اطبع هذه الصفحة


نظرات في كتاب " الحرية أو الطوفان " د حاكم المطيري ومواجهة أخوية معه

سليمان بن صالح الخراشي

 
سعدتُ كثيرًا بقراءة كتاب الدكتور حاكم المطيري – وفقه الله –" الحرية أو الطوفان " ، الطبعة الأولى ( 2004م ) ؛ لما حواه من تحفيز لعودة مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المـُنـزّل إلى عالم الحكم في بلاد المسلمين ، وهو ماكان عليه الحال في الفترة الراشدة ؛ حيث الشورى والعدل الذي يكفل للمسلمين عيشًا كريمًا ، وحياة عزيزة ، لا تخضع لتسلط ظالم خاضع هو الآخر لتسلط الكفار ( إن لم يكن راضيًا في بعض الأحيان ) .
ومما أضاف على السعادة مثلها كون الكاتب – رعاه الله – من دعاة السلفية ، مما يضمن للقارئ – بإذن الله – صفاء في المادة ، وانضباطًا شرعيًا ، وتجنبًا لسلبيات الخائضين في هذا المجال ممن فقدوا تلك الصفات ، ( وما أكثرهم من العصريين ) .
إلا أن هذه السعادة وهذا الصفو كدرته بعض الهنات التي شابت رسالة الدكتور ، ومعظمها – في نظري – كان بسبب ضغط الواقع السياسي المعاصر ، الذي أوقع الدكتور في مجاملة للآخرين ( وأسميها هزيمة نفسية أمام استعلائهم بأفكارهم السياسية ) ، ومحاولة حشر تاريخنا أو نظرتنا السياسية في لبوس ليس لها .
وقبل إبداء ما لدي ، أقدم بعرض لتقسيمات رسالته :
 

********************


- يقول الدكتور في مقدمة رسالته ص7-: "هذه دراسة موجزة عن الخطاب السياسي الإسلامي ومراحله التاريخية، وعن طبيعة كل مرحلة وأبرز سماتها" أجاب فيه عن أسئلة تدور في أذهان كثيرين –منها-: "كيف بدأ الإسلام ديناً يدعو إلى تحرير الإنسان من العبودية والخضوع لغير الله –عز وجل- إلى دين يوجب على أتباعه الخضوع للرؤساء والعلماء مهما انحرفوا وبدلوا، بدعوى طاعة أولي الأمر".
وستأتي مناقشته في هذه الكلام وبيان ما فيه من مبالغة غير لائقة منه؛ لأن من يدعو إلى طاعة أولي الأمر –بضوابطه المعروفة- لا يدعو إلى "خضوع" للرؤساء والعلماء! إنما هو ينفذ أوامره صلى الله عليه وسلم تديناً وقربة، مع إنكاره لانحرافات الظالمين بالطريق الشرعي، وعدم رضاه عنها، فضلاً عن "خضوعه" !
- ثم قسَّم الدكتور مراحل الخطاب السياسي الإسلامي –وعليها مدار كتابه- إلى ثلاثة أقسام:
1-مرحلة الخطاب السياسي الشرعي الـمُنـزل، وهي فترة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وهي ما يدعو المؤلف إلى محاكاته.
وأبرز ملامحها:
أ-أنه لا دين دون دولة.
ب-لا دولة دون إمام.
ج-لا إمامة دون عقد.
د-لا عقد إلا برضا الأمة واختيارها.
هـ-لا رضا بلا شورى.
و-لا شورى بلا حرية.
ز-أن الحاكمية والطاعة المطلقة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
ح-تحقيق مبدأي العدل والمساواة.
ط-حماية الحقوق والحريات الإنسانية الفردية والجماعية وصيانتها؛ وهي "حق الحياة – الحرية"
ي-وجوب الجهاد في سبيل الله.
2-مرحلة الخطاب السياسي المؤول . وأبرز ملامحها:
أ-مصادرة حق الأمة في اختيار الإمام، وتحول الحكم من شورى إلى وراثة.
ب-مصادرة حق الأمة في المشاركة في الرأي والشورى.
ج-غياب دور الأمة في الرقابة على بيت المال.
د-تراجع دور الأمة في مواجهات الظلم والانحراف.
3-مرحلة الخطاب السياسي المبدل –من عام 1350 تقريباً إلى اليوم- :
وأبرز ملامحها : تنحية الإسلام عن الحكم بدعوى أن الإسلام دين لا دولة، ومحاربة أهل الإسلام من قبل المنافقين.
ثم عقد الدكتور خلاصة قال فيها ( ص 319 ) : " إن الخطاب السياسي الشرعي الـمُنـزل هو الخطاب الذي يمثل تعاليم الإسلام الحق، وأن ما عداه إما مؤول أو مبدل يجب رده ورفضه، والتمسك بما كان عليه الخلفاء الراشدون في باب الإمامة وسياسة شؤون الأمة ؛ كما جاء في الحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور"، وأن التمسك بهذا الخطاب هو السنة والسلفية، وما سواه هو من البدع التي أحدثها الملوك، وتابعهم على أهوائهم العلماء والفقهاء، اتباعاً منهم لسنة القياصرة والأكاسرة؛ كما أخبر بذلك النبي r: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع".
ثم قال -مبيناً الحل الذي يراه-" هذا الخطاب لن يتحقق إلا بمواجهة الخطاب المؤول والمبدل فكرياً، ثم بالعمل على نشره ودعوة الأمة وحكوماتها إلى تبنيه الطرق السلمية، لتبادر ما فاتها، وإلا فالواجب العمل على تغييرها بكل وسيلة ممكنة، سواء بالعمل السياسي السلمي أو بالعمل الثوري، إذ بقاؤها بقاء للاستعمار ولا سبيل إلى زواله إلا بزوالها" .
 

********************


- يظهر جلياً لمن تأمل كتاب الدكتور أنه كتبه بعد تشبع بالواقع السياسي المعاصر لمعظم الدول الغربية – كما سبق - ؛ حيث شعارات : الأحزاب المتنوعة، وتيارات المعارضة، ، والتعددية الفكرية والسياسية ، والتداول السلمي للسلطة.. إلخ مكونات هذا الواقع [حسب الظاهر بغض النظر عن صدقه أو كذبه على أرض الواقع ] . هذا التشبع انطبع على نظرة أو قراءة الدكتور لتاريخ المسلمين السياسي –سواء فترة الخلفاء الراشدين أو ما بعدها- مما أوقعه في تكلفات، وأحياناً تجاوزات تغاضى عنها في سبيل أن ينطبق واقع تلك الدول الغربية السياسي على تاريخنا.

- انساق الدكتور مع المنادين بأفكار الحرية ومناهضة الاستبداد وهي أفكار –بلا شك- تسلب الألباب لأول وهلة – كما سبق - ؛ لأن الإنسان مفطور على كراهية الاستعباد والظلم والنفور منهما، يكاد يتفق على ذلك بنو آدم. ولكن هذه الحرية والمناهضة للاستبداد... إن لم تُضبط وتُقيد بنصوص الشرع –وإن كانت كُرْهاً لبعض الأنفس- وإلا جمحت وضرت مجموع الأمة وأصابتها بفتنتها.
فكأن الدكتور –وفقه الله- بكتابه هذا يقول للآخرين : إن دعاة السلفية لهم حظ وافر من الدعوة إلى الحرية ومنابذة الاستبداد التي اشتهر بها غيرهم ! وهذا حسَنٌ لو تجاوز صاحبه بعض الأخطاء أو المجاملات التي تنبئ عن هزيمة نفسية تجاه الآخرين ، ومثلها رفع الأسافل لمجرد اتفاقهم معه في هذه الشعارات ( المطاطة ) . وحسنٌ لو قُيدت هذه الحرية بقيود الشرع ؛ لأنه ما كل حرية يجيزها الشرع ، وتسميتها حرية هو من التلبيس ، كمن يسمي الربا المحرم " فائدة " ، فلا ينبغي للداعية أو العالم أن يضعف أمام استعلاء الآخرين بباطلهم ، بل يأخذ منافعه ، ويحذّر من مفاسده ، ويواجههم بها .

الملاحظات التفصيلية :

1- يقول الدكتور في مقدمة كتابه ( ص 7-8) : " لِمَ لَمْ يعد أكثر علماء الإسلام ودعاته اليوم يهتمون بحقوق الإنسان وحريته والعدالة الاجتماعية والمساواة ؟
كيف تم اختزال مفهوم الشريعة لتصبح السياسة الشرعية، وحقوق الإنسان، والحريات، والعدالة الاجتماعية، والمساواة؛ كل ذلك لا علاقة له بالشريعة التي يراد تطبيقها والدين الذين يُدعى الناس إليه اليوم؟!
كيف تم تفريغ الإسلام من مضمونه، فصار أكثر الدعاة إليه اليوم يدعون الناس إلى دين لا قيمة فيه للإنسان وحريته وكرامته وحقوقه، إلى دين لا يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية، بل يرفض تغيير الواقع ويدعو إلى ترسيخه بدعوى طاعة ولي الأمر ؟!!
كيف ندعو شعوب العالم الذي تساوى فيها الحاكم والمحكوم حيث الشعب يحاسب رؤساءه، وينتقدهم علانية ويعزلهم بطرح الثقة بهم، ولا يستطيع الحاكم سجن أحد أو مصادرة حريته أو تعذيبه؛ إذ الحاكم وكيل عن المحكوم الذي يحق له عزله؛ إلى دين يدعو أتباعه اليوم إلى الخضوع للحاكم وعدم نقده علانية، وعدم التصدي لجوره، والصبر على ذلك مهما بلغ فساده وظلمه؛ إذ طاعته من طاعة الله ورسوله؟! كما يحرم على هذه الشعوب الحرة أن تقيم الأحزاب السياسية أو تتداول السلطة فيما بينها لو دخلت في الدين الجديد ؟!! " .
قلتُ : هذه العبارات المنتشية ، والمصطلحات الجميلة : ( الحرية – المساواة – العدالة الاجتماعية .. الخ ) تُطرب النفوس ، وتأسر الألباب مادامت في المخيلة ، لكنها عندما تنزل للواقع تحتمل أكثر من وجه ، منها الصالح ومنها غير ذلك . وهي – مع هذا - تشهد لمدى تأثر الدكتور بالفكر السياسي الغربي . كما سبق . فماكان ينبغي له أن يسير مع إطلاقاتها ، دون توضيح .

