اطبع هذه الصفحة


سفر...أحيا الله به أمة

 خالد حسن

 
 وقد جسد الشيخ، شفاه الله، موقف أهل العلم قديما وحديثا الذين يرقبون كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة والحجج. وإذا قص علينا التاريخ أن فريقا من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قص علينا أيضا أن أمة من عظمائهم، ونحسب أن الشيخ سفر منهم، كانوا ينظرون في الشئون العامة، ويوجهون الأمة بحكامها وشعوبها.

تشهد الأمة، ولا ينازع في هذا إلا مكابر أو جاحد، أن الشيخ سفر تحمل عبئا عظيما من مسئولية إصلاح ما يعانيه المسلمون من واقع مرير، في مسائل الاقتصاد والأخلاق والسياسة واستبداد النصارى واليهود بشئون الأمة كلها، وبإبعاد العلماء عن تيار الحياة العامة وشئون المسلمين ومصالحهم.

وقد جسد الشيخ، شفاه الله، موقف أهل العلم قديما وحديثا الذين يرقبون كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة والحجج. وإذا قص علينا التاريخ أن فريقا من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قص علينا أيضا أن أمة من عظمائهم، ونحسب أن الشيخ سفر منهم، كانوا ينظرون في الشئون العامة، ويوجهون الأمة بحكامها وشعوبها.

ومن حق الأمة أن تعرف الأسباب الحقيقية لإبعاد أحد مصلحيها وعلمائها العاملين من التواصل مع عموم الأمة، في الوقت الذي يحاول فيه الإعلام الموجه أن يرسم ملامح وصورة لرجل الإصلاح، يسوق لها أو في أحسن الأحوال يخلي بينها وبين أدوارها، ويشوه ما عداها، بينما يضيق التيار الليبرالي ذرعا بالهامش المتاح إذا علا فيه صوت الإصلاح متجاوزا حدود "المناطق" المتاحة أو شعر بنوع من التهديد أو المزاحمة في مجال تأثيره ونفوذه، بينما يمارس حراس "الإرث" وحماة "التركة" من بعض رموز المؤسسة الدينية الرسمية وصاية على تدين الناس وعقولهم فيحجرون على هذا ويسكتون ذاك، ويتأففون من كل مغرد خارج السرب، إلى جانب أطراف أخرى ذات نفوذ تتحرك في الخفاء لقطع الطريق على رأي سفر، وباختصار، فإن المطلوب هو التحرك وفق ما هو مسطر وعدم تجاوز السطح إلى الخوض في التضاريس. وتتنوع الاجتهادات داخل التيار الإصلاحي، فالبعض لا يرى غضاضة في مسايرة هذه الموجة بهدف تثمينها وتوجيهها، بينما يرفض البعض الآخر إفراغ القضايا من محتواها واختزال الملفات الشائكة والعالقة في إجراءات "استهلاكية" والانخراط في سياسة الإلهاء. ومحنة الشيخ سفر الحوالي القديمة-الجديدة مع الأطراف الأربعة المحتكرة للموقف وللمشهد العام في بلاد الجزيرة، حيث يواجه تحالفا غير مرئي وربما غير مبيت بين هذه الدوائر التي اقتحمت —بين مقرر ومسوق ومتملق- عهدا "جديدا" من الحوار وبعض التغييرات الإجرائية بعقلية قديمة موروثة، يساندهم في هذا أصحاب المصالح المتنفذة في الداخل والخارج.

قيمة الشيخ سفر الحقيقية العلمية والعملية أنه لا يفكر مثلما يفكر أكثر القوم ولا ينظر إلى القضايا الشائكة مثلما ينظر إليها الآخرون، إنه يفكر بعمق.. بخلفية شرعية راسخة وإطلاع معرفي واسع ووضوح للموقف العقدي، مشكلة سفر أنه لا يتوقف عند النتائج ولا يغرق في الملابسات، وإنما ينبش عن الجذور ويغوص في الأعماق، الأمة كلها هبت للحديث عن الغلو، مظاهره والتحذير منه، لكنه مع هذا الإبراز خرج عن المألوف والموروث وناقش الأسباب والدوافع والبيئات التي تفرخ مثل هذا السلوك والفكر، لأن معالجته لهذه القضية وغيرها من القضايا المطروحة على طاولة النقاش تفرض نوعا من الجرأة والصراحة وإعادة النظر في بعض مفردات الوضع القائم والمكرس، وهذا ما لا يقبل به أصحاب المصالح من الأطراف الأربعة. وضجت الساحة عندما دعا إلى مصالحة بين طرفي الصراع في البلد: النظام وجماعات العنف، وتحركت كثير من الدوائر هنا وهناك لإجهاض المشروع في مهده، رغم أنه بهذه المبادرة اختصر على حكام الجزيرة كثيرا من الوقت والجهد الضائعين، وحاول أن يحفظ للأمة ما تبقى من مقدراتها التي استنزفت في خضم معارك خارج دوائر الصراع الحقيقية، وفيما ركز كثير من أهل الإصلاح على دفع اعتداء وافتئات جماعات العنف، وجه الشيخ سفر خطابين لطرفي النزاع، لأن كليهما معني بمراجعة سياساته، حتى لا تتم معالجة الظاهرة بعيدا عن أطرافها ومسبباتها.

