اطبع هذه الصفحة


تفسير داعش

د محمد السعيدي
‏@mohamadalsaidi1


بسم الله الرحمن الرحيم


يتساءل البعض عن سر العقول التي يستطيع الإعلام الداعشي تجنيدها ، وكيف تغتال دعايتهم عقول البعض وقلوبهم وعزائمهم فيسقط عندهم الدليل الشرعي والمنطقي والواقعي وكأنهم جاءوا إلى الدنيا من غيابة الجب أو ينظرون الى الكون بأسره من أنبوب صدئ .

وكي ندرك سبب هذا الانهيار العقلي الذي يصيب أتباع هذا الفكر لابد أن نستحضر أن السَحَرةُ والمشعوذين والأفاقين منذ الأزل وإلى أن يشاء الله يعتاشون على أصحاب العاهات النفسية والأمراض القلبية ، ويُسَوِّقون إفكهم عبر تضخيم الأوهام وتقريب الأماني ،ويعبثون بالتناقضات التي تعترضهم ،فتارة يَجِدُون مصلحتَهُم في إبرازها وتجليتها وتكبيرها وتارة يجدون مصلحتهم وترويج شرِّهم في ادِّعائها ، أيْ : زعمُ ماليس بمتناقض متناقضا ، وتارة يجدونَها في طمس هذه التناقضات وإرغام العقول على تقبل الجمع بينها واعتبارِ تلك التناقضات أصلاً والاتساق تناقضا.

وحين تتأمل رواد المذاهب المنحرفة عن شرائع الله تعالى أو المتمردة على الفطرة الإلهية للإنسان نجد أن بواطنهم لا تختلف كثيراً عن أولئك السحرة والمشعوذين ، لكن مُرِيدِي الفريقين يختلفون في عمق مُصَابِهم من تلك العاهات والأمراض وفي مُسْتَقَرِّها من قلوبهم وأذهانهم.

ويُمكنني وبكل يُسر أن أُطَبِّق هذه القاعدة على السحرة وأتباعهم كما أُطبقها على رُوَّاد الانحراف الديني والفِطري والفِكري ومريديهم من أول الدهر حتى زماننا ولا أظن ذلك ينخرم إلا في النادر الأقل وربما لا ينخرم البَتَّة.

والمُتَّكِئُ على أَرِيْكَتِه حين يقرأ هذا الكلام قد يُحَرِّكُ شفتيه عَجَبَاً أن يَكُون على الأرض عاقل يقبل بتصور اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما فضلاً عن أن يعتقد أن التناقضَ أصلٌ وأن الاتساقَ تناقضٌ، لكن ما نَصْنَع ، فهاهي أمامنا البشرية جمعاء ، وغالب انحرافاتها عن منهج الحق : تفريق بين متشابهات أوجمع بين متناقضات ، أو تصوير للأوهام في صورة الحقائق ، أو اتِْبَاع لأحلام لا تخدِمُها أدواتُ الواقعِ ، أو الجمع بين ذلك كُلِّه.

فكل انحراف عقدي أو فكري أو فِطْري إنما يُلْتَمَسُ رواجُه عند فئة ممن يمكن تسميتهم بالمرضى ، حيث يبحث رُوَّاد ودُعَاةُ هذا الانحراف مَوَاطِنَ المرض في فئة من الناس والضعف والانكسار فيهم ، فيؤسسون تعاليمهم بناء على تلك الاحتياجات الَمرَضِيَّة ، وليس الاحتياجات العلاجية ، فدُعاة الانحراف الفكري يجدون في هؤلاء المرضى فئة مؤهلة وحدها لتجاوز كل العوائق المنطقية والإيمان بأي فكرة عوجاء دون الالتفات إلى مبانيها العقلية .

فالماركسية مثلاً انحراف عقدي وفكري وفطري ، لكنه لاقى رواجاً عند فئات كبيرة من الناس في شتى أنحاء العالم ، ومنها البلاد الإسلامية ، بل والمملكة العربية السعودية ، وكان معتنقوا هذا الفكر مرضى حالمون ، لا تكاد تجد منهم أحداً إلا وهو مُصَابٌ بداء الحِقد ، إما على الدين والأعراف والتقاليد ، أو على الأغنياء والحكومات ، وكذلك هم حالمون بعصر يستطيع فيه الإنسان أن يعيش بسلام دون الحاجة إلى كل هؤلاء، فلا أغنياء ولا أديان ولا عوائد ، ووجد في نظرية ماركس ما يلبي حاجاته المَرَضِيَّة ، فهي نظرية تُفَلْسِف الحقد على الديانات والعوائد والأخلاق وتُصَوِّره المِثال الذي ينبغي تَطَلُبُه ، وما عداه هو الشر المحض الذي ينبغي سحقه ، وقد تممت الماركسية تلبية حاجة النفوس الحاقدة ، بقولها بحتمية الثورة الحمراء التي تقتل كل المدافعين عن الطبقات الغنية أو الماضي الرجعي في مواجهة المد التقدمي .

وكانت تعاليمُ الماركسية حشداً من الأفكار المناقضة لمُسَلَّمات العقل ومُسَلَّمات الفطرة ، ولا تحمل أي شئ مغرٍ سوى تكوين حُلُم يستحيل جعله واقعاً ، لكنَّ الشُعورَ باستحالة وُجُوده يتضاءل بل يضمحل أمام تلك النفوس المُعَبأة بالأحقاد والتي استطاعت الدعاية الماركسية إسكانها في عالم من الأحلام ، لذلك كان دُعاة الماركسية في كل مكان يعملون على نشر النظرية عبر مسلكين لا ينفصل أحدهما عن الآخر:التعبئة بالحقد على الطبقات والحكومات ، والتغني بالحلم القادم وهو عالم العدالة والحريّة والمساواة، والربط بين هذين المسلكين يكون بإثبات أن الثاني أي: حلم الحرية والعدالة والمساواة يستحيل أن يتحقق دون سحق الطبقات للوصول إلى مجتمع المزرعة الجماعية ، والاستغناء التام عن وجود الدولة .

