامه, وهي تقسيم العلماء إلى علماء ظاهر وباطن, فإنَّ أبا طالب المكي لما ذكر هذا الحديث في كتابه المسمى بـ"قوت القلوب" عرَّض بذلك, فقال:
   فأما الجاهل والعامي الغافل فله أن يقلد العلماء, ولعالم عموم أيضاً أن يقلد عالم خصوص, وللعالم بالعلم الظاهر أن يقلد من فوقه ممن جعل على علم باطن من أهل القلوب؛ لأن النَّبي r ردّ من علم الألسنة والفتيا إلى علم القلوب, ولم يردَّ أهل القلوب في علمهم الذين يختصون به إلى المفتين؛ لأنهم يأخذون من المفتين فتياهم, ثم يجدون في قلوبهم حيكاً وحزازة, فيلزمهم فتيا القلب لقوله: "استَفْتِ قَلْبَكَ" بعد قوله: "وإِنْ أَفْتَاكَ المُفْتُون" مع قوله: "الإثْمُ حَزَّازُ القُلُوب" إلى قوله: "ما حَاكَ فِي صَدْرِكَ فَدَعْهُ, وَإِنْ أَفتَوْكَ وَأَفْتَوْك"([12]).
   ونحوه أيضاً ما حكي عن سهل التستري([13]) من قوله: (خرج العلماء والزهاد والعباد من الدنيا وقلوبهم مقفلة ولم تفتح إلا قلوب الصديقين والشهداء ولولا أن إدراك قلب من له قلب بالنور الباطني حاكم على علم الظاهر لما قال المصطفى r: "استَفْتِ قَلْبَكَ"، فكم من معان دقيقة من أسرار القرآن تخطر على قلب المتجرد للذكر والفكر, وتخلو عنها زبر التفاسير ولا يطلع عليها أفاضل المفسرين ولا محققو الفقهاء)([14]).

3- أنَّ الاعتبار بكراهية وإنكار أهل الصلاح لا غيرهم:

ذلك أنَّ النَّبي r قال: "وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" والمراد به هنا: أهل الصَّلاح, وليس من تعودوا رؤية المعاصي بلا إنكار. فإنَّا في الواقع نرى كثيراً من النَّاس من يُطْلِع النَّاس على مآثمه -عياذاً بالله-, إمَّا استهتاراً, وإمَّا فجوراً. ومن النَّاس من لا ينكر على غيره إذا رآه يقترف المعصية أو يجاهر بها. فكان الاعتبار بكراهية وإنكار أهل الإيمان, الذين صحَّت لهم الفطرة, واستقام فهمهم للشريعة.
وقد أشار العلامة ابن دقيق العِيد([15]) -رحمه الله تعالى- إلى هذا بقوله: (والمراد بالنَّاس -والله أعلم- أماثلهم ووجوههم لا غوغاؤهم, فهذا هو الإثم فيتركه)([16]).
وروي في الحديث "أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِي مِنْ اللهِ -عز وجل- كمَا تَسْتَحِي رَجُلاً منْ صَالِحِي قَوْمِكَ"([17]).
 

--------------------------------------------------
[1] مستفاد من دراسة موسعة للكاتب بعنوان: (استفتاء القلب ضوابطه وأثره في الأحكام) رسالة ماجستير, طبع دار كنوز إشبيليا بالرياض.
([2]) الشوكاني, محمد بن علي بن محمد بن عبد الله اليمني, الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني, تحقيق أبي مصعب محمد صبحي بن حسن حلاق, (صنعاء- مكتبة الجيل الجديد), 5/ 2319.
([3]) شاكر, منيب بن محمود, العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي, (الرياض- دار النفائس), (1418هـ-1998م), ص136.
([4]) الغزالي, إحياء علوم الدين, مرجع سابق 5/855.
([5]) هو أحمد بن عمر بن إبراهيم، أبو العباس الأنصاري القرطبي: فقيه مالكي، من رجال الحديث, يعرف بابن المزين. كان مدرساً بالإسكندرية وتوفي بها. ومولده بقرطبة. من مؤلفاته: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم. توفي سنة 656هـ. الأعلام 1/186.
([6]) القرطبي, أبو العباس, أحمد بن عمر بن إبراهيم, المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم, تحقيق جماعة, (دمشق وبيروت- دار الكلم الطيب- دار ابن كثير, 4/492.
([7]) هو محمد بن عبد الهادي التتوي، أبو الحسن، نور الدين السندي: فقيه حنفي عالم بالحديث والتفسير والعربية. أصله من السند ومولده فيها، وتوطن بالمدينة إلى أن توفي. له حاشية على سنن ابن ماجه, وحاشية على سنن أبي داود, وحاشية على صحيح البخاري, وحاشية على مسند الإمام أحمد, وحاشية على صحيح مسلم, وحاشية على سنن النسائي, وحاشية على البيضاوي. وغير ذلك, توفي سنة 1138هـ. الأعلام 6/253.
([8]) نقله الأرناؤوط في تحقيق المسند 29/529.
([9]) الغزالي, إحياء علوم الدِّين, مرجع سابق 3/408.
([10]) ابن علان, الفتوحات الربانية, مرجع سابق 7/352.
([11]) الغزالي, إحياء علوم الدِّين, مرجع سابق, 5/855.
([12]) ينظر: أبو طالب المكي, محمد بن علي بن عطية الحارثي, قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد, تحقيق: د. عاصم إبراهيم الكيالي, (بيروت- دار الكتب العلمية), ط2, 1426 هـ -2005 م. 1/ 274.
([13]) هو سهل بن عبد الله بن يونس التستري، أبو محمد: أحد أئمة الصوفية وعلمائهم والمتكلمين في علوم الإخلاص والرياضيات وعيوب الأفعال. من مؤلفاته: كتاب في تفسير القرآن, كتاب رقائق المحبين وغير ذلك, توفي سنة: 283هـ. ينظر الأعلام 3/143.
([14]) المناوي, عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي القاهري, فيض القدير شرح الجامع الصغير, (مصر- المكتبة التجارية الكبرى), ط1, 1356هـ. 1/495.
([15]) هو محمد بن علي بن وهب بن مطيع، أبو الفتح، تقيّ الدين القشيري، المعروف كأبيه وجده بابن دقيق العيد: قاض، من أكابر العلماء بالأصول، مجتهد. أصل أبيه من منفلوط (بمصر) انتقل إلى قوص، وتعلم بدمشق والإسكندرية ثم بالقاهرة. وولي قضاء الديار المصرية, توفي بالقاهرة سنة: , من مؤلفاته: إحكام الأحكام, وشرح الأربعين النووية. ينظر: الأعلام 6/282-283.
([16]) ابن دقيق العيد, محمد بن علي بن وهب بن مطيع, شرح الأربعين حديثاً النووية, ط. المكتبة الفيصلية- مكة المكرمة. ص73.
([17])  أحمد في "الزهد" ص 46, بسند جيد. انظر: السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني, رحمه الله (8/114), (2/376).
 

منوعات الفوائد