الاستخفاف لغةً : الاستهانة . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . وقد يعبّر
الفقهاء عن الاستخفاف بالاحتقار ، والازدراء ، والانتقاص .
حكمه التّكليفيّ :
ليس للاستخفاف حكمٌ عامٌّ جامعٌ ،
وإنّما يختلف حكمه باختلاف ما يتعلّق به . فقد يكون محظوراً ، وقد يكون
مطلوباً .
فمن المطلوب : الاستخفاف بالكافر لكفره ، والمبتدع لبدعته ، والفاسق لفسقه .
وكذلك الاستخفاف بالأديان الباطلة والملل المنحرفة ، وعدم احترامها ، واعتقاد
ذلك بين المسلمين أفراداً وجماعاتٍ إذا علم تحريفها ، وهذا من الدّين ؛ لأنّه
استخفافٌ بكفرٍ أو بباطلٍ . وأمّا المحظور : فهو ما سيأتي .
ما يكون به الاستخفاف :
يكون الاستخفاف بالأقوال أو الأفعال
أو الاعتقادات .
أ - الاستخفاف باللّه تعالى :
قد يكون بالقول ، مثل الكلام الّذي
يقصد به الانتقاص والاستخفاف في مفهوم النّاس على اختلاف اعتقاداتهم ،
كاللّعن والتّقبيح ، سواءٌ أكان هذا الاستخفاف القوليّ باسمٍ من أسمائه أم
صفةٍ من صفاته تعالى ، منتهكاً لحرمته انتهاكاً يعلم هو نفسه أنّه منتهكٌ
مستخفٌّ مستهزئٌ . مثل وصف اللّه بما لا يليق ، أو الاستخفاف بأمرٍ من أوامره
، أو وعدٍ من وعيده ، أو قدره . وقد يكون بالأفعال ، وذلك بكلّ عملٍ يتضمّن
الاستهانة ، أو الانتقاص ، أو تشبيه الذّات المقدّسة بالمخلوقات ، مثل رسم
صورةٍ للحقّ سبحانه ، أو تصويره في مجسّمٍ كتمثالٍ وغيره . وقد يكون
بالاعتقاد ، مثل اعتقاد حاجة اللّه تعالى إلى الشّريك حكم الاستخفاف باللّه
تعالى :
أجمع الفقهاء على أنّ الاستخفاف باللّه تعالى بالقول ، أو الفعل ، أو
الاعتقاد حرامٌ ، فاعله مرتدٌّ عن الإسلام تجري عليه أحكام المرتدّين ، سواءٌ
أكان مازحاً أم جادّاً . قال تعالى : { ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض
ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد
إيمانكم } .
الاستخفاف بالأنبياء :
الاستخفاف بالأنبياء وانتقاصهم
والاستهانة بهم ، كسبّهم ، أو تسميتهم بأسماءٍ شائنةٍ ، أو وصفهم بصفاتٍ
مهينةٍ ، مثل وصف النّبيّ بأنّه ساحرٌ ، أو خادعٌ ، أو محتالٌ ، وأنّه يضرّ
من اتّبعه ، وأنّ ما جاء به زورٌ وباطلٌ ونحو ذلك . فإنّ نظم ذلك شعراً كان
أبلغ في الشّتم ؛ لأنّ الشّعر يحفظ ويروى ، ويؤثّر في النّفوس كثيراً – مع
العلم ببطلانه – أكثر من تأثير البراهين ، وكذلك إذا استعمل في الغناء أو
الإنشاد .
حكم الاستخفاف بالأنبياء :
اتّفق العلماء على أنّ الاستخفاف
بالأنبياء حرامٌ ، وأنّ المستخفّ بهم مرتدٌّ ، وهذا فيمن ثبتت نبوّته بدليلٍ
قطعيٍّ ، لقوله تعالى : { ومنهم الّذين يؤذون النّبيّ } ، وقوله تعالى : {
إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والآخرة وأعدّ لهم
عذاباً مهيناً } . وقوله تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
وسواءٌ أكان المستخفّ هازلاً أم كان جادّاً ، لقوله تعالى ، { قل أباللّه
وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } . إلاّ أنّ
العلماء اختلفوا في استتابته قبل القتل ، فالرّاجح عند الحنفيّة ، وقولٌ
للمالكيّة ، والصّحيح عند الحنابلة ، أنّ المستخفّ بالرّسول والأنبياء لا
يستتاب بل يقتل ، ولا تقبل توبته في الدّنيا ؛ لقوله تعالى : { إنّ الّذين
يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً
} . وقال المالكيّة ، وهو الرّاجح عندهم ، والشّافعيّة ، وهو رأيٌ للحنفيّة ،
والحنابلة : يستتاب مثل المرتدّ ، وتقبل توبته إن تاب ورجع ، لقوله تعالى : {
قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ولخبر : « فإذا قالوها عصموا
منّي دماءهم وأموالهم » .