كانت الحروب الشنيعة والاضطرابات الفكرية والانهيارات السياسية وغيرُها من العوامل قد تضافرت بشكل غير مسبوق لإيجاد عالمٍ ممتلئٍ بالأمراض المناسبة لِتَقَبُلِ هذه المُعادلة الماركسية التي بلغ من نجاحها أن استطاعت تكوين العديد من الدول التي تسير وفق تلك النظرية ، منها دولتان عظميان [روسيا والصين] ودوّل كثيرة في مختلف القارات مما يسمى بالعالم الثالث ، حتى الدول التي بقيت محتفظة بآيدولوجيتها القديمة كانت مخترقة حتى النخاع بالعناصر الماركسية المريضة والتي تتغذى على الأحقاد والأحلام .

ومع مراعاة الفُرُوق التي يفرضها اختلاف الزمان والمكان والإنسان والجذور الآيديولوجية ، فإنني أجد تشابهاً مؤثِّراً من حيث مُحرِّكَات النشأة وبواعث الانتشار _لا من حيث التكوين الفكري_ بين القاعدية [ أي فكر القاعدة ومافرَّخَت من تنظيمات] والماركسية ، وذلك وفق المُنْطَلَق التي صَدَرْتُ عنه وصدَّرْتُ به حديثي.

فماركس صنع الأحلام لأتباع نظريته الممتلئين أو المُعَبَئين بالأحقاد والتي جعلتهم يفقدون البصيرة فلا يَرَوْن المدى الشاسع بين الحلم الماركسي والمعقول .

وكذلك القاعدة صنعت أحلاماً وردية عظيمة وسوَّقَت معها أحقاداً كبرى على العالم بأسره وليس على الحكومات الإسلامية ومن يتبعها ويدافع عنها من الشعوب والعساكر والقياديين وحسب .

حقاً هناك فرق كبير جداً بين الحلم القَاعِدي وبين الحُلُم الماركسي من جهة كون الثاني محض خيال لم يتحقق في يوم من التاريخ طيلة حياة الإنسان في هذه الأرض ، وإن كان ماركس قد زعم وجود عصر سماه العصر المَشاعي الذي كان بزعمه قبل وجود الأديان والطبقات على هذه الأرض ، وهذا محض خرافة ولا يمكن إثباته عبر التاريخ المكتوب أو حتى عبر علم الأحافير ، لكن قد وُجِدت في التاريخ اليهودي طائفة كانت تعيش في جنوب فلسطين ذكر المؤرخون التوراتيون أنهم كانوا يعيشون حياة تعاونية تشاركية لكنها لا تصل أبداً إلى ما كان ماركس يصوغه من أحلام ، كما أنها كانت عبارة عن مجموعة من البشر صغيرة الحجم ولم تكن شعباً، وأيضا انتهت تجربتها نهاية مأساوية لا تُشجِع أحداً على تكرارها.
لكن العيش في داخل الحلم كان إحدى الحوائل دون التفكير فيه بعلم وعقل .
أما الحُلُم القاعدي فله سند شرعي حاضر في ذهن كل مسلم ، كما أنه يُبَرْهَنُ بتجربة تاريخية عزيزة وغالية على كل مسلم ، وهذا السند الشرعي وذلك الوجود التاريخي هما العاملان الأساسان في سهوله تسويق ذلك الحلم .
فالخلافة الإسلامية والدولة الواحدة التي تجمع شعوب المسلمين من الصين وحتى جنوب غرب أوربا ، والتي يسترضيها ملوك العالم أجمع ويتنقل المسلمون في جميع أجزائها بكل حرية وانسياب ، تُقَدَّمُ للشاب على أنها مطلب سهل ووشيك الحدوث لم يَعُد يحول بين العالَم وبين تحققه سوى حفنة من الطواغيت المتسلطين على بلاد المسلمين ، والذين يُمْكِن وبِكُل يُسر اقتلاعهم بشئٍ من أشلاء الشباب ودمائهم وتضحياتهم ، وما إن يَتِمَّ اقتلاع هؤلاء الطواغيت حتى يُتِمَّ الله نصره وينجز وعده ويتوحد المسلمون في دولتهم العالمية .

هكذا كانت القاعدة تصوغ حلمها متجاوزة كل التحديات العالمية والإقليمية مُتَغَلِّبَة على كل عوامل الضعف التي يُعَاني منها المسلمون سواء أكان ذلك في مجال السياسة أم العلوم والتصنيع أم في الدين والأخلاق والاجتماع والاقتصاد .

بل إنها تصنع من عوامل الضعف تلك مادةً أوليةً مهمة في تمهيد أرضية صُلْبة من الحِقْد على الواقع في قلوب الأتباع ، فالحقد على الواقع هو الآفة النفسية والعاهة القلبية التي تُمَكِّن آلة التجنيد القاعدي من إقناع تلك العقول بضرورة تحطيم هذا الواقع وتحول بينها وبين النظر إلى أي مظهر جميل فيه ، وتجعلها تتجاوز وبسهولة كل ما ينتج عن إتلاف هذا الواقع من أخطار وآفات ومصائب.

إن إشعال نار الحقد المستعرة على الواقع والضيق الشديد به ثُمَّ وبشكل مباشر فرش بساط الأحلام يجعل عقول الأتباع