اطبع هذه الصفحة


بحر العلم (( ابن عباس ))

حمدى شفيق


بسم الله الرحمن الرحيم


(1)


كان العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه من الذين يخفون إسلامهم،إذ بقى بمكة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم،ليباشر تجارته الواسعة،والأهم من ذلك ليعرف أخبار المشركين،و ينقلها أولا بأول إلى ابن أخيه عليه السلام فى المدينة المنوّرة .و لم يدع الكفار الفرصة للعباس للتخلّف عن جيشهم فى الغزوة الأولى"بدر"فقد أجبروه على الخروج معهم لقتال ابن أخيه.وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ،فأمر أصحابه بعدم قتل العباس و نفر من المسلمين وغيرهم،لأنهم لم يرغبوا فى القتال ضد النبى،وإنما أكرههم الكفّار على ذلك.وبالفعل وقع العباس أسيرًا بعد إنتصار المسلمين الساحق فى بدر"واقتاده
أحد الصحابة قائلًا له:جزاك الله شرّا من ذى رحم.هل جئت لتقاتل ابن أخيك مع أعدائه؟! ومع هذا فقد أوصانا صلى الله عليه وسلم بألا نقتلك.قال العباس:ليس
هذا بأول برّه وإحسانه.و قد تألم النبى عليه السلام عندما سمع أنين العباس فى الحبس ليلًا،وعرض عليه أصحابه فك قيود عمه،فأبى عليه السلام الا أن يفكوا قيود كل الأسرى وليس عمه وحده.وجاء العم إلى مجلس ابن أخيه يقول له: يارسول الله،إن القوم أخرجونى بالإكراه،وإنى كُنت مسلمًا،لكن نبى العدالة أخبر عمه أنه لا مفر من معاملته بحسب ظاهر الأمر،و هو أنه جاء مُحاربًا فى صفوف المشركين،فلا بد له من دفع الفدية،كغيره من أثرياء الأسرى.كما رفض عليه الصلاة والسلام الاستجابة لرغبة الأنصار فى إطلاق سراح ابن أختهم العباس – جدّته أم أبيه هى سلمى النَجّارية -إبعادًا لشبهة المُحاباة.وأما الفقراء فقد عفا عنهم النبى بلا مقابل،ومن كان يجيد القراءة والكتابة منهم أطلق النبى سراحه، بشرط أن يقوم بتعليم عشرة من المسلمين مبادىء القراءة والكتابة.و حاول العباس التهرّب من دفع الفدية قائلًا،إنه لا يملك المبلغ المطلوب،لفداء نفسه وابن اخيه عقيل بن أبى طالب الذى وقع أسيرًا معه.ابتسم النبى و سأله عن المال الذى أعطاه لامرأته"أم الفضل"بمكة قبل خروجه مع الجيش،وأوصاها إن قُتل فى المعركة أن تقوم بتوزيعه على أولاده،بنصيب حَدّده لكل منهم.وهنا صاح العباس:أشهد أنك رسول الله حقًّا،فوالله ما حضر هذا أو سمعه أحد غيرى وأم الفضل،وإنى لأعلم أنه ما أطلعك على هذا الأمر إلا الله.و قد نزلت اّية كريمة، تطمئن العباس وأمثاله،و تخبرهم أن الله يعلم شأنهم،وسوف يؤتيهم خيرًا مما دفعوه،و يغفر لهم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) سورة الأنفال.وعاد العباس إلى مكة مع عقيل ابن أخيه،بعد اطلاق سراحهما،ليواصل الحياة بها فترة أخرى.ومكث معه بها أولاده ومنهم الصغير"عبد الله" و لم يكن أمامهم سوى الصبر،حتى اقترب فتح مكة،فخرج العباس بأهله وولده،لملاقاة ابن أخيه خارجها ،واستأمنه على أهلها،كما استامنه على أبى سفيان.و لم يُخَيّب النبى عليه السلام ظن عمه وأهل مكة كلها فيه،فقد أصدر عفوًا عامًا عنهم..وكان الفتح العظيم بداية لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الاسلامية.


