اطبع هذه الصفحة


أحماض أدبية
الصَّيد الثّمين في آفة التّدخين

د.أحمد عطية السّعودي


جاء في الأغاني لأبي فرج الأصفهاني عن خلف الأحمر(1) علامة البصرة وراوية اللُّغة أنه قَال: بينما كنتُ في البادية أجمع الأخبار والأشعار من أفواه الأعراب لقيتُ ثلاثة شُبّان يستاكون بأعواد الأرائك فقلْتُ : لأعدلنَّ إلى هؤلاء فلن أخلو لديهم من أعجوبة . فلما دنوت منهم تبينتُ أنّها ليستْ بمساويك،وإنمّا هي لفائف منظومة الأسافل والسّنابل،يدخلونها في أفواههم، ويُخرجون دخانها من أنوفهم،فتعجّبْتُ من صنيعهم،وقلْتُ لهم: ما هذا الذي تفعلون بأنفسكم، وأنتم في ميعة الشّباب وعمر الزُّهور ؟!
قَال أحدهم واسمه حمَّاد عجرد(2) : ندخّن السّيجار يا أخا العرب!
قلْتُ : ويلكم ماذا تقولون ؟ أتريدون الانتحار أيّها الفجّار ؟!
قَال : بل نتسلّى ونتجلّى ونتحلّى،ونُذهب ما اعترانا من همّ بهذا السُّم !
قلْتُ : ومن هذا الشّقي الذي أغراكم بالتدخين وأفسد فيكم سليقة البداوة ؟!
قَال : هو نزار قباني شاعر الفستان والكعب العالي ! فإنه قد نفث في أجوافنا أن المحبوبة مولعة بالمدخن راغبة في حبه،ولو كان فمه كالكير(3) !
قلْتُ : أفتُمِلُّ عليّ شيئاً من تلك الأشعار لصاحبك نزار ؟!
قَال : أجل . قَال صاحبي على لسان امرأة بائعة الهوى ضائعة المبدأ عاشقة السّيجارة :
رجلٌ في لحظةِ تدخينِ فاستثمرْ ضعفي وجنوني تستقبلُ أول تشرينِ واصلْ تدخينك.. يُغريني هي نقطةُ ضعفي.. كامرأةٍ ما أشهى تَبغَكَ..والدّنيا
قلْتُ:ليس هذا من كلام العرب الأقحاح ، وإنما هو كلام سخيف ركيك من عمل التّلاميذ المراهقين لا يستحق التّدوين،وإنّه ليكاد يزكم أنفي برائحة التّدخين !
قَال: ما هو بسخيف ولا هابط إلا عندكم أهلَ اللّغة والدّين !
قلْتُ: ألا ترى إلى ركاكته في قوله:نقطة ضعفي، وقوله : كامرأة ، فما موقع الكاف هنا ؟
قَال: منصوبة على الاشتعال، وهي كاف الانفجار التي أودتْ بحياة زوجته بلقيس مدمنة السّيجار !
قلْتُ : فهل رثاها كما رثى جرير زوجته أم حَزْرة بقوله :
ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ ومع الجمالِ سكينةٌ ووقارُ والصّالحونَ عليكِ والأبرارُ لولاء الحياءُ لعادني استعبارُ ولقد أراكِ كُسيتِ أجملَ منظرٍ صلى الملائكةُ الّذين تُخُيِّروا
قَال : بل رثها مُتَحسّراً على شبابها مستذكراً زجاجتها وسيجارتها فقَال:
بلقيسُ . .
أين زجاجةُ (الغيرلان) ؟
والولاعة الزرقاءُ
أين سيجارة ال (الكَنت ) التي ما فارقت شفتيك ؟1
قلْتُ : من هذان الغيرلان والكَنت يا عجرد ؟
قَال : هذان شيطانان كانا يحرسان شفتي بلقيس من الذكر والاستغفار !
قلْتُ : وهذا القول أسخف من سابقة،فالعربي الحُرّ الشّهم لا ينعت الحليلة بالعربدة ومعاقرة الخمرة،وتعاطي الدّخان،وإنما ينعتها بطيب الشّمائل وكريم الفضائل،ولو كان الشّاعر صعلوكاً جاهلياً كالشّنفرى فإنّك سامع منه ما يُعلي المرأة من خِصال حسنة وذوق رفيع وفِعال حميدة:
إذا مـا مشتْ ولا بذاتِ تلفُّتِ إذا ذُكر النسوانُ عفّت وجلّتِ لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعُها سيأميمة لا يُخزي نثاها حليلها
قَال : يا أخا العرب، ليس لديّ وقت للمناقشة ، ولا يُنبئك مثل أبي عمرو الشّيباني(4)!
قلْتُ : لا أبرح حتى آتي شيخي أبا عمرو الشّيباني،فانطلقت إليه، فسألته عمَّا سمعتُ من الشّبان المُجَّان.
فقَال : إنهم والله مخدعون بهذا الدّاء الذي جلبه المستر جان نيكوت !
قلْتُ : وما حكاية هذا المستر الجان يا أبا عمرو ؟!
قَال : إنه الفرنسي الذي أغرى الإسبان بالتبغ والدّخان،فنُسب إليه مادة النيكوتين،وهي في الضّرر أحدّ من السّكين،فتلقفها الخلعاء الثلاثة:حمَّاد عجرد،ومطيع بن إياس،وصالح بن عبد القدوس(5)،فآذوا النّاس بروائحهم ودخانهم في المنتديات والبيمارستانات والحافلات والسّاحات،ثم عدوا على البادية يلوثون هواءها،ويكدّرون صفاءها !