2- قال الدكتور ( ص 8 ) : " هذا وقد أخذت على نفسي والتزمت ألا أورد من الأحاديث إلا الصحيح، ولا من الأخبار والروايات التاريخية إلا المقبول، وقد اجتهدت في دراسة أسانيد الروايات التاريخية –مع ما في ذلك من عسر ومشقة- لأتجنب الروايات الموضوعة، فلم أورد من الأخبار التاريخية إلا ما كان صحيحاً أو مشهوراً بين المؤرخين؛ إذ للتاريخ والمؤرخين منهج يختلف عن منهج أهل الحديث في كثير من التفاصيل " .
قلتُ : هناك من الحكايات والأخبار المشهورة بين المؤرخين ما هو في عداد الموضوعات والأكاذيب عند العلماء ؛ لأن غالب المؤرخين أصحاب " جمع " لا " تحقيق " ، وقد نبه بعضهم إلى هذا في مقدمة تاريخه ؛ كالطبري . فشهرة الرواية وانتشارها في كتب أهل التأريخ لا يجعلها بمجرده صحيحة مقبولة ، وإلا لقبلنا روايات كثيرة لا أظن الدكتور يرتضيها . ومع هذا فقد خالف الدكتور شرطه كما يأتي – إن شاء الله - .

3- قال الدكتور ( ص 40 ) : " من ذلك : الحكاية التي تقول أن عمر – رضي الله عنه - قال لصهيب – رضي الله عنه - " أحضر عبدالله بن عمر ولا شيء له من الأمر، وقم على رءوسهم – أي أهل الشورى - فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم فحكموا عبدالله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس " .
قلت: هذه الحكاية ألمح شيخ الإسلام في المنهاج ( 4/180) إلى شذوذها ، وقال : " ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين ، بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان
. والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث ، وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا ولا يجوز قتل مثل هذا " .
وقال الدكتور عبدالعزيز محمد نور ولي في رسالته " أثر التشيع على الروايات التاريخية " ( ص 321) : " وقد تضمنت الروايات الشيعية – في قصة الشورى – عدة أمور غريبة ، وهي : - زعمهم أن عمر أمر صهيبًا أن يقتل من يخالف من الستة إذا اتفق خمسة أو أربعة منهم على رجل " ثم ضعفها بذكر من رواها . فلتراجع . وتُنظر : رسالة " عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة " للدكتور ناصر الشيخ ( ص 1048) . وللفائدة ، فإن نسخة تاريخ ابن شبة سقيمة ، أفاده الشيخ سعد الحميد .

4- بسبب النظرة المُشبعة التي ذكرت أن قراءة الدكتور لتاريخ المسلمين السياسي استسلمت لها ، نجده يقول ( 49 ) : " وإذا كانت المعارضة الفردية لسياسة الخلفاء هي الأبرز في عهد أبي بكر وعمر، فقد دخل العمل السياسي والمعارضة السياسية طوراً جديداً، وأخذا بعدا أكثر تنظيماً في عهد الخليفتين عثمان وعلي، فقد بدأت المعارضة تأخذ طابعاً جديداً، حيث ظهرت جماعات منظمة معارضة لسياسة عثمان رضي الله عنه وقد بدأت في البصرة والكوفة ومصر، ثم أصبحت أكثر انتشاراً، واستطاعت أن تستقطب إلى صفوفها بعض الصحابة كعمار بن ياسر الذي أرسله عثمان رضي الله عنه لمعرفة أخبار هذه المعارضة في مصر، فانضم إلى صفوفها " !!
قلت : لا أدري أولا : هل الدكتور يتحدث عن تاريخنا الذي نعرفه أو عن أحد التواريخ الثورية في عالمنا المعاصر ؟!
ثانيًا : ولع الدكتور بالأحزاب والمعارضة ...الخ اضطره إلى تصوير قتلة عثمان والثائرين عليه – قبحهم الله – بغير صورتهم ! عندما زعم أنهم معارضة مشروعة ، وفيهم بعض الصحابة ! وكان يسعه أن يقول كما قال ابن عساكر - ونقله عنه ابن كثير رحمه الله - : " إن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله ، تسوروا عليه الدار وأحرقوا الباب ودخلوا عليه ، وليس فيهم أحد من الصحابة ولا أبنائهم إلا محمد بن أبي بكر... " . ( تاريخ دمشق (ترجمة عثمان رضي الله عنه ) ص503-505، البداية والنهاية 7/202 ، 203) .
وكما قال ابن تيمية -رحمه الله - وهو يدفع مزاعم الرافضي - " ومعلوم بالتواتر أن الأمصار لم يشهدوا قتله ... ولا أحد من السابقين الأولين دخل في قتله ... " (منهاج السنة 8/313) ، وقبلهما قال الحسن البصري - رحمه الله - وقد سئل : أكان فيمن قتل عثمان أحدٌ من المهاجرين والأنصار ؟ قال : " كانوا أعلاجاً من أهل مصر " (تاريخ بن خياط ص176) ، وفي طبقات ( ابن سعد ) : كان - قتلة عثمان - رضي الله عنه : حثالة الناس، ومتفقون على الشر (3/71) . ( ويُنظر رد الدكتور سليمان العودة على منقذ التأريخ ! حسن المالكي ) . ( ورد الأخ علي رضا على المالكي – أيضًا – في مسألة صحبة ابن عديس وابن الحمق . ولعله ينشره هنا ما دام مشاركًا في منتدانا ) .

5- قال الدكتور ( ص 57) : " كما تؤكد حادثة السقيفة أن اشتراط القرشية في الإمامة لم يكن معروفاً ولا معلوماً بين الصحابة، وإلا لما نازع فيها الأنصار، ولما احتج أبو بكر وعمر بمثل هذه الحجج، ولقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا الأمر في قريش ويحرم عليكم أن تنازعوا " .
قلت : شرط القرشية – كما يقول الدكتور الدميجي في رسالته الإمامة ( ص 265وما بعدها ) : " من الشروط التي وردت النصوص عليه صريحة وانعقد إجماع الصحابة والتابعين عليه ، وأطبق عليه جماهير علماء المسلمين ، ولم يُخالف في ذلك إلا النزر اليسير من أهل البدع ؛ كالخوارج وبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة " ، وقال : " أول من قال بعدم اشتراط القرشية : الخوارج الذين خرجوا على علي " . وأما شبهة الدكتور حاكم فقد رد عليها وعلى غيرها ، وقال : " أما استدلالهم بقول الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فواضح البطلان ، وذلك لرجوعهم رضي الله عنهم عن هذا القول في تلك اللحظة بعد أن سمعوا النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي رواه أبوبكر رضي الله عنه في قوله : ولقد علمتَ يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبرُ الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ، فقال له سعد : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء . فيحتمل أنهم قالوا هذا القول قبل أن يعرفوا النص الذي يُثبت الخلافة في قريش ، ولهذا رجعوا إلى رشدهم لما عرفوا الحقيقة " . مع الانتباه إلى أن شرط القرشية يكون حال الاختيار لا الاضطرار والتغلب – كما بين العلماء - .

6- قال الدكتور ( ص 58 ) عن علي ومعاوية – رضي الله عنهما - : " وقد اتفق الحكمان على خلعهما وإرجاع الأمر للأمة شورى بينها لتختار من تشاء منهما أو من غيرهما " .
- قلت : قصة التحكيم كما ذكر الدكتور مكذوبة ! وبيان ذلك على هذا الرابط :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/77.htm

وهذا :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/11.htm

7- تحدث الدكتور عن تقبل الخلفاء الراشدين للمعارضة ما لم تحمل السلاح ! ثم قال ( ص 61 ) - عن الخوارج - : " قال ابن قدامة: إذا أظهر قوم رأي الخوارج؛ مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين، وأموالهم، إلا أنهم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام فإنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم .. الخ "
قلتُ : لم يُكمل الدكتور النقل ! وفيه اختيار الإمام مالك أنهم " يُستتابون ، فإن تابوا وإلا ضُربت أعناقهم " ، وفيه حجة من يرى " تكفيرهم " . وكذا لم ينقل رأي ابن قدامة القائل : " والصحيح أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء ، والإجهاز على جريحهم ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم ، ووعده بالثواب مَن قتلهم .. الخ " .