&&&
- 2 –


نشأ عبد الله بن عباس فى عائلة مُباركة،ولاحظ الجميع نبوغًا مُبَكّرًا فى الصبى الهاشمى.و من ذلك أنه بات ليلة عند خالته ميمونة،أم المؤمنين،زوج النبى صلى الله عليه و سلم،فرأى الرسول يصلى بالليل،فتوضأ ووقف يصلى خلفه..جذبه النبى،ليقف إلى جواره،لكن الصبى أصرّ على التراجع خلفه.و بعد إنتهاء الصلاة سأله عليه السلام عن سبب إصراره على التأخر،فقال عبد الله:وهل يساويك أحد وأنت الرسول الذى بعثك الله،وأنزل عليك القراّن؟ فابتسم النبى و دعا له بالخير.و فى مرة أخرى وجد الرسول وعاء فيه ماء ليتوضأ به،فسأل عمن أعده له،وعندما أخبروه أنه عبد الله ابن عمه العباس،دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا:"اللهم فَقّهه فى الدين وعلّمه التأويل"رواه البخارى وغيره.و هو دعاء شريف للصغير بأن يهبه الله فهمًا فى الدين و تفسير القراّن الكريم.واستجاب الله لنبيه،فأتم عبد الله حفظ القراّن الكريم قبل أن يُكمل العاشرة من عمره.و حبّب الله تعالى اليه طلب العلم،ثم تعليمه و نشره طوال حياته.و يروى علماء السير والتراجم أن العباس أرسل ابنه الصغير عبد الله ذات مرة الى ابن أخيه،فعاد الغلام ليخبر أباه أن النبى مشغول بالحديث مع رجل معه.وعندما جاء العباس ليستطلع الأمر،أخبره الرسول أن الرجل الذى راّه عبد الله عنده هو جبريل -ولم يكن أحد من الناس يرى المَلَك فى أغلب الأحيان،سوى الرسول بالطبع –و بشّر النبى عمه بأن ابنه سوف يكون عالمًا عظيم الشأن،و لكنه سيصاب بالعمى قبل موته..و ربما كان سبب هذا هو النور المُبهر،الذى يشع من كيان جبريل عليه السلام،و لا تحتمله أعين البشر المخلوقة من الطين..وفى رواية أخرى أن جبريل رأى عبد الله بن عباس،فبشّر النبى بأن هذا الصغير سيكون عالم الأمّة،و حامل لواء السُنّة.وقد تحققت كل تلك البشارات فى بضع سنين،إذ تنبّه الصغير المُلهم إلى ضرورة حفظ علوم الإسلام-كالأحاديث الشريفة والفقه وتفسير القراّن الكريم والغزوات- بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم،و عرض رضى الله عنه الفكرة على أحد أصحابه من فتيان الأنصار،قائلًا له:هيا بنا نسأل أصحاب النبى عن أحاديثه،فإنهم اليوم كثير،قبل أن يدركهم الموت،فتخسر الأمّة بموتهم علمًا كثيرًا.لكن الغلام الأنصارى سخر من الفكرة،و قال له:عجبًا لك يا بن عباس!أتظن أن الناس يحتاجون إليك،و فيهم مَنْ ترى مِنَ الصحابة؟! و ما هى الا سنوات حتى أدرك ذلك الأنصارى مدى ذكاء وصواب رأى ابن عباس،عندما راّه يُعلّم الناس،والألوف من طلبة العلم يزدحمون على بابه،فندم على تقصيره،و قال:هذا الفتى الهاشمى كان أعقل منى..و قد أصاب عبد الله العلم بلسان سؤول-كثير السؤال عما لا يعلم-وقلب عقول-أى ذكى-يفهم ما يُلقى اليه من ألوان العلوم النافعة،و يجتهد فى حفظها،فكان يتردّد على بيوت الصحابة،و ينتظر على أبوابهم بصبر.و كثيرا ما هبت عليه الرياح والعواصف الترابية،و لفحته حرارة الشمس الملتهبة،فكان يصبر و لا ينصرف،حتى يخرج صاحب البيت فيراه فيأسف،و يقول له:مرحبا بابن عم رسول الله،لو علمت أنك تريدنى لجئت أنا إليك فى بيتك،فيرد عليه ابن عباس بأدب طالب العلم:"لا..أنت أحق بالمجىء إليك"لأن ابن عباس هو الباحث عن أحاديث النبى وسنّته و سيرته،و هو-فى سعيه لبلوغ غايته-لا يريد أن يزعج الصحابى،أو أن يقطع عليه وقت راحته،حتى تطيب نفسه ببذل ما عنده من العلم.كما أنه يُطبّق أيضا قاعدة هامة،هى أن التلميذ هو الذى يجب عليه الذهاب الى أستاذه ومُعلّمه،و ليس العكس.و قد كان رضى الله عنه يسأل عن الحديث أو المسألة الواحدة أكثر من ثلاثين من أصحاب رسول الله،صلى الله عليه وسلم،للتأكد من صحة الحديث،والإطلاع على كافة آرائهم.رضى الله عنهم.