قلْتُ : فما بلغ من منافعه حتى شُغفوا به،وصار ليلاهم، ونديم هواهم ؟!
قَال : عدّ منافعه على أصابعك يا أبا مُحْرز :
فقد زعم الطبيب ابن بطلان(6) أن منافع الدخان كثيرة لا تحصى كرمال الصحراء وأنها: سُعال عالٍ يطرد اللصوص،وصفرة في الأسنان تجلب السّوس، وتقليد زائف يمحق الفلوس،وأنّ أنْفَسَ صيد التدخين : جلطة الدّماغ،وتصلّب الشّرايين،وسرطان الرئة،والجناية على الصّحة!وكلّ الصّيد في جوف المدخن والعلبة !
قلْتُ : هذا والله الانتحار البطيء،ألهذا الداء ضحايا وقتلى يا أبا عمرو ؟!
قَال : زعم ابن بطلان أن ليس له ضحايا إلا مائتين وخمسين ألف ألف نسمة فقط !وانه ينصح الأمهات الراغبات في تشويه جمالهنّ وتسميم أجنتهنّ بالإكثار من الدّخان قبل فوات الأوان ، وأنّه للعرائس حرزٌ مكين يُطيب الفم،ويُعطر الكُم،ويزيل مع الأرجيلة الهمّ بسحب النّفَس واللّثم، وتغدو إحداهنّ مضمخمة الأردان تزهو على هريرة الأعشى ألف مرة:
إذا تقوم يضوعُ المسكُ أصورةً والزّنبق الورد من أردانها شَمِلُ !
قلْتُ : ما الأرجيلة ؟! أهي السّعلاة التي تزوجها عمرو بن يربوع الذي قيل فيه :
يا قاتلَ اللهُ بني السّعلاةِ *** عمرو بن يربوع شرارُ النات(7) ؟!
قَال : نعم كان إذا لقيها يخزّن القات ، ويقضي معها أحلى الأوقات !
قلْتُ : عجباً لك يا أبا عمرو تحفظ الغريب و النوادر ، وتعرف الطب و الحجارة الكريمة كالزبرجد و القات ؟
قَال : هداك المولى يا أبا محرز ليس القات حجارة كريمة ، و إنما هو نبتة مفترة مخدرة تخزن في جانب الفم في المقيل و التفرطة(8) !
قلْتُ : وهو بالطبع كالدخان يخلو من الآفات في زعم ابن بطلان !
قَال : أنشدك فيه شعراً و لا تخبر أحداً من أهل اليمن ، لأنهم إن علموا به ظنوا أنني أنتقص شايهم المفضل وذهبهم الأخضر ، و للنّاس فيما يعشقون مذاهب :
فانظر إلى إدمانِ مضــــــغِ القاتِ ويعرضُ الأعصابَ للصدماتِ ويُذيقها كأسَ الشّقاءِ العاتي ويُذيبُ كلَّ عزيمةٍ وثباتِ أبصرتَ فيها صفرةَ الأمواتِ (9) إنْ رمتَ تعـــرفُ آفة الآفــــاتِ ينســــابُ في الأحشــاءِ داءً فاتكاً يذرُ العقولَ تتيهُ في أوهامها ويميتُ في روح الشّباب طموحَه فإذا نظرتَ إلى وجوه هواتِهِ
قلْتُ : فمن قائل الأبيات ؟
قَال : الكاتب الفرنسي بلزاك(10) عدوّ التدخين والقات ، وعربها فكتور هوغو(11) !
قلْتُ : سلمت يا أبا عمرو فالمغزى في بطن الشاعر ، وهو يعني الذين يمضغون العلكة في عهد لويس الماضغ عشر !
قال :هل أملى عليك حماد عجرد ما قيل في الدخان مُذ عهد الإسبان إلى عهد فرانسوا ميتران ؟
قَال : هل أملى عليّ إلا كلاماً لصاحبه نزار يمَضّ الأذن أن تسمعه ، وتقتحمه العين إمّا أبصرته !
هاتِ ما عندك يا أبا عمرو .
قَال : قاتل اللهُ حمَّادَ عجرد ، فقد أحلَّ الدخان ، وتغنى به في كلّ مكان فقَال :
عديم الذّوق بالحيْوان ملحقْ ومن أبدى الخلاف فقد تزندقْ(12) جهولٌ منكر الدخان أحمقْ مباحٌ ما به شيءٌ حرامٌ
وقد سمعت أعرابياً في سوق المربد ينشد وهو يمزّق علبة سجائره :
وقَال برأيه القول الملفقْ وحاد عن الصواب وما يوفقْ له من جاهلٍ –لاشك- أحمقْ(13) ألا قل للذي في العلم حققْ أباح إلى الورى الدخان جهلاً أينكر فعله في الصّدر أُفٍ
قلْتُ : يا أبا عمرو ،لو زارك حمَّاد أو نزار وهو يشعل " الغليون " فما أنت صانع به ؟!
قَال: أخرج أهلي من الدار ، وأغسلها سبعاً بالشامبو ، وأقف متحسراً وأدعو:
يا دار ما فعلت بك الأيام *** ضامتك والأيام ليس تضام
ثم أحرق قميصه بجمرة سيجارته لعله يرعوي أو يقلع عن غيه وجهله !
قلْتُ:
ما يبلغُ الجاهلُ من نفسهِ حتى يُوارى في ثرى رمسهِك العودِ يُسقى الماءَ في غرسهِ من بعد ما أبصرتَ منْ يبسهِ لا يبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ والشيخُ لا يتركُ أخلاقَهُ وإنّ مَنْ أدّبته في الصّبا حتى تراه مُورقاً ناضراً