8- قال الدكتور ( ص 64) : " كما أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أول دخوله المدينة حيث وضع صحيفة المدينة ، التي تُعد أول دستور عرفه العالم، وحدد فيها الحقوق والواجبات التي على المسلمين ومن معهم من أهل الكتاب " .
قلتُ : يُنظر ضعف خبر هذه الصحيفة في رسالة الأخ ضيدان بن عبد الرحمن اليامي " بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة " ، وقال بعد أن ذكر أسانيدها وضعفها جميعًا: "فعلى هذا يتضح لك ضعف هذه الصحيفة وما ورد فيها" .
"ومن ثمَّ لا ينبغي الاحتجاج بها " . وللزيادة تُنظر رسالة " محمد عمارة في الميزان " .

9- قال الدكتور ( ص 69 ) معددًا فوائد حديث " إلا أن تروا كفرًا بواحًا .." : " حق الأمة في خلعها – أي السُلطة - والخروج عليها إذا تجاوزت حدود ما أنزل الله، وأظهرت كفرا بواحاً وهو المعصية الظاهرة كما في بعض الروايات –انظر فتح الباري 13/8- قال النووي: (المراد بالكفر هنا المعاصي –شرح مسلم 12/229- وهذا إذا أمكن بلا فساد " .
قلت: هنا تلبيس تمنيت لو لم يقع من الدكتور – عفى الله عنه - ؛ لأن كلام النووي رحمه الله صريح وواضح في نقيض دعوى الدكتور ، ولو أكمله لتبين هذا ، ولكن !
وإليكم كلامه بالنص : قال " والمراد بالكفر هنا المعاصي ومعنى عندكم من الله فيه برهان أي تعلمونه من دين الله تعالى ، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام ؛ فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم . وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين " . فإنكار المنكر الذي يعنيه النووي غير الخروج الذي يعنيه الدكتور !

10- قال الدكتور ( ص 93 ) : " كما له – أي المسلم - الحق في الانتماء إلى أي حزب أو جماعة شاء، فإذا جاز لغير المسلم الانتماء للأديان الأخرى والتحاكم إلى شرائعها الخاصة ورؤسائها في ظل الشريعة الإسلامية، فالانتماء إلى الجماعات الفكرية والسياسية جائز من باب أولى، ولهذا السبب لم يعترض عثمان ولا علي –رضي الله عنهما- على الانتماء للجماعات السياسية أو الفكرية، كالخوارج إذ لم ير علي رضي الله عنه أن له حقاً في منعهم من مثل هذا الانتماء، ما لم يخرجوا على الدولة بالقوة، لوضوح مبدأ: لا إكراه في الدين " .
قلت : عجبًا للدكتور – هداه الله - ، فهو في سبيل تقرير " التعددية الفكرية " المنقولة من الغرب ، سوّغ للمسلم أن يلحق بأهل البدع – المختلف في تكفيرهم - ! مهوّنًا من هذا الأمر الشنيع الذي حذر منه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتوعدا عليه .

11- قال عن مرحلة الخطاب المؤول ( ص 107 ) : " وقد انتهى عصر الخلفاء الراشدين سنة 40 هـ ، وبدأ العصر الأموي ، حيث بدأ تراجع الخطاب السياسي الممثل لتعاليم الدين المُنَزل ، وبدأ خطابٌ سياسيٌ يُمثل تعاليم الدين المؤول ، حيث بدأ الاستدلال بالنصوص على غير الوجه الذي أراد الله ورسوله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : أول من يُغير سنتي رجلٌ من بني أمية " .
قلت : الحديث المذكور ضعيف مُنقطع ، أعله البخاري والبيهقي وابن كثير ، يُنظر لبيان ذلك : البداية والنهاية لابن كثير ( 6/234) ، و تعليق الأستاذ محمد ناصر العجمي على " الأوائل " لابن أبي عاصم ( رقم 63) . فلا عبرة بمن حسّنه غافلا عن علته . فمابال الدكتور – عفى الله عنه - يحتج به مخالفًا شرطه ؟ ثم يحمله على معاوية – رضي الله عنه - ! رغم أن من تسامح في إيراده ذكره عند ترجمة يزيد . وشتان بينهما لمن أنصف .

12- ثم قال الدكتور ( ص 107 ) عن مرحلة الخطاب المؤول : " وقد بدأت هذه المرحلة بعد عهد الخليفة الراشد عبدالله بن الزبير سنة 73 ، وهو آخر خليفة صحابي ، وامتدت إلى سقوط الخلافة العثمانية " .
قلت : تحديد الدكتور بداية هذه المرحلة بهذا التأريخ ( 73هـ) مناسب ؛ لأنه سيعافيه مما تورط فيه كثيرٌ من أهل البدع– خاصة الرافضة – ومن تابعهم من " الثوريين " في طعنهم بمعاوية – رضي الله عنه - ، وتحميلهم إياه أخطاء وتجاوزات كل من حكم بعده ! وكأنه مسؤول عنها ! والسبب أنه اجتهد في اختيار مَن يحكم المسلمين بعده ، وسيأتي عُذره في هذا – إن شاء الله - .
إلا أنه – أي الدكتور حاكم عفى الله عنه - رغم هذا التحديد المناسب لم يثبت عليه ! حيث نحى بعد صفحات باللائمة على معاوية – رضي الله عنه – في توليته يزيد ، فجعل القارئ في حيرة من أمر بداية هذه المرحلة " المؤولة " ! هل تبدأ من عام 73هـ أو من حكم معاوية – رضي الله عنه - ؟!
والسبب لهذا الاضطراب – في نظري – هو تزاحم بل تصارع فكرتين في ذهن الدكتور ، الأولى سلفية تربأ عن جعل أحد الصحابة مجالا للوم أو النقد ، والثانية متشبعة بقراءات من سبق ، ممن لا يتورعون عن اللوم والنقد ، بخيالات مريضة ، وأسباب واهية . فكان هذا الاضطراب والقلق .
ولو قال – وفقه الله – بما قال به بعض أهل الورع و التحقيق ، ممن يرون أن معاوية – رضي الله عنه – وإن لم يكن من الخلفاء " الراشدين " المُخبر عنهم بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين .." ، وحديث : " ..ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " ، إلا أنه يُعد من الخلفاء الاثني عشر الذين بشّر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثني عشر خليفة .. كلهم من قريش " رواه مسلم . قال القاضي عياض : " يحتمل أن المراد من يعز الإسلام في زمنه ، ويجتمع المسلمون عليه " . وللتفصيل تُنظر رسالة الدكتور خالد الغيث " مرويات خلافة معاوية رضي الله عنه في تاريخ الطبري " ( ص 155-167) .
لو قال بهذا ، وجهر به ولم يجامل فيه أحدًا ؛ لسلم من التنازع الذي صبغ عباراته وفكرته .

13- قال الدكتور ( ص 142 ) عن خروج جيش ابن الأشعث ومن معه على الحجاج : " وقد التقوا هم والحجاج وجيشه إحدى وثمانين وقعة، كان النصر فيها حليفهم، حتى كانت آخر وقعة وهي يوم دير الجماجم سنة 83هـ. " . قلت : ليته أكمل بأنهم هُزموا شرّ هزيمة في هذه المعركة ! فأصبحوا ما بين قتيل وشريد وسجين – عفى الله عنهم - ، حتى تمنى من شارك فيها أن لو لم يفعل . وذهبت انتصاراتهم الثمانين ! هباء منثورا .

14- قال الدكتور ( ص 150 ) مستبشرًا بنجاح العباسيين في خروجهم على الأمويين ، وأن هذا دليل على صحة هذه الطريقة في التغيير : " وبهذا قامت دولة بني العباس على أنقاض دولة بني أمية؛ ليثبت بطلان نظرية الحسن البصري وادعائه عدم قدرة القوة على التغيير، وأن التوبة هي السبيل إلى تغيير الواقع ورفع الظلم، وأنه ما أفلح قوم خرجوا على إمامهم قط " .

قلت : هنا ثلاثة أمور : 1- أن نجاح الوسيلة – أحيانًا – في الوصول للمراد ، لا يدل على شرعيتها من عدمه ، بل ذلك يُعرف بالأدلة . وإلا لجوزنا السرقة للوصول للحق مادامت ستؤدي إليه أحيانًا دون تعرض لخطر ، ومثله تجويز السحر للوصول للمودة بين الزوجين مثلا .. وهكذا .
2- أن الدكتور جزم " بنجاح " هذا الخروج لأنه أزاح حاكمًا " بني أمية " وأحل آخر " بني العباس " ! فهل هذا هو نهاية مقصد الدكتور ومن يؤيده على هذه الوسيلة ؟ دون النظر إلى ما تحققه من مصالح للإسلام والدعوة والخير ؟ وما تُفوّته ؟
إذًا : ما الفائدة من هذا الجهد والتعب إذا كانت النتيجة مجرد تغيير " حاكم " لا تغيير " واقع " ؟ بل ازداد " الواقع " سوءًا لمن تأمل . ومهما حاول الدكتور أن يُرجّح حكم العباسيين على الأمويين ليتوافق ذلك مع فكرته ، فإن الواقع – بشهادة كل منصف – يقول غير هذا . فشتان بين الحكمين ؛ عزة للإسلام وظهورًا للسنة .( وليس هنا مكان الموازنة ) .
3- أن بعض العلماء ؛ كشيخ الإسلام – رحمه الله - يخالف في نجاح هذا الخروج ؛ لأن الخارجين كانت عاقبتهم غيرحميدة . قال – رحمه الله - : " وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير ؛ كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة ، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق ، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان ، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا ، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء .
وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة ، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا ، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وهُزم أصحابهم ، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا ، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا ، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة " .

