[ ومن أعظم المحرمات وأشنع المفاسد إشاعة عثراتهم والقدح فيهم في غلطاتهم ،
وأقبح من هذا وأقبح إهدار محاسنهم عند وجود شيء من ذلك ، وربما يكون – وهو
الواقع كثيراً – أن الغلطات التي صدرت منهم لهم فيها تأويل سائغ ولهم
اجتهادهم فيه ، معذورون والقادح فيهم غير معذور ؛ وبهذا وأشباهه يظهر لك
الفرق بين أهل العلم الناصحين والمنتسبين للعلم من أهل البغي والحسد
والمعتدين ، فإن أهل العلم الحقيقي قصدهم التعاون على البر والتقوى ، والسعي
في إعانة بعضهم بعضاً في كل ما عاد إلى هذا الأمر ، وستر عورات المسلمين وعدم
إشاعة غلطاتهم والحرص على تنبيههم بكل ممكن من الوسائل النافعة ، والذب عن
أعراض أهل العلم والدين ، و لا ريب أن هذا من أفضل القُرُبات ، ثم لو فرض أن
ما أخطأوا أو عثروا ليس لهم تأويل و لا عذر ، لم يكن من الحق والإنصاف أن
تُهدر المحاسن وتُمحى حقوقهم الواجبة بهذا الشيء اليسير ، كما هو دأب أهل
البغي والعدوان ، فإن هذا ضرره كبير وفساده مستطير ، أي عالم لم يخطئ وأي
حكيم لم يعثر ؟ ] [الثقافة 1/436]
مثال :
يعجبني ما وقع لبعض أهل العلم وهو انه
كتب له إنسان من أهل العلم والدين ينتقده انتقاداً حاراً في بعض المسائل ،
ويزعم أنه مخطئ فيها حتى إنه قدح في قصده ونيته ، وادعى انه يدين الله ببغضه
بناءً على توهم من خطئه ، فأجاب المكتوب له :
يا أخي إنك إذا تركت ما يجب عليك من
المودة الدينية ، وسلكت ما يحرم عليك من اتهام أخيك بالقصد السيء على فرض أنه
أخطأ ، وتجنبت الدعوة إلى الله بالحكمة في مثل هذه الأمور ، فإني أخبرك قبل
الشروع في جوابي لك عما انتقدتني عليه : بأني لا أترك ما يجب عليَّ من
الإقامة على مودتك ، والاستمرار على محبتك المبنية على ما أعرفه من دينك
انتصاراً لنفسي ، بل أزيد على ذلك بإقامة العذر لك في قدحك في أخيك ، بأن
الدافع لك على ذلك قصدٌ حسن ، لكن لم يصحبه علم يصححه ، و لا معرفة تبين
مرتبته ، و لا ورع صحيح يوقف العبد عند حده الذي أوجبه الشارع عليه 0 فلحسن
قصدك عفوتُ لك عما كان منك لي من الاتهام بالقصد السيء ، فهب أن الصواب معك
يقيناً ، فهل خطأ الإنسان عنوانٌ على سوء قصده ، فلو كان الأمر كذلك ، لوجب
رمي جميع علماء الأمة بالقصود السيئة ، فهل سلم أحد من الخطأ ؟! وهل هذا الذي
تجرأت عليه إلا مخالف لما أجمع عليه المسلمون من أنه لا يحل رمي المسلم
بالقصد السيء إذا أخطأ ، والله تعالى قد عفا عن خطأ المؤمنين في الأقوال
والأفعال ، وجميع الأحوال 0 ثم نقول : هب أنه جاز للإنسان القدح في إرادة من
دلت القرائن والعلامات على قصده السيء ، أفيحل القدحُ فيمن عندك من الأدلة
الكثيرة على حسن قصده ، وبعده عن إرادة السوء ما لا يسوغ لك أن تتوهم فيه
شيئا بما رميته به ، وإن الله أمر المؤمنين أن يظنوا بإخوانهم خيراً إذا قيل
فيهم خلافُ ما يقتضيه الإيمان ، فقال تعالى (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا
هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ) سورة النور .
واعلم أن هذه المقدمة ليس الغرض منها مقابلتك بما قلت ، فإني كما أشرت لك :
قد عفوت عن حقي إن كان لي حق ، ولكن الغرض النصيحة ، وبيان موقع هذا الاتهام
من العقل والدين والمروءة الإنسانية .
[ الفتاوى :47]
مجتنى
الفوائد الدعوية والتربوية
إعداد محمد بن عبدالله الوائلي