قَال: هذه أبيات صالح بن عبد القدوس ،وقد صدقك وهو كذوب ، وخير منها ما أنشدنيه في التدخين ابن معبد الأمين(14) قَال:
خطيراً فاق في الإضرارِ خمْرا و يُلقي في نياطِ القلب جمرا يرومُ بشربهِ كبراً وفخرا ويملكُ قلبه قيْداً وأسْرا يُصابُ بعلةٍ فيضيقُ صدراً ويحني من هُزالِ الجسمِ ظهرا ليرجوه لهذا العُسْرِ يُسْرا فصار رصيدُهُ في الحالِ صفْرا أرى سوءَ التصرفِ في اعتيادٍ هو التدخينُ يفتكُ بالحنايا ويبدأه الفتى في نوعِ زهوٍ فيسري في الدّما يوماً فيوماً وكلُّ مدخنٍ لا بدَّ يوماً فيَسْعُلُ طولَ ليلٍ مع نهارٍ ويُهرع للطبيب بدون جَدوى وتلقاهُ وقد أذرى نُقوداً
قلْتُ: والله يا أبا عمرو ،قد ذكّرتني بآبائنا الأوائل الأصحاء في عهد عمر وهارون وطارق وصلاح الدّين الذين بنوا بقوتهم الإيمانية والبدنية أروع حضارة شهدتها البشرية .
فقاطعني قائلاً : أُولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ !
قلْتُ : أما حالنا فكما وصف القائل:
أسأنا في ديارهم الصّنيعا بناةُ السّوءِ أوشكَ أنْ يضيعا ورثنا المجدَ عن آباءِ صدقٍ إذا المجدُ الرفيعُ توارثتْهُ
قَال: لا تحزن يا أبا محرز ، على المدخنين الذين يحرقون أنفسهم ، ويبددون طاقاتهم ، وهم لا يشعرون ،فقد صنفت لهم رسالة على هامش كتاب ابن بطلان " دعوة الأطباء " جعلتُ غُرّتها :
" الصَّيد الثَّمين في آفةِ التَّدخين "