15- قال الدكتور ( ص 252-263) عن الدولة السعودية الأولى : " لقد عاد الخطاب السياسي الشرعي بعد قيام الدولة الإسلامية الجديدة في نجد إلى مفاهيم الخطاب السياسي المؤول، كما تقرر في كتب الأحكام السلطانية، كمشروعية العهد بالأمر إلى الأبناء كما كان عليه الحال في عصر بني أمية وبني العباس، دون جعل الأمر شورى بين المسلمين كما كان عليه الحال في عصر الخلفاء الراشدين ..
ولو نجح الشيخ في إحياء هذه المفاهيم لكان للدعوة صدى أكبر وأثر أبلغ في تغيير واقع العالم الإسلامي، ولكانت نموذجاً راشدياً يقتدى به ويقتفى أثره. وقد يكون السبب الذي حال دون ذلك هو الظروف التي أحاطت بالدعوة، مع أن الظروف التي أحاطت بالدولة في عصر الخلفاء الراشدين كانت أشد وأقسى ..
ويمكن عزو أسباب عدم التجديد في الخطاب السياسي الشرعي بعد قيام الدولة إلى عدم حاجة المجتمع إلى مثل هذا التجديد آنذاك، بل كانت حاجته إلى إصلاح العقائد، وإقامة الشرائع، وتحقيق الأمن والعدل، فهذا كل ما كان يحتاجه أهل الجزيرة العربية في عصره، إلا أن الدعوة إلى السلفية تقتضي إحياء سنن الخلفاء الراشدين في الحكم وسياسة شئون الأمة، والاقتداء بهديهم، واتباع طريقهم من رد الأمر شورى، والحيلولة دون توريث الإمامة، إذ هو الطريق إلى الاستبداد، ومن ثم السقوط " .
قلت : أولا : الشيخ محمد – رحمه الله – تعامل مع عصره بواقعية وذكاء ، ولم ينسق وراء الخيالات أو الطموحات التي قد تعيق دعوة التوحيد عن الانتشار ، فقدّم المصلحة العليا التي لأجلها بُعثت الرسل – عليهم السلام – على أي أمر آخر لايعدو أن يكون مجرد وسيلة لتحقيق هذه الغاية . لاسيما وهو المحتاج للنُصرة لتبليغ دين الله .
ومع هذا فيذكر المؤرخون أن الشيخ – رحمه الله – كان له النصيب الكبير في تسيير أمور الدولة ، ومن ذلك قول ابن بشر – رحمه الله - في ترجمته : " كان رحمه الله هو الذي يُجهز الجيوش ، ويبعث السرايا ، ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه ، والوفود إليه ، والضيوف عنده ، والداخل والخارج من عنده " . وقال عنه ( ص 15 ) : " فكانت الأخماس والزكاة وما يُجبى إلى الدرعية من دقيق الأشياء وجليلها كلها تدفع إليه بيده، ويضعها حيث شاء، ولا يأخذ عبد العزيز ولا غيره من ذلك شيئاً إلا عن أمره، بيده الحل والعقد والأخذ والعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش، ولا يصدر رأي من محمد وابنه عبد العزيز إلا عن قوله ورأيه، فلما فتح الله الرياض، واتسعت ناحية الإسلام، وأمِنَت السُّبُل، وانقاد كل صعب من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز ، وفوّض أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ منها، ولزم العبادة وتعليم العلم، ولكن ما يقطع عبد العزيز أمرًا دونه، ولا ينفذه إلا بإذنه" .
ثانيًا : أن عبدالعزيز بن محمد – رحمه الله – كان هو المؤهل للحكم – دينًا وسياسة - ، وهو تلميذ الشيخ النجيب الذي تربى على عينه ، قال عنه ابن بشر : " كان عبد العزيز كثير الخوف من الله والذكر ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، يُنفِّذ الحق ولو في أهل بيته وعشيرته، لا يتعاظم عظيماً إذا ظلم فيقمعه عن الظلم، وينفذ الحق فيه، ولا يتصاغر حقيراً ظُلم، فيأخذ له الحق ولو كان بعيد الوطن... وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ويصلي فيه صلاة الضحى. وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية وخصوصًا أهل البلدان ؛ بإعطائهم الأموال وبث الصدقة لفقرائهم ، والدعاء لهم ، والتفحص عن أحوالهم ..
وكانت الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة في عيشةٍ هنية، وهو حقيق بأن يُلقّب مهدي زمانه، لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال أي وقت شاء، شتاء وصيفاً، يمناً وشاماً، شرقاً وغرباً في نجد والحجاز واليمن وتـهامة وعُمان، وغير ذلك، لا يخشى أحداً إلا الله، لا سارقاً ولا مكابراً، وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب، وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يُسيِّبون جميع مواشيهم في البراري من الإبل والجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راعي ولا مُراعي ..
وكان يوصي عماله بتقوى الله ، وأخذ الزكاة على الوجه المشروع ، وإعطاء الضعفاء والمساكين ، ويزجرهم عن الظلم ، وأخذ كرائم الأموال " .. الخ صفاته الجليلة – رحمه الله - .
فهل يُراد من الحكم إلا ما فعله هذا الموفق ؟!
وكيف يسوغ للشيخ – رحمه الله – بعد هذا - تقديم غيره عليه ؟!

16- قال الدكتور ( ص 135 ) : " إن الحال قد تغير بعد العهد الراشدي، فصار الخليفة يتصرف في بيت المال بذلاً ومنعاً بلا حسيب ولا رقيب إلا من ضميره، وأصبح له مطلق الحرية في ذلك، وقد بدأ هذا الانحراف منذ العهد الأموي، فقد خطب معاوية في يوم جمعة، فقال : إنما المال مالنا، والفيءُ فيئُنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا، فلم يَرُدَّ عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة قال: مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن شهد المسجد، فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيئنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا، فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس، إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد علي أحد، وفي الثانية، فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا، أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيأتي قوم يتكلمون فلا يُردُّ عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة"، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني، أحياه الله، ورجوت ألا يجعلني الله منهم) رواه أبو يعلى الموصلي، ح رقم (7382) وقال في مجمع الزوائد: (رجاله ثقات)، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (1790).
قلت : سبحان الله ! هذه الحكاية – لمن تأملها – فيها منقبة لمعاوية – رضي الله عنه – حيث لم ينطبق الحديث عليه ، لأنه لم يرض هذا الأمر لنفسه ، فكيف أصبحت عند الدكتور مذمة ؟!!

17- قال الدكتور ( ص 253) : " غير أن حركة فكرية جديدة بدأت تشق طريقها وتجدد خطابها السياسي بقيادة جمال الدين الأفغاني (1838م- 1897م) المولود في إمارة كنر في أفغانستان من أسرة حسنية علوية شهيرة –وهذا ما أكد المؤرخ الأديب شكيب أرسلان في ترجمته له، وقد التقى أرسلان قبل الحرب العالمية الأولى في الحج أحد أشهر سادات كنر الأفغانية فأكد له أن جمال الدين من أسرتهم، وكذا أكد ذلك جميع سفراء حكومة أفغانستان روجالها للمؤرخ أرسلان- بعد أن رأى ما آل إليه وضع الشرق الإسلامي من ضعف وتشرذم وسقوط تحت سيطرة الاستعمار، وغياب لدور الشعوب عن مجريات الأحداث؛ لجهلها بما يدور حولها، فأشعل جمال الدين شرارة النهضة وصرخ فيها كما قال المفكر الجزائري مالك بن نبي: (في هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حي على الفلاح، فكان رجعه في كل مكان، أنه صوت جمال الدين الأفغاني، موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة ويوم جديد) شروط النهضة ص22... وكان هدفه الأول: أن يقوض دعائم نظم الحكم الموجودة آنذاك، كما يعيد بناء التنظيم السياسي في العالم الإسلامي على أساس (الأخوة الإسلامية) التي تمزقت في صفين، وبددتها النظم الاستعمارية نهائياً " !!
قلت : لقد اختلطت الأمور عند الدكتور – هداه الله - ؛ بسبب إغراقه في قضية " مواجهة " الاستبداد ؛ مما أداه إلى رفع الأسافل والدفاع عنهم وعن أفكارهم ومحاولة تلميعهم ، عندما وافقوه في هذه الجزئية ، كما فعل هنا مع الأفغاني " الرافضي " " الماسوني " الذي كان هدفه إشعال الثورات في العالم الإسلامي ، لتكون النتيجة في النهاية من صالح الدول الاستعمارية المتربصة ! ، إضافة إلى فساد عقيدته وسلوكه .. الخ مخازيه التي بينها العلماء والكتاب المخلصون الناصحون لأمتهم ؛ ممن لم يغتروا بشعاراته الكاذبة ، ولمن أراد معرفة حقيقة أصله وأفكاره – بالأدلة - فليرجع إلى رسالة " دعوة الأفغاني في الميزان " للأستاذ مصطفى غزال ، ورسالة " المدرسة العقلية " للدكتور فهد الرومي ، ورسالة " العصرانية قنطرة العلمانية " على هذا الرابط :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/22.htm
وفيها بيان أن دعوته المسماة زورُا بالجامعة الإسلامية – أو كما يقول الدكتور : الأخوة الإسلامية ! – ما هي إلا دعوة " شرقية " لا تُفرق بين مسلم وكافر !