واجه الشيخ سفر العواطف النواسف...لأنه أدرك أنها تستنزف كل المستقر في الأعماق إذا تأججت، وهذا يعني أنها بحاجة إلى هدف "واضح" و"ممكن". وأدرك أن الاهتمام بنضوج العمل الإسلامي في أقطار كثيرة، قد ينتهي إلى تمكين، ومشاريع الأنظمة المشبوهة تتعثر، والمعادلة الدولية قد تتبدل كما تبدلت من قبل وتكون ثغرة نلج منها، والإسناد الإسلامي بدأ، ثم ما ذُكر من مظاهر القصور نشاز أصلاً وحدث في سنوات غفلة وفراغ، والموازين القرآنية تملأ القلوب ثقة وأملا، رغم ما يظهر من أن القضية اليوم هي أقـوى من الجهد الدعـوي بل وأقوى من الحكومات الإسلاميّة لو تحقق الحكم الإسلامي في بعض البلاد، مع التذكير بأن العهد الذي نحياه يمثل مرحلة متقدمة في وعي الأمة منذ العهد الأموي.

وواجه الأفكار الجبرية، "التي تضعف من قدرة الفرد والأمة على مواجهة الانحراف، ومواجهة الطغيان، ومواجهة الاحتلال ، تحت شعارات مؤداها السلبية في الفرد المسلم، وشعوره بالهامشية وعدم وجود دور تاريخي له. وترسخ الأفكار الجبرية سلبية الناس وعدم قدرة العالم والحاكم والمحكوم على مواجهة الحياة وممارسة دور فاعل فيها. وهذا يسمح لأعداء الأمة وخصوم الحق وقادة الانحراف والتبعية أن يتحركوا في الفراغ العلمي والفكري والسلوكي، الذي تصنعه أفكار الجبرية".
وواجه الشيخ سفر تحدي المعالجة العلمية لبعض الانحرافات الفكرية أو السلوكية (ففرق بين الغلو والتكفير) باعتبارها البديل لنظرية الاستئصال الأمني التي تعتمدها دوائر الحكم، وما تتطلبه من حرية التعبير والحركة، وكذا تحدي الظهور كمن تستعين به دوائر الحكم عند الضرورة والحاجة القصوى.

وواجه سفر تيارا من الناقدين الناقمين، يرفع أقواما ويضع آخرين، إذا آثرت الصمت طلبا لمزيد وضوح واكتمال نضج للرؤية والموقف بما لا يؤول إلى الإغراق وفرط التقدير، انتقدوك واستباحوا جلدك، و إذا جاهرت بموقفك وأفصحت عنه حقَروا رأيك وحطَوا من قدرك، أحيانا بطريقة مهذَبة بدعوى رفض الوصاية والمشيخية، وأحيانا أخرى بأسلوب تهكمي وتشنيعي. وهم في هذا يمارسون وصاية ينكرونها، ويقتاتون من عثرات غيرهم وتتبع الزلة والنبرة شبرا بشبر وذراعا بذراع، لتأخذ بعدها العملية شكل التعليق والاستطراد والتقويم والوقفات. يريدون أن يعبر غيرهم عما يدور في عقولهم، بعبارات متطابقة لما يشتهونه!

وتطرفات البعض أنستهم حقائق وسنن، فكان منهم المصدوم الذي هزته تجربته، فقاس وعمم بلا قيد ولا ضابط، وكان منهم العجول المتساهل الذي أفرط في حسن التقدير وتوزيع الجهد!، و تعكس الانتقادات -غير المنصفة- خاصة الموجهة لمواقف ورؤى الشيخ سفر ثنائيتين تشوب حالة الوعي والنضج التي تسري في كيان هذه الأمة بأقدار متفاوتة، أولاها الإحباط سريع الاتهام، وثانيها التساهل والاختزال المميع.

والمسارعة العجولة قد تكون ضد غايتنا وما نريد من الإصلاح للأمة والدعوة لغيرها، فالموقف المنفعل السريع يندم عليه قائله وكاتبه بأسرع مما فكر فيه. ولهذا فقد نسكت أو نتأخر إن لم يكن عندنا موقف واضح، أو كان عندنا ولن نستطع وضع الصياغة النهائية الأنسب للموقف.