--------------------------
الهوامش:
(1) خلف الأحمر: أبو محرز،خلف بن حيان من علماء البصرة في اللغة والنحو والشعر القديم،من تلاميذه الأصمعي وابن سلام وأبو نُواس ت 180هـ __796م .
(2) حماد عجرد : شاعر عباسي خليع متهم بالزندقة قتل سنة 161هـ .
(3) الكير: جهاز من جلد أو نحوه يستخدمه الحداد للنفخ في النار لإشعالها ( ج ) أكيار وكيرة .
(4) أبو عمرو الشيباني : اسحق بن مرار ،في طليعة علماء الكوفة ،برع في اللّغة ورواية الشّعر : له " الجيم "في اللغة
و " النّوادر " . عاش مائة سنة ( 94_205 ) هـ
(5) مطيع بن إياس:شاعر خليع ماجن صديق حمّاد عجرد ت 169 هـ .
صالح بن عبد القدوس: شاعر زنديق مانويّ قتله الرشيد وصلبه على الجسر .
(6) ابن بطلان:
أبو الحسن المختار بن بطلان،طبيب بغداديّ له كتاب" دعوة الأطباء" على مذهب كليلة ودمنة مسبوك في قالب فكاهي يجمع الجدّ والهزل والحكم والوصايا ت 458 هـ – 1066م.
(7) السِّعلاة :الغُول (ج) السَّعالي .النّات :الناس .
(8) المقيل: جلسة القات وقت القيلولة . التفرطة :جلسة النساء التي ينفرط فيها عقد الوقت.
(9) هذه الأبيات في كتاب "الخمر وسائر المسكرات" لأحمد بن حجر آل بوطامي ود. حجر بن أحمد ط7 /1402_1981 ص168.
(10) بَلْزاك: دو بلزاك كاتب وروائي فرنسي (1799م _ 1850م) قال عن التدخين:"التبغ ولا شك سمّ تاقع فطالما أغرقني في الكسل وحلّل إرادتي وأمات في نفسي الرغبة في العمل"!
(11) فكتور هوغو:أديب فرنسي له رواية البؤساء عاش بين (1802 _ 1885م) قال عن التدخين:" إنّه يُحوّل الأفكار إلى خيالات وأحلام،والفكر وليد طلق الذكاء،أمّا الخيالات فمغرقة في الكسل" !
(12)،(13) :هذه الأبيات في كتاب"سمير المؤمنين" لعبد الكريم عكاش ، ط1/1411-1991م ص283.
(14) هو الأستاذ الشيخ إسماعيل صالح معبد مؤلف كتاب"نظم البيان في معاني القرآن" والقصيدة ص 77/78.

انتهى

 

منوعات الفوائد