18- ثم قال الدكتور ( ص 267 ) : " إلا أن صدى حركة الأفغاني كان هو السبب الرئيس في بعث روح الأمة من جديد لمواجهة الاستعمار الغربي؛ إذ قام أتباعه في كل مكان يستنهضون همم المسلمين للتصدي له وإخراجه من الشرق الإسلامي، وقامت الثورات في كل مكان، وخرج الاستعمار العسكري " .
قلت : هذا غير صحيح ؛ بل كانت دعوته في مصر سببًا لاحتلال الإنجليز لها !! وتفصيل ذلك على هذا الرابط :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/39.htm

19- نقل الدكتور عن مالك بن نبي قوله : " ولقد شاءت الأقدار أن تجعل من هذا الرجل .. الخ " ، ولم يتعقبه . وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قول : " شاءت الظروف أن يحصل كذا وكذا ، وشاءت الأقدار كذا وكذا " ؟
فأجاب : " قول : " شاءت الأقدار " ، و " شاءت الظروف " ألفاظ منكرة ، لأن الظروف جمع ظرف وهو الزمن ، والزمن لا مشيئة له ، وكذلك الأقدار جمع قدر ، والقدر لا مشيئة له ، وإنما الذي يشاء هو الله عز وجل ، نعم لو قال الإنسان : " اقتضى قدر الله كذا وكذا " . فلا بأس به . أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار لأن المشيئة هي الإرادة ، ولا إرادة للوصف ، إنما الإرادة للموصوف " انتهى . "مجموع فتاواه " (3/135) .

20- الدكتور – وفقه الله – يعد كل من " ثار " على الدولة الأموية إنما يريد " الشورى " ! ( ص 146 ومابعدها ) ، لهذا تراه يحتفي بهذه الثورات . ولا أدري أي شورى أقامها العباسيون عندما حكموا ؟!

21- قال الدكتور ( ص 181 ) : " لقد غابت المفاهيم التي تُمثل مبادئ الخطاب السياسي الشرعي المـُنزل ، وشاع مفهوم : اسمع وأطع وإن أُخِذ مالُك ، وضُرب ظهرك " ، ثم ضعف الحديث في الهامش . وليته اكتفى بهذا ، لكنه أوهم القارئ أن الشيخ الألباني يرى ضعفه أيضًا عندما اقتصر على ذكر تضعيفه للسند ! ومن رجع للموضع الذي نقل منه الدكتور " الصحيحة ، رقم 1791" وجد الألباني – رحمه الله – يقول بعد هذا : " لكن تابعه نصر بن عاصم الليثي عن خالد به نحوه وفيه " فإن كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك فالزمه " أخرجه أبوداود وأحمد . قلتُ – القائل الألباني - : وهذا إسناد حسن " انتهى . وتُنظر السلسلة الصحيحة ( 2739) فقد صحح الحديث الأول – أيضًا - .
ولو تنزلنا مع الدكتور في تضعيفه لهذا المتن ، فأين يذهب عن عشرات الأحاديث الآمرة بطاعة ولاة الأمر ، والصبر على جورهم وظلمهم ، طلبًا لمصلحة أعلى ، ودرءًا لمفسدة أعظم ؟! هل سيقدح فيها أيضًا ؟! وأربأ به عن ذلك ؛ لأن هذا من مسالك أهل الأهواء . أو يستجيب لوصية محمد صلى الله عليه وسلم – وإن كان كُرهًا لبعض الأنفس - ، ويعلم أن ثمّ الحكمة والفلاح ؟ ويتهم رأيه ، ولا يُجامل أحدًا في دينه .

22- تعليقًا على ما اختاره الدكتور من حل ، وما جاء في كتابه من " تهييج " على الخروج ومنازعة الحكام ، كتبتُ التالي :
 

منهج أهل السنة في التعامل مع الحكام


لقد كتب كثير من أهل العلم في هذه المسألة – ولله الحمد - ، وبينوا ووضحوا أن منهج أهل السنة في هذا الباب معتمد على النصوص النبوية الصحيحة الصريحة التي تأمر بالصبر على جور الحاكم المسلم الظالم ، مع عدم ترك النصيحة له ، ونشر الخير بين المسلمين إلى أن يستريح بر أو يُستراح من فاجر ، أو يجعل الله بعد عسرٍ يسرا ، أما الحاكم الذي صدر منه كفر بواح عندهم فيه من الله برهان ، فالواجب تغييره إذا تحقق شرط القدرة . كل هذا وضحه العلماء ، ولم يأتوا به من كيسهم ، إنما التزامًا منهم بأقواله صلى الله عليه وسلم ، وفيها الخير كله ، لا محبة في سواد عيون الحاكم ، الذي جاءت النصوص بترهيبه وإيعاده بالخيبة والخسارة إن هو استمر على ظلمه وجوره .
وليس معنى هذا كما يفهم السذج وأصحاب الأهواء أنهم يرضون عن ظلم الحاكم أو يؤيدونه أو لا يناصحونه ، بل هم أصحاب المواقف المشرفة في بذل النصيحة ، والتحذير من التجاوزات ، ومن شذ عن هذا فإنما هو يمثل نفسه ، وقد جاءت النصوص بالتحذير من فعله .
ومن عاب على أهل السنة طريقتهم الشرعية في التعامل مع الحكام ؛ فإنما يعيب – شعر أو لم يشعر – على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي شرع هذه الطريقة ، فهل يستطيع الجهر بهذا ؟!
والعجيب الغريب أن كثيرًا ممن يعيب على أهل السنة طريقتهم – سواء من أهل البدع أو العصريين أو من تأثر بهم - تجده ( واقعًا ) يلتزم بها ، ولا يدعو إلى خروج أو ثورة خشية من المفسدة ( قد تكون المفسدة أحيانًا دنياه ومصالحه ! ) ، ولكنه عند التنظير ينقلب إلى أسدٍ هصور على أهل السنة . فتأمل .
واللوم يعظم عندما يقع في هذا من يعلم أن أهل السنة متبعون لا مبتدعون .
وما أجمل ما قاله الدكتور عبدالله الدميجي في رسالته " الإمامة العظمى " ( ص 548 ) بعدما عرض لطريقة أهل السنة :
" يلاحظ تشديد السلف رضوان الله عليهم في النهي عن الخروج على أئمة الجور بالسيف ، والأمر بالصبر عليهم ، وذلك لما يلي :
أ عملا بالأحاديث الواردة في ذلك كما سبق .
ب- حرصًا على تجنب الفتن وتعريض الأمة لها ، وإراقة الدماء في غير محلها .
ج – ومحافظة على هذا المنصب الجليل في الأمة ، التي متى ضعف استهانت بهم أعداؤهم ، ومتى قوي خافتهم وهابتهم .
ولا ينبغي أن يُفهم من ذلك أنه الإجلال لأولئك العصاة واحترامهم ، ولا الخوف منهم ، ولا الطمع فيما في أيديهم ، وكسب رضاهم . يدل على ذلك سيرتهم معهم ، وما يلقونه بسببهم من المحن ، وهي مشهورة منشورة ، ومدونة في بطون الكتب " .
وقد أحببتُ أن أذكر هنا كلامًا قيّما لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ، يُلخص فيه طريقة أهل السنة في هذا الباب ، ويُحذر من مخالفتها ، رغم أنه ممن ناله الأذى من حكام المسلمين الجهلة الظلمة ، ولكن هذا ليس مسوغًا له أن ينساق وراء العاطفة ، فلا يعدل في هذه المسألة .
قال – رحمه الله – في " منهاج السنة ، 4/527-544 " : " ففي الجملة أهل السنة يجتهدون في طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان كما قال تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم . ويعلمون أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بصلاح العباد في المعاش والمعاد وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد ، فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما ، فإذا كان صلاحه أكثر من فساده رجحوا فعله ، وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجحوا تركه .
فإن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تولى خليفة من الخلفاء كيزيد وعبد الملك والمنصور وغيرهم ؛ فإما أن يقال يجب منعه من الولاية وقتاله حتى يولى غيره كما يفعله من يرى السيف ؛ فهذا رأى فاسد ؛ فإن مفسدة هذا أعظم من مصلحته ، وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير ؛ كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء
، وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم ، فلا يكون لهم عاقبة ، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقا كثيرا وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور ، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهُزموا وُهزم أصحابهم فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا ، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة ، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم ، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال ، وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم ، وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق ، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين ، والله يغفر لهم كلهم .
وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث : أين كنت يا عامر ؟ قال : كنت حيث يقول الشاعر :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى *** وصوت إنسان فكــــــدت أطير
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء .
وكان الحسن البصري يقول : إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم ، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع ، فإن الله تعالى يقول : ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) ، وكان طلق بن حبيب يقول : اتقوا الفتنة بالتقوى، فقيل له : أجمل لنا التقوى،فقال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله ، رواه أحمد وابن أبي الدنيا.
وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة ؛ كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد ، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث ، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم ، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين .
ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابته عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب واعتبر أيضا اعتبار أولي الأبصار علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور ، ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج ، وغلب على ظنهم أنه يُقتل ، حتى إن بعضهم قال أستودعك الله من قتيل ،وقال بعضهم لولا الشفاعة لأمسكتك ومنعتك من الخروج ، وهم في ذلك قاصدون نصيحته ، طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين . والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد لكن الرأي يصيب تارة ويخطيء أخرى .
فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك ، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا ، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوما شهيدا ، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك ، وصار ذلك سببا لشر عظيم ، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن .
وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد ، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد ، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة .
وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابته في الصحيح كلها تدل على هذا ؛ كما في صحيح البخاري من حديث الحسن البصري : سمعت أبا بكرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول : إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد وحقق ما أشار إليه من أن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ، وهذا يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان محبوبا ممدوحا يحبه الله ورسوله ، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم على أحد بترك واجب أو مستحب .
ومما ينبغي أن يُعلم أن أسباب هذه الفتن تكون مشتركة فيرد على القلوب من الواردات ما يمنع القلوب عن معرفة الحق وقصده ، ولهذا تكون بمنزلة الجاهلية ، والجاهلية ليس فيها معرفة الحق ولا قصده والإسلام جاء بالعلم النافع والعمل الصالح بمعرفة الحق وقصده ، فيتفق أن بعض الولاة يظلم باستئثار فلا تصبر النفوس على ظلمة ولا يمكنها دفع ظلمة إلا بما هو أعظم فسادا منه ، ولكن لأجل محبة الإنسان لأخذ حقه ودفع الظلم عنه لا ينظر في الفساد العام الذي يتولد عن فعله .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
. وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك وأسيد بن حضير رضي الله عنهما أن رجلا من الأنصار قال : يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلانا ؟ قال : ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض
.وفي رواية للخباري عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين ، فقالوا : لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها ، فقال : أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه ستصيبكم أثرة بعدي
. وكذلك ثبت عنه في الصحيح أنه قال : على المرء المسلم السمع والطاعة في يسره وعسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه
، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادة قال:بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم
، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن يصبروا على الاستئثار عليهم وأن يطيعوا ولاة أمورهم وإن استأثروا عليهم وأن لا ينازعوهم الأمر ، وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه ولم يصبروا على الاستئثار،ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات ويبقى المقاتل له ظانا أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، ومن أعظم ما حركه عليه طلب غرضه إما ولاية وإما مال
كما قال تعالى (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل يقول الله له يوم القيامه اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا إن أعطاه منها رضي وإن منعه سخط ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا لقد أعطى بها أكثر مما أعطي
.فإذا اتفق من هذه الجهة شبهة وشهوة ومن هذه الجهة شهوة وشبهة قامت الفتنة ، والشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة له وللمسلمين ؛ فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم حتى قال : ما من راع يسترعيه الله
رعية يموت يوم وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة
، وأمر الرعية بالطاعة والنصح ، كما ثبت في الحديث الصحيح : الدين النصيحة ثلاثا ، قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
، وأمر بالصبر على استئثارهم ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم ؛ لأن الفساد الناشىء من القتال في الفتنة أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر ، فلا يُزال أخف الفسادين بأعظمهما
، ومن تدبر الكتاب والسنة الثابته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتبر ذلك بما يجده في نفسه وفي الآفاق علم تحقيق قول الله تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ، فإن الله تعالى يري عباده آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن القران حق ، فخبره صدق وأمره عدل ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) " .
قلتُ : رحم الله شيخ الإسلام . وقد سبق التنبيه إلى أن عدم الخروج أو المنازعة لا يعني الخضوع أو الركون عن الدعوة وتعليم الناس العلم ، ومواصلة " التصفية " لأحوال المسلمين في جميع المجالات ، و " تربيتهم " على أحكام الإسلام ، فبهذا الفعل والجهد المستمر ، سيجد المسلمون العاقبة الحميدة في الدنيا قبل الآخرة ؛ لأن المسلمين إذا صلحوا فإنهم لن يرضوا بغير حكم الإسلام بديلا ، ولن يجد المنافقون لهم مكانًا بينهم . وليس معنى هذا أن يكون المسلمون كلهم كذلك ، لا .. بل يكفي " مجموعهم " ممن يؤثرون في المجتمع ، كما كان الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، رغم وجود المنافين والجهلة .