&&&
- 3 -


سرعان ما اشتهر الفتى الهاشمى بغزارة العلم وتمام الفهم،وأقبل عليه الراغبون فى تعلّم الحكمة من القراّن والسنّة.قال أحد من حضروا مجالس العلم:رأيت ابن عباس قام مقامًا تفخر به العرب-لو شاءت-على الناس أجمعين.فقد اجتمع ألوف من طُلّاب الحديث،حتى ضاقت بهم دار ابن عباس والشوارع المجاورة،فتوضأ رضى الله عنه،وأخذ يجيب على كل ما سألوا عنه،حتى فرغوا،فزادهم من عنده أحاديث كثيرة لم يسألوا عنها،إلى أن اكتفوا،فقال لهم:أفسحوا لإخوانكم.فانصرف هؤلاء،و جاء اليه ألوف غيرهم يسألون عن تفسير الكتاب الحكيم،فأجاب على كل أسئلتهم،و زادهم أضعافها،ثم قال لهم:افسحوا لإخوانكم،فدخل عليه ألوف غيرهم يتعلّمون الفقه والفرائض-المواريث-فأفتاهم فى كل ما أرادوا،و زادهم أضعافه،ثم انصرفوا،فدخل من يريدون السؤال عن السيرة وغزوات الرسول،فأجابهم،و زادهم من عنده أضعاف ما سألوا،ثم فرغ منهم،فدعا من يُريدون السؤال عن اللغة والشعر و تاريخ العرب،فأجاب على كل أسئلتهم وزادهم من عنده أضعافا كثيرة.يقول الراوى:فلو أن العرب كلها فخرت بابن عباس لكان لها كل الفخر،فما رأيت هذا لأحد من الناس من قبل أو من بعد،سوى النبى صلى الله عليه وسلم.وقال شقيق -أحد تلاميذه-ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله،و لو سمعته فارس والروم والترك،لدخلوا فى الإسلام .وقال معاوية بن أبى سفيان لعكرمة غلام ابن عباس:مولاك والله أفقه-أعلم-من مات و من عاش.وكانوا يسمونه:تُرجمان القراّن،لأنه كان أعلم الناس بالتفسير،وأسباب نزول الاّيات،وأحكام الكتاب الكريم.و كانوا يسمونه الحَبْر والبحر،لكثرة علمه وإحاطته بكل ألوان المعرفة،على نحو لم يجتمع مثله فى عقل و قلب رجل واحد،بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.و قال سعد بن أبى وقاص،رضى الله عنه،أنه لم ير أكثر علما و لا أعقل و لا أحلم من ابن عباس.و قد بلغ من إعجاب عمر بن الخطاب،رضى الله عنه،بابن عباس أنه كان يجلسه معه،وهو أمير المؤمنين،رغم صغر سنه ـوكان يستشيره فى الأمور الصعبة،و حوله كبار الصحابة من أهل بدر.وضاق بعضهم بهذا فسألوه:لماذا تجلس هذا الفتى الصغير معنا،و لنا أولاد أكبر منه؟ ورد عليهم الفاروق رضى الله عنهم بطريقة عملية ذكية،فاستدعى ابن عباس وسألهم جميعا عن تفسير سورة النصر:"اذا جاء نصر الله والفتح" فأجاب بعضهم بأنها إخبار من الله بأن المسلمين سوف ينتصرون و يأتيهم الفتح.ووجّه عمر السؤال إلى ابن عباس عن ذات السورة،ليريهم علمه وفهمه،فأجاب ابن عباس بأن السورة أخبرت بقرب أجل-موت-الرسول صلى الله عليه وسلم، فابتسم عمر سعيدًا بذكاء و سعة علم الغلام ،وقال:والله ما أعلم عن تفسير هذه السورة إلا ما قال ابن عباس.وكان أمير المؤمنين يستفتيه –يطلب منه الرأى-رغم كثرة علم الفاروق،ووجود كبار الصحابة معه ،ثم لا يعمل الا برأى ابن عباس،و لو خالفهم. ويروى ابن عباس أنه ناقش عدة فتاوى مع خمسمائة من الصحابة –بكل أدب ورفق -وظل يعرض عليهم من الأدلة والحجج ما أقنعهم برأيه،رغم أن معظمهم فى عمر أبيه.ولاحظ العباس رضى الله عنه محبة عمر لولده فنصحه قائلًا: يا بنى،إنى أرى عمر يحبك ويجلسك معه،فاحفظ عنى ثلاثة أمور:لا يُجَرّبَنّ عليك كذبًا،و لا تُفْشِيَنّ له سِرًّا، ولا تَغْتَابَنّ عنده أحدًا.والنصائح الثلاث أغلى من الذهب،فلا دوام للصداقة مع الكذب،أو إفشاء الأسرار،أو الغيبة أو النميمة.