نحن نمر بظروف صعبة على المسلمين، وقد يطالبنا الجمهور والأتباع والمستهلكون للمادة الإعلامية بعنتريات وصراخ وشدة، وتهديد للشرق والغرب، وكلما جاريناهم طلبوا منا صوتا أعلى، ولا يعود ما قيل سابقا مرضيا لهم، بل سيطالبون بشدة وقوة في الخطاب أكثر كل مرة، وزيادة في العيار دائما حتى تكون الكلمات جذابة مقبولة ومؤثرة. ولكن بعد ذلك، إن ضعفنا عن شهوتهم لامونا ثم تركونا، وإن لقينا مشكلة بسبب هذه العنتريات قالوا لنا بعد استجابتنا المستمرة لطلباته "أعانكم الله"!!.
والشيخ سفر وضع حدودا لحراكه، في حدود ما يقتضيه دينه، وإمكاناته لتحقيق ذلك.... وربما وجد الشيخ نفسه مخيرا بين موقف واحد يشبع فيه رغبة الجمهور أو يبلغ رسالته وبين زمن طويل وأعمال كثيرة مثمرة قد يقضي على إفادتها موقف صغير غير محسوب. يستطيع أي منا أن يقول كل ما يخطر بباله، أو يستجيب لصارخ مكروب فيوفر له منبرا، ولكن من المهم أن نفكر فيما بعد هذه اللحظة، وما ينبني على هذه الاستجابة.

ولا أظن أنه فيمن تصدى للإصلاح اليوم واشتهر بعلمه وعمله وصدقه يرضى بالخنوع للحكومات الفاسدة المستولية، وبمنطق استتاب الأمر للمفسدين، بل المعروف عنهم أنهم يقاومون ويثقون بنصر الله إن استوفوا شروط التمكين والنصر، وطبيعة العقيدة الإسلامية الحقة "لا تدع أحدا يتوارى" كما يقول سيد قطب رحمه الله. وإن الدعوة لتعديل في الخطة والاهتمامات، تقتضيها اليوم تعقد المجتمع الحديث وإيغال الشبهات والشهوات في التأثير، كما تستلزم - سواء بسواء - تكاملا وتواصلا بين القيادات العلمية وأهل الخبرة والمؤسسات الفكرية والدعوية والمراكز المتخصصة، وفنونا ومهارات.. وإن الباطل ممتد العروق ومشاكس طويل الأنفاس، وفي جمهور المسلمين خير كامن أصيل وافر، والكمال عزيز ونادر.

ولقد علمتنا التجارب دروسا غير التي كانت تمليها علينا التصلبات المعاندة والاندفاع البريء، ولقنتنا التجارب، أن نصبر على الغافل الشهواني ابن يومه إن نازعه صاحب الخطة البعيد الأهداف، ومن لقنته الأيام ووعظه طول المراس بمثل هذه الموازين كان حريا به والأولى له أن يحرص على أي جهد إسلامي في المجتمع والحكم مهما صغر حجمه أو خالطه دخن، ونرجو أن يتولد من هذا التأثير ضغطا يتنامى في اتجاه الإصلاح والتقويم السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي نبتغيه.

ومن المهم أن نقر بمنهج الغايات القصيرة المتكاملة، وتجزئة الخطة إلى أهداف متتالية، ونستكمل كفاية القوة، وملاءمة الظرف، كما أن اعتبار المآل مقصود معتبر شرعا، وأن نحرص على تعميم الوعي لدى قطاعات واسعة من الناس وقناعة بضرورة التغيير والإصلاح، وما يليق ببيئة وواقع قد لا يناسب بيئة أخرى، والمحاكاة الساذجة مكلفة، ومما نتواصى به، أن لا نصب جام غضبنا على رجال الإصلاح ونتهمهم بالعجز والنكوص تنفيسا لحماسة متأججة وامتصاصا لردة الفعل التي تهزنا عند رؤية انتفاشة الغير أو خذلان إخواننا. ولا نتوهم معارك ونصارع خارج حدود الحروب الحقيقية، ونهدر أوقاتا غالية في تبين ما إذا كانت قيادات الإصلاح تلبست بتقصير بالأمس واليوم أم أنها فعلت الذي بوسعها ونتهم أو نحكم بالبراءة، ولا نعترف بغير مذهب الاقتحام والرصاص مذهبا، ونكون بهذا قد حجرنا واسعا.


المصدر - مجلة العصر
 

سفر الحوالي
  • كتب ومحاضرات
  • مقالات ورسائل
  • مطويات دعوية
  • الصفحة الرئيسية