لماذا اختار معاوية - رضي الله عنه - ابنه يزيد للحكم ؟!

من الأمور التي يحسن عرضها تكميلا لما سبق : الموقف من تولية معاوية – رضي الله عنه – الحكم من بعده لابنه يزيد ، وهو الأمر الذي شنع به عليه خصومه – وما أكثرهم ! - ، بدءًا من الرافضة المخذولين ، ومن تبعهم من الزيدية والمعتزلة والتنويريين والثوريين . فقد جعل هؤلاء من معاوية – رضي الله عنه – شماعة لفشلهم وخيبتهم ، وشنعوا عليه بأبشع العبارات – والعياذ بالله - ، دون خوف أو ورع ، وتفننوا في اختراع الأكاذيب والحكايات الباطلة التي تخدم غرضهم ، ومن لم يكذب ويفتري صدق ونقل دون تمحيص أو تدقيق . وليس هنا مقام عرض أقوالهم الكاسدة .
أما أهل السنة ، فقد حفظوا لصحابة محمد صلى الله عليه وسلم حقهم ، وكانوا واضحين في موقفهم ؛ حيث لم يدعوا العصمة لأحد منهم ، لكنهم عذروا وأحسنوا الظن ، وكفوا ألسنتهم . ودافعوا عنهم وردوا على خصومهم . وهم يعلمون أن معاوية – رضي الله عنه – ليس من كبار الصحابة وأفضلهم ، ولكنهم اضطروا لتكرار الحديث عنه ، لدفع بهتان خصومه ، ولو سكت أولئك لسكت أهل السنة .
وأما في قضية توليته ليزيد ، فقد تفهم أهل السنة الواقع ، والتمسوا له المعاذير اللائقة به ، لاسيما مع عدم وجود النص الشرعي الذي يُحرم تولية الابن بعد أبيه ، مادام سيحكم بالشرع . ورغم هذا فهم وإن عذروه فإنهم ( عند الاختيار ) لا يعدلون بطريقة الخلفاء الراشدين غيرها . وهذا هو الفرق بينهم وبين أهل الأهواء المشنعين دون بينة ولا برهان ولا فهم للواقع أو عذر لأهل الإيمان .
ولتوضيح ملابسات القضية ، وليظهر عذر معاوية – رضي الله عنه - ؛ فإني أورد هنا ما ذكره الدكتور محمد بن عبدالهادي الشيباني – وفقه الله – من أسباب دعت معاوية لهذا الفعل ، في رسالته " مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية " ( ص 126-140 ) :
قال : " أولاً: السبب السياسي (الحفاظ على وحدة الأمة) :
يجب أن نعرف أن الظروف التي بويع فيها أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، تختلف اختلافاً واضحاً عن تلك الفترة التي أخذ فيها معاوية البيعة لولده يزيد.
فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يشك أحد في أنه أفضل شخص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا لم يبرز خلاف في أفضليته وأهليته بالخلافة، فشخصيته تحظى بتقدير واحترام المسلمين، وذلك لقاء ما قدمه من تضحيات، وتحمله الآلام في سبيل هذا الدين.
ثم أوصى أبو بكر بالخلافة لعمر بن الخطاب، وهو من هو في الفضل والمكانة، ويعرف المسلمون أنه أفضل شخص بعد أبي بكر، ولهذا انعقدت له البيعة وانقاد المسلمون له ولم يخالفه أحد.
ولما أصيب عمر رضي الله عنه أوصى بأن يكون الخليفة أحد الستة المبشرين بالجنة وهم: (عثمان بن عفان – وعلي بن أبي طالب – والزبير بن العوام – وعبدالرحمن بن عوف- وسعد بن أبي وقاص- وطلحة بن عبيد الله) رضي الله عنهم.
وهنا أصبحت الخلافة محصورة في واحد من هؤلاء الستة، حيث كان لهم من الآهلية والفضيلة والسابقة المحمودة في الإسلام، والبشارة لهم بالجنة، ما يجعل الناس تقر لهم، وتعترف لهم بالفضل والسابقة في الدين.
وبعد استشارة واستقصاء لأراء الصحابة رضي الله عنهم، وقع الاختيار على عثمان رضي الله عنه، وذلك باعتباره أفضل المرشحين الستة لخلافة المسلمين، وبرزت الفتنة في أواخر خلافته، وحوصر وقتل مظلوماً شهيداً رضي الله عنه.
وتولى الخلافة من بعده علي رضي الله عنه ولم يجمع الناس على بيعته، حيث برزت التهم الموجهة له ولأهل المدينة بأنهم تواطؤا، أو تساهلوا مع الثوار حتى قتل عثمان رضي الله عنه بين أظهرهم.
وكانت بلاد الشام بقيادة معاوية رضي الله عنه تمثل هذا التيار المعارض، وكان يسيطر على أهل الشام شعور جارف بوجوب الانتقام من قتلة عثمان الذين يمثلون قطاعاً من جيش علي رضي الله عنه، وحدث القتال والفرقة، وقتل من قتل من المسلمين، وهنا ظهرت فرقة الخوارج التي تكفّر المسلمين وتستحل قتالهم، وفرقة الشيعة التي بدأت تغالي في علي وأبنائه رضي الله عنهم.
وأمام هذا التغيّر في بعض معتقدات وأفكار فئة من المجتمع الإسلامي، حتمت الظروف وواقع المجتمع –في تلك الفترة- على معاوية أن يعيد النظر ويتبصر فيمن سيكون خليفة للمسلمين من بعده .
فأهل الشام الذين انتصروا لقتل عثمان رضي الله عنه أثبتوا أنهم أناس مخلصون لمبادئهم وأهدافهم، لهذا حقق بهم معاوية –بإرادة الله- انتصاراته على أهل العراق.
وأهل العراق الذين ينضوي تحت قبائلهم الثوار المتهمون بقتل عثمان رضي الله عنه لم يربط بينهم روابط دينية محددة، فيوجد في صفوفهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين، ويوجد الشيعة التي تبلورت لديهم نظرة متطرفة حول الإمامة، وأصبح البعض منهم يرى أن الخلافة إنما هي قصر على آل البيت دون سواهم، وأصبح مذهبهم يميل إلى السرية ، علاوة على كثرة أهل الشقاق، ومحبي الفتن في هذا الإقليم، والذين كانوا أحد الأسباب في خذلان علي رضي الله عنه، وكانوا مصدر أذى وبلاء عليه وعلى أبنائه من بعده .
وأما أهل الحجاز، ففيهم الصحابة وكبار التابعين، أهل الفقه والراسخون في العلم ويعتبر الحجاز في تلك الفترة المكان الذي يمثل الإسلام أحسن تمثيل، فلا يوجد فيه أصحاب العقائد الفاسدة، ولم تظهر فيه المنكرات والبدع، وكانت بيئة أهل الحجاز بيئة علم ودين وتقى لوجود الصحابة وأبنائهم في كل من مكة والمدينة.
ويبرز من أهل الحجاز أبناء الصحابة الكبار أمثال الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، كأفضل المرشحين ليتولى أحدهم الخلافة بعد معاوية رضي الله عنهم .
وهنا يبرز سؤال ملح وهو، لماذا إذاً لم يرشح معاوية أحداً من هؤلاء الأربعة ؟
وللإجابة على هذا السؤال فإنه يلزمنا الرد على سؤال آخر يطرح نفسه: وهو من هم أهل الحل والعقد الذين يمكن لهم اختيار الخليفة ومن ثم مبايعته ؟
ولكي لا نبعد عن الحقيقة يمكننا أن نقول: إن تطبيقات النظام السياسي في الإسلام لم تأخذ حقها من الممارسة الطويلة حتى تتضح الصورة بجلاء حول اختيار الخليفة؛ والخلافة وما يتعلق بها من أحكام.
فمن هم أهل الحل والعقد في عهد معاوية؟ أتراهم أهل الشام الذين يمثلون الثقل السياسي والعسكري والقيادي في الدولة؟ أم هم أهل الحجاز؟ وهل يدخل في نطاقهم الأنصار وغيرهم، أم هم قريش فقط ؟
ومن أهل الحل والعقد في العراق، أتراه الأمير المعين من قبل الدولة وأمراء الجند؟ أم هم زعماء القبائل العربية مع ما يمثلون من اختلاف في مشاربهم واتجاهاتهم ؟
ومن يا ترى أهل الحل والعقد في مصر، هل هم العثمانية الذين برزوا كقوة مناصرة لمعاوية وأهل الشام أثناء النـزاع بين علي ومعاوية؟ أم يكونوا أمراء الجند ومن ينضم معهم من عليه القوم هناك ؟
في الحقيقة إننا لا نستطيع أن نحدد بدقة أهل الحل والعقد في كل بلد؛ ومن ثم يبدو افتراض أن معاوية سينجح في جمع الكلمة على رجل واحد أشبه بالمستحيل.
فأهل الشام ينظرون لأهل العراق كموطن للثوار الذين اغتالوا عثمان، وليس من المعقول أن يتنازل أهل الشام عن مكاسبهم ومبادئهم التي قاتلوا من أجلها وهي نصرة الخليفة المظلوم والأخذ بثأره .
فكيف يمكن لأهل الشام أن يسمحوا بترشيح شخص يحظى بدعم أهل العراق.
وأهل المدينة خصوصاً وأهل الحجاز عموماً ينظر الشاميون لهم على أنهم يشتركون اشتراكاً فاعلاً في تحمل المسؤولية عن قتل عثمان رضي الله عنه، فقد حوصر أكثر من شهر ثم تسور الثوار المنـزل عليه وقتلوه بين أظهر أهل المدينة، فإذاً ليس من المعقول –حسب نظرة أهل الشام- أن يقبلوا بمرشح من أهل المدينة.
هذا تقريب لنظرة أهل الشام لمن سيكون مرشحاً للخلافة من هذه الأقاليم.
ولا تبعد كثيراً نظرة أهل العراق عن نظرة أهل الشام فيمن سيكون خليفة بعد معاوية رضي الله عنه . أهل العراق يؤيدون بقوة الحسين بن علي رضي الله عنه، ومن الصعوبة أن يقتنعوا بشخص آخر يحل محله .
ثم إن الأشخاص المرشحين لن يحظوا بتأييد كامل من أقرانهم، فالأمويون لا يرغبون في تحول الخلافة لشخص من غيرهم، فهم أكبر قبيلة في قريش، وهم أهل السيادة والإمارة، كما أنهم على خلاف مع بعض أبناء الصحابة في المدينة.
ثم إن نفس المرشحين للخلافة الذين يفترض أن الخلافة ستنحصر في أشخاصهم لم يجمعوا أمرهم على شخص بعينه، بل إن كل واحد منهم يرى في نفسه الأحقية والآهلية التي تجعل منه خليفة للمسلمين .
وحتى ابن عمر رضي الله عنه الذي ربما اجتمعت عليه الآراء، ويجمع غالب المسلمين على ترشيحه، موقفه من الخلافة معروف، وهو من أزهد الناس فيها .
وحسماً للخلاف الذي ربما أدى بالأمة إلى نزاعات جديدة، وفتح ثغراث في كيانات الدولة، نظر معاوية إلى ابنه يزيد على أنه المرشح الذي سيحظى بتأييد أهل الشام الذين يمثلون العامل الأقوى في استقرار الدولة. وقد أبرز معاوية رضي الله عنه السبب الذي دعاه لاختيار ابنه يزيد وذلك أثناء جمع التأييد له من كبار أبناء الصحابة رحلته الأخيرة للحج، إذا كان الدافع لمعاوية رضي الله عنه عندما سارع في أخذ البيعة ليزيد هو خوفه من الاختلاف، الذي قد يطرأ على الأمة بعد موته، وربما تنخرط في قتال جديد لا يعلم سعته ومداه إلا الله عز وجل .