وفرّق بعض الفقهاء بين الاستخفاف بالسّلف ، وبين الاستخفاف بغيرهم ، وأرادوا
بالسّلف الصّحابة والتّابعين . فقال الحنفيّة والشّافعيّة في سابّ الصّحابة
وسابّ السّلف : إنّه يفسّق ويضلّل ، والمعتمد عند المالكيّة أنّه يؤدّب .
ولكن من سبّ السّيّدة عائشة - بالإفك الّذي برّأها اللّه منه - أو أنكر صحبة
أبي بكرٍ الّتي ثبتت بنصّ القرآن يكفر ؛ لإنكاره تلك النّصوص الدّالّة على
براءتها وصحبة أبيها ، ولما روي عن ابن عبّاسٍ أنّه قال في قوله تعالى : {
إنّ الّذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدّنيا والآخرة ولهم
عذابٌ عظيمٌ } قال : هذا في شأن عائشة وأزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم
خاصّةً ، وليس فيها توبةٌ . وأمّا الاستخفاف بغيرهم من المسلمين ، ولو كان
مستور الحال ، فقد قال فقهاء المذاهب الأربعة : إنّه ذنبٌ يوجب العقاب
والزّجر على ما يراه السّلطان ، مع مراعاة قدر القائل وسفاهته ، وقدر المقول
فيه ؛ لأنّ الاستخفاف والسّخرية من المسلم منهيٌّ عنه ، لقوله تعالى : { لا
يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنّ
خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم الفسوق بعد
الإيمان } .
حكم الاستخفاف بالملائكة :
اتّفق الفقهاء على أنّ من استخفّ
بملكٍ ، بأن وصفه بما لا يليق به ، أو سبّه ، أو عرّض به كفر وقتل . وهذا
كلّه فيما تحقّق كونه من الملائكة بدليلٍ قطعيٍّ كجبريل ، وملك الموت ،
ومالكٍ خازن النّار .
حكم الاستخفاف بالكتب والصّحف
السّماويّة :
اتّفق الفقهاء على أنّه من استخفّ
بالقرآن ، أو بالمصحف ، أو بشيءٍ منه ، أو جحد حرفاً منه ، أو كذب بشيءٍ ممّا
صرّح به من حكمٍ أو خبرٍ ، أو شكّ في شيءٍ من ذلك ، أو حاول إهانته بفعلٍ
معيّنٍ ، مثل إلقائه في القاذورات كفر بهذا الفعل . وقد أجمع المسلمون على
أنّ القرآن هو المتلوّ في جميع الأمصار ، المكتوب في المصحف الّذي بأيدينا ،
وهو ما جمعته الدّفّتان من أوّل { الحمد للّه ربّ العالمين } إلى آخر { قل
أعوذ بربّ النّاس } . وكذلك من استخفّ بالتّوراة والإنجيل ، أو كتب اللّه
المنزّلة ، أو كفر بها ، أو سبّها فهو كافرٌ . والمراد بالتّوراة والإنجيل
وكتب الأنبياء ما أنزله اللّه تعالى ، لا ما في أيدي أهل الكتاب بأعيانها ؛
لأنّ عقيدة المسلمين المأخوذة من النّصوص فيها : أنّ بعض ما في تلك الكتب
باطلٌ قطعاً ، وبعضٌ منه صحيح المعنى وإن حرّفوا لفظه . وكذلك من استخفّ
بالأحاديث النّبويّة الّتي ظهر له ثبوتها .
الاستخفاف بالأحكام الشّرعيّة :
اتّفق الفقهاء على كفر من استخفّ
بالأحكام الشّرعيّة من حيث كونها أحكاماً شرعيّةً ، مثل الاستخفاف بالصّلاة ،
أو الزّكاة ، أو الحجّ ، أو الصّيام ، أو الاستخفاف بحدود اللّه كحدّ السّرقة
والزّنى .
الاستخفاف بالأزمنة والأمكنة الفاضلة
وغيرها :
منع العلماء سبّ الدّهر والزّمان
والاستخفاف بهما ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « لا تقولوا خيبة
الدّهر ، فإنّ اللّه هو الدّهر » وحديث « يؤذيني ابن آدم يسبّ الدّهر وأنا
الدّهر ، بيدي اللّيل والنّهار » . وكذلك الأزمنة والأمكنة الفاضلة
والاستخفاف بها ، فإنّه يأخذ الحكم السّابق من المنع والحرمة . أمّا إذا قصد
من ذلك الاستخفاف بالشّريعة ، كأن يستخفّ بشهر رمضان ، أو بيوم عرفة ، أو
بالحرم والكعبة ، فإنّه يأخذ حكم الاستخفاف بالشّريعة أو بحكمٍ من أحكامها ،
وقد مرّ حكم ذلك .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
الراجحي