للدعاء هيبته .. وللمجاهد في دعائه ومناشدته ربَّه سنده وقوته .. يتقرب إلى
ربه ، ويثّبت صحبه ، ويفاصل عدوه . والمتأمل في السيرة النبوية يستوقفه شأن
الدعاء واهتمام صاحبها عليه الصلاة والسلام بهذه العبادة العظيمة في غزواته
ودعوته وجهاده وكافة أموره ، ولأننا نستلهم الدروس من الغزوات النبوية يهمنا
أن نسلّط الضوء على أمر الدعاء في الجهاد
ها هو الإمام الشافعي رحمه الله يرسل تحذيراً من الاستهانة بأمر الدعاء في
بيتين شهيرين
أتهزأُ بالدعـاء وتزدريــه *** وما تدري بما فعل الدعـاءُ
سهام الليل لا تخطئ ولكن *** لها أجلٌ وللأجل القضـاءُ
هكذا يستحثك بأن تحمل هم الدعاء ، وتُخلص مناجاتك لله ، وكأنه يواصل ما
أرشدنا إليه أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه في حكمته البصيرة
لما قال :(إني لا أحمل هم الإجابة ولكني أحمل هم الدعاء).
فالتوفيق في الدعاء هو
الإخلاص فيه ، وحسن المناجاة ولذتها والالتزام بشروط الدعاء وآدابه
وقد اهتم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بشأن الدعاء في الكثير من غزواته
وكافة أموره ، وقد ذكر القرآن الكريم جانباً من ذلك فقال تعالى : { إذ
تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} ، وأوضح ابن عباس رضي الله عنهما تلك الاستغاثة الربانية فقال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر(اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم
إن شئت لم تُعبد ) ، فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك . فخرج وهو يقول : {
سيهزم الجمع ويولون الدبر } . رواه البخاري في المغازي
هكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم في غزواته : اجتهاد في الدعاء ، وابتهال
إلى الله ، تثبيتاً لقلوب أصحابه قبل احتدام الوغى ، وشفقة عليهم وهم يتأهبون
لدخول المعركة ، وخوفاً على مسيرة الدعوة وهي في مراحلها الأولى من التأخير
والانهزام ، لذلك نبهنا الإمام الخطابي رحمه الله إلى أنه : ( لا يجوز أن
يتوهم أحدٌ أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك
الحال ، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية
قلوبهم لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن
نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أنه وسيلة مستجابة ) (7 \ 289). فتح
الباري
أفلا يكون ذلك الإلحاح في الدعاء والابتهال صفةً لازمة لأهل التوحيد
والجهاد وهم يكفرون بالطاغوت ، ويشهدون مشاهد العزة والمجد
قال السهيلي :
( سبب شدة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ونصبه في الدعاء
لأنه رأى الملائكة تنصب في القتال والأنصار يخوضون غمار الموت ، والجهاد تارة
يكون بالسلاح وتارة بالدعاء). (7 \ 289) فتح الباري
وهاهو الرسول القائد صلى الله عليه وسلم يبتهل إلى الله في (غزوة الأحزاب)
يدعو على المشركين : (اللهم مُنزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ،
اهزمهم وزلزلهم ) رواه البخاري عن ابن أبى أوفى
وروي أنه قال قبل التهيؤ لفتح مكة :
( اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش
حتى نبغتها في بلادها ) كما في رواية الطبراني
وكأنه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا (قنوت النوازل) و(دعاء المفاصلة) في
خشوع يبلّغنا الصبر واليقين
وقد يكون الدعاء في الجهاد نشيداً ورجزاً يجلجل في الآفاق، كما كان في حفر
الخندق
اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينـا
فأنزلنّ سكينـة علينـا *** وثبت الأقدام إن لاقينـا
مراعاةً لعامل الحماسة ، وتحريضاً للمؤمنين على الصبر والثبات ، وكان صلى
الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً بأصحابه في تلك الغزوة ، لما رأى ما بهم من
النصب والجوع قال داعياً ومرتجزاً
اللهم إن العيش عيشُ الآخرة *** فاغفر للأنصـار والمهاجرة
فيجيبونه
نحن الـذين بايعوا محمدا *** على الجهـاد ما بقينا أبـدا
وما أجمل ما كان يرتجز به (عبد الله بن رواحة) رضي الله عنه في عزة وإيمان
عندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء
يـا رب إني مؤمن بقيلـهِ *** إني رأيت الحق في قبولـهِ
وقد يكون الدعاء في الجهاد تكبيراًً وتهليلاً : فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر
على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له
، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ، آيبون تائبون عابدون لربِّنا
حامدون ، صدق الله وعده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده) رواه البخاري في
الدعوات
فلا يفتر المجاهد عن ذكر الله ودعائه حتى بعد فراغه من جهاده وقفوله من
غزوته{ فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب } الآية
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم في الجهـاد ( اللهم أنت عضدي ، ونصيري ،
بك أحولُ وبك أصول وبك أقاتل ) رواه أبو داود والترمذي
قال الخطابي : أحول يعني أحتال
وقد يكون دعاء المجاهدين شعاراً يحمل بشائر العزة والنصر ( حم لا ينصرون )
- أمت منصور الدعاء قوةٌ وصفاءً
إن لعبادة التضرع والدعاء في الجهاد فضلها وثمارها اليانعة فهي
/
اولاً : سببٌ للثبات والنصر
قال الله تعالى { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً
وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله .. }الآية
وقال تبارك وتعالى { وكأين من نبي قاتل معه ربيّون كثير فما وهنوا لما
أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين # وما كان
قولَهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا
وانصرنا على القوم الكافرين # فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة
والله يحب المحسنين } آل عمران
ثانيا: موطنٌ من مواطن الإجابة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثنتان لا تُردَّان أو قلَّما
تُردان : الدعاء عند النداء ، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً) قال النووي
في رياض الصالحين : رواه أبو داود بإسناد صحيح
وقال : ( الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر، وفد الله : دعاهم فأجابوه
، وسألوه فأعطاهم ) . رواه ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع
ثالثاً : تربيةٌ على الإخلاص
فعندما يرفع المؤمن المجاهد أكفَّ الضراعة سائلاً ربه النصر والتوفيق تصفو
سريرته ، وتخبو دواعي السمعة والرياء في عمله وجهاده .. وتتربى نفسه على
التعلق بالله وقصده في الشدة والرخاء ، وهي تربية سار عليها الأنبياء والرسل
عليهم السلام من قبل { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً
وكانوا لنا خاشعين } الآية
رابعاً: نُصرةٌ للمظلوم
حين يشكو إلى الله ظِلامته ، ويجأر إليه في محنته ، ويتضرع إليه في قنوته
ودعوته ، فتخشع له القلوب وتفتح أبواب السماء لإجابة الداعي الذي ليس بينه
وبين الله حجاب ، ويزلزل عروش الطواغيت حين يدعو بما كان يدعو به الزاهد (
سُريف بن ميمون ) : اللهم قد حُكم في أبشار المسلمين أهل الذمة ، وتولى
القيام بأمورهم فاسق كل محِلة اللهم وقد استحصد زرع الباطل ، وبلغ نهايته ،
واجتمع طريده ، اللهم فأتِحْ له يداً من الحق حاصدةً ، تُبدّد شمله وتفرق
أمره ، ليظهر الحق في أحسن صُوره ، وأتمَّ نوره) (1 \ 76). عيون الأخبار لابن
قتيبة
وليست شكايته بمعزل عن الجهاد وحمل السلاح
فليس تنفع مظلوماً شكايته *** إن لم يجالد بسيفٍ صارمٍ خذم
وفي دعاء (الطائف) تعليم للمظلومين والمستضعفين من أبناء الإسلام
المهاجرين والمطاردين كيف يكون التضرع والدعاء عند ضعف الحيلة ونزول البلاء
ويهز المجاهد آفاق الدنيا حين يدعو بما كان يدعو به نبي الله صلى الله
عليه وسلم يوم أُحد لما انكفأ المشركون:( اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون
رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك ) .الحديث
خامساً : تربيةٌ على التوحيد
وذلك عندما يبوح العبد المجاهد بسره ونجواه لربه في دعائه ولا يسأل أحداً
سواه ، ولا يداهن مخلوقاً لطلب تأييده ونصرته أو يتحالف مع أعداء الدين لرفع
ضر لأنه يعلم أنه لا يكشف السوء والضر إلا هو ، ويلحظ بقوة إيمانه وثقته بربه
آثار ذلك في جهاده ودعوته محطماً بذلك آصار البدعة ، وأغلال الشرك والضلال ،
فلا معين ولا ناصر ولا مجير سوى الله العزيز القدير
إلهي .. ما سألتُ سواك هديـاً فحسبيَ الهُدى من ربٍ بصـير
إذا لم أستعن بـك يــا إلهي فمن عوني سواك ومن مُجـيري
وبعد .. أيها الاخوة المجاهدون
ما أحوجنا ونحن نسير على درب الهدى والجهاد في سبيل الله مع قلة الناصر ،
واعتزاز الظالم، أن نعتز بهذه الشعيرة العظيمة : شعيرة الدعاء واستغاثة الله
السميع القريب .. ليحكم بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين .. وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المصدر مجلة الفجر