ثانياً: السبب الاجتماعي (قوة العصبية القبلية) :
لقد خاض معاوية رضي الله عنه الحرب، وتولى الخلافة بنصرة من أهل الشام، وكانوا من أشد الناس طاعة لمعاوية ومحبة لنبي أمية.
كانت عندهم نظرة متأصلة تجاه أهل المدينة وأهل العراق، بأنهم السبب في قتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه .
ومن الدلائل على تلك الطاعة والمحبة هو أن معاوية رضي الله عنه لما عرض خلافة يزيد بن معاوية على أهل الشام وافقوا موافقة جماعية ولم يتخلف منهم أحد، وبايعوا ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه .
هل كان أهل الشام يرضون بأن يتولى الخلافة أحد غير بني أمية، بالمقابل هل سيرضى كثير من أهل العراق أن يتولى الخلافة رجل من غير آل البيت؟ لقد كان هناك شعور قوي بأهمية بقاء الخلافة في بني أمية، وفي بلادهم.
فمثلاً لما بايع بعض أهل الشام لابن الزبير اعترض كثير من أشراف أهل الشام على ذلك وقالوا: إن الملك كان فينا فينتقل إلى أهل الحجاز لا نرضى بذلك.
وكانت الدولة الإسلامية في بدايتها - أي في عصر الخلفاء الراشدين - يسيطر عليها الوازع الديني ، إلا أنه منذ خلافة معاوية كانت العصبية قد قويت، والوازع الديني قد ضعف في النفوس واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً، وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف.
إن نظرة ابن خلدون هذه واستنتاجه لجدير بالاحترام والتأييد، وخصوصاً وأن ابن خلدون خاض الحياة السياسية ودخل في غمارها، فاستنتاجه هذا مبني على تجربة، هو أدرى بظروفها ونتائجها.
وبالذات فإن منعطفات السياسة، يكتنفها في الغالب الغموض وعدم الوضوح، فليس بوسع أي شخص أن يدرك هذه الحقائق منذ الوهلة الأولى.
ثم لا ننسى قوة قبيلة كلب من حيث الوجود والكثرة بين قبائل أهل الشام، وهم أخوال ليزيد.
وإذا أردنا أن نميز قوة القبيلة وبالذات قبيلة كلب، ودورها في تقرير السلطة، لنتذكر ما عمله حسان بن مالك بن بحدل سيد قبيلة كلب وهو من أخوال يزيد، هذا الزعيم القبلي هو الذي شد الخلافة لمروان بن الحكم فيما بعد.
ويذهب إبراهيم شعوط إلى إعذار معاوية فيما اتخذه من العمل على أخذ البيعة ليزيد فيقول: "لما كانت العصبية والقوة في بني أمية، فقد أصبح تصرف معاوية بتولية يزيد أمراً طبيعياً يقره المنصفون ويحرص عليه العقلاء".
ثم إنه من الناحية العلمية كان نقل الخلافة من الأمويين إلى غيرهم في ذلك الوقت مطلباً يكاد يكون مستحيلاً، فالولاة على الأقاليم كانوا من بني أمية أو من أتباعهم، وإسناد الخلافة إلى أحد من أبناء الصحابة في الغالب هو عزل لهؤلاء الولاة، وقد يرفض البعض قرار العزل، ثم ستتكرر معارك الجمل وصفين على نطاق واسع.
ومن الدلالة على قوة العصبية في بلاد الشام لبني أمية، أن مروان بن الحكم تمكن من الانتصار بأهل الشام على عمال عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بعد ذلك ابنه عبد الملك بن مروان، حتى تمكن من الانتصار بأهل الشام على ابن الزبير وقتله عام 73 رضي الله عنه، ومع ذلك لم نجد أهل الشام انقادوا لابن الزبير، بل إن أهل العراق غدروا بأخيه معصب بن الزبير ومالوا مع عبد الملك بن مروان ، فلماذا لم تجتمع الأمة على ابن الزبير وهو في ذلك الحين لا يشاركه أحد في فضائله ومكانته ؟ بل نجد العكس: أن عبد الملك بن مروان الذي يعتبر في السن كأحد أبناء عبد الله بن الزبير، تمكن من تولي زعامة المسلمين.
ثالثاً: أسباب شخصية في يزيد :
لقد تجلت في يزيد بعض الصفات الحسنة من الكرم والمروءة والشجاعة والإقدام، والقدرة على القيادة، هذه المزايا جعلت معاوية ينظر ليزيد نظرة إعجاب وإكبار وتقدير.
وليس معاوية ذلك الرجل الذي يجهل صفات الرجال ومكانتهم، وهو ابن سلالة الإمارة والزعامة في مكة، ثم هو الذي قضى أربعين سنة من عمره، وهو يسوس الناس، ويعرف مزايا القادة والأمراء والعقلاء، ويعرف لكل واحد منهم فضيلته.
لا شك أن الصحابة وأبناءهم أفضل من يزيد وأصلح، ولكن مع ذلك فإن معاوية ربما رأى في ولده مقدرة لم تكن لغيره في قيادة الأمة، بسبب عيشته المتواصلة مع أبيه، ومناصرة أهل الشام وولائهم الشديد له، ثم اطلاعه عن قرب على معطيات ومجريات السياسة في عصره وقد أنس معاوية رضي الله عنه من ولده يزيد حرصاً على العدل، وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة فيرد عليه يزيد بقوله: "كنت والله يا أبة عاملاً عمل عمر بن الخطاب".
لقد كان معاوية رضي الله عنه يدرك أن كثيراً من المزايا موزعة بين الشباب القرشي، وأن هذه المزايا مع تلك الطموحات الشخصية التي ظهرت فيما بعد ربما تدخل الأمة في حروب وفتن كثيرة، فمع أن يزيد يشارك بعضهم في بعض ما يمتازون به إلا أنه يمتاز عليهم بأعظم ما تحتاج إليه الدولة، أي القوة العسكرية.
بيد أن معاوية يرى هذا التدبير على ما فيه من غمط حقوق الكفاءة للخلافة أضمن لسلامة الدولة، وتتقى به شرور قد تستطير بين الناس كلما مات لهم خليفة، أو قوي أعداؤه فأرادوا استلاب الخلافة منه، ويخشى إذا ظل المسلمون على تناحرهم، أن يجمع أعداؤهم شملهم، ويعيدوا الكرة عليهم في صميم جزيرة العرب، والله أعلم ما تكون النتيجة على الإسلام والمسلمين.
ولايُتهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمور على النظر لهم في حياته، فأحرى أن لا يحتمل فيها تبعته بعد مماته، خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد، أو لمن خصص التهم في الولد دون الوالد.
فإنه بعيد عن الظن في ذلك كله، لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة، أو توقع مفسدة، فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً، كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب.
قال ابن بطال: "وعقد الخلافة من الإمام المتولي لغيره بعده جائز على عامة المسلمين لإطباق الصحابة ومن معهم على العمل بما عهده أبو بكر لعمر، وكذا لم يختلفوا في قبول عهد عمر إلى الستة: وهو شبيه بإيصاء الرجل على ولده لكون نظره فيما يصلح أتم من غيره فكذلك الإمام"
لقد كان ابن عباس يشهد ليزيد بالفضيلة، وبايعه، وكذلك بايعه ابن عمر، ولم يبق إلا الحسين بن علي الذي كان رضي الله عنه يغرر به أهل الفتن في حياة معاوية، ونهاه الحسن عنهم، وعزم على الذهاب لهم بعد وفاة معاوية، وقد حذره الصحابة ونهوه عن ذلك فأبى عليهم وحدث ما حدث.
أما ابن الزبير رضي الله عنه عنه فكان معاوية يحذره من تصرفاته، ثم تمنى أخيراً بعد الحصار أن معاوية حياً فيخلصه مما هو فيه، وندور المخالف معروف.
معاوية رضي الله عنه وولاية المفضول مع وجود الفاضل .
لقد عدل معاوية عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء، الذي شأنه أهم عند الشارع، ولا يظن بمعاوية غير هذا ؛ فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك.
لقد كان النجباء من أبناء الصحابة كثير، منهم: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير والحسين بن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم ، ولم يكن أبناء الصحابة فيما بينهم يجمعون على شخصية واحدة، فهذا ابن عباس لم يبايع ابن الزبير بعد وفاة يزيد بن معاوية ومبايعة كثير من الأقطار له. بل كان يوجه إليه الانتقادات ويلومه في بعض أعماله.
وكذلك محمد بن الحنفية، وابن عمر لم يبايعا ابن الزبير، إذاً فمن الذي يضمن تراضي جميع الأطراف على شخصية واحدة؟!
لقد اشترط الفقهاء شروطاً عديدة فيمن يصلح للإمامة من ضمنها القرشية، والاجتهاد، والعدالة، والعلم والقوة، والسياسة، والحنكة، وحسن التدبير وغيرها.
ويروى عن الإمام أحمد إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل.
والذي يظهر من سيرة عمر في عمّاله الذين كان يؤمرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فلأجل هذا استخلف عمرًا ومعاوية والمغيرة بن شعبة، مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم، كأبي الدرداء في الشام وابن مسعود في الكوفة.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأبعث الرجل وأدع من هو أحب إلي منه، ولكن لعله يكون أيقظ عيناً وأشد بأساً أو قال مكيدة".
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب مع أنه أحياناً يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو ذر أصلح منه في الأمانة، والصدق، ومع ذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحبُ لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم".
فنهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه يراه ضعيفاً.
وكذلك استعمل أبو بكر خالد بن الوليد، مع أنه يرى منه هفوات، ولم يعزله من أجلها ، بل ذلك لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه.
ونزع شرحبيل بن حسنة وقال: "تحرجنا من الله أن نقرك وقد رأينا من هو أقوى منك".
وعن ثابت مولى سفيان قال: سمعت معاوية وهو يقول: "إني لست بخيركم وإن فيكم من هو خير مني: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم وأعلمكم ولاية، وأحسنكم خلفاً".
فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب، الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف، وإن كان أميناً. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها .
"سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يُغزى مع القوي الفاجر".
ومعظم المقصود من نصب الأئمة حياطة المسلمين، ودفع عدوهم، والأخذ على يد ظالمهم، وإنصاف مظلومهم وتأمين سبلهم، وتفريق بيت مالهم فيهم، على ما أوجبه الشرع، فمن كان ناهضاً بهذه الأمور ونحوها فبه يحصل مقصود الإمامة، وينتفع الناس بولايته، ويشملهم الأمن والدعة، ويطيب عيشهم، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم، وحرمهم، وإن كان غيره أكثر علماً منه، أو أوسع عبادة، أو أعظم ورعاً ؛ فإنه إذا كان غير ناهض بالقيام بهذه الأمور، فلا يعود على المسلمين من علمه أو ورعه وعبادته فائدة، ولا ينفعهم كونه مريداً للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه.
وقال الجويني: "والذي صار إليه معظم أهل السنة أن يتعين للإمامة أفضل أهل العصر إلا أن يكون في نصبه هرج وهيجان فتن، فيجوز نصب المفضول، إذا كان مستحقاً للإمامة، كيف ولو تقدم المفضول في إمامة الصلاة لصحت الإمامة".
وهكذا يتضح لنا من خلال النصوص السابقة أن ولاية المفضول ثابتة وجائزة شرعاً.
ويزيد بن معاوية لا شك أنه مفضول وليس بالأفضل مع وجود كبار الصحابة وأبنائهم رضي الله عنهم، ولكن هناك بعض الأسباب التي حاولنا مناقشتها والتي ظهرت لنا من عزم معاوية على تولية يزيد، وأيضاً هناك بعض الأمور التي قد تخفى علينا والتي من أجلها أكد معاوية بيعة يزيد " . انتهى . وتُنظر - أيضًا - : رسالة " العالم الإسلامي في العصر الأموي " للدكتور عبدالشافي محمد عبداللطيف ، ص 129-

أما المواجهة الأخوية مع الدكتور فتجدونها على ( هذا الرابط )
 

سليمان الخراشي
  • كتب ورسائل
  • رسائل وردود
  • مطويات دعوية
  • مـقــالات
  • اعترافات
  • حوارات
  • مختارات
  • ثقافة التلبيس
  • نسائيات
  • نظرات شرعية
  • الصفحة الرئيسية