&&&
(4)


و قد عاش ابن عباس عمرَا طويلًا مُباركًا،ملأ الأرض خلاله علمًا وفقهًا.فقد تنقّل ما بين مكة و المدينة والطائف..كما شارك فى فتح مصر والشمال الأفريقى،و كان مع على بن أبى طالب فى الكُوفة،و هدى الله به ألوف الخوارج،بعد مناظرات مثيرة أقنعهم فيها ببطلان موقفهم..ثم بعثه علىّ واليًا على البصرة،فسعد به أهلها عالمًا و حاكمًا عادلًا..و فى عهد معاوية كان ابن عباس جنديًّا فى أول جيش غزا القسطنطينية،و بذلك طاف مدن الشام أيضًا،فانتشر علمه و فقهه فى كل بلاد الإسلام..و شملت إنجازاته العلمية تفسير كتاب الله الكريم كُله،كما روى أكثر من ألف وستمائة حديث من أحاديث النبى،عليه الصلاة والسلام،وأفتى فى آلاف المسائل الفقهية،و تتلمذ على يديه،و اغترف من بحر علمه ملايين من علماء المسلمين،جيلا بعد جيل،رضى الله عنهم أجمعين..وبعد حياة طويلة حافلة بالعلم والعبادة والجهاد،مات بحر العلم رضى الله عنه،واحتشد مئات الألوف فى جنازته بمدينة الطائف.وبينما كانوا يضعون الجسد الطاهر فى قبره،شاهدوا الحاضرون طائرًا أبيض،لم يُر مثله فى الجمال والبهاء،يهبط ليدخل قبر الولىّ عالم الأمة،و يحتضنه فى كفنه.كما تحقّقت كرامة أخرى ثابتة لابن عباس لحظة دفنه،فقد سمعوا صوتًا،لا يرون صاحبه،يتلو قول الله تعالى : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) سورة الفجر:27-30

*راجع ترجمة ابن عباس فى"سير أعلام النبلاء"للإمام الذهبى..و"البداية والنهاية"للإمام ابن كثير..و "حلية الأولياء"لأبى نعيم..و"تاريخ الأمم والممالك"للإمام الطبرى..و"الطبقات الكبرى"لابن سعد.
رضى الله عن الجميع.

 


 

منوعات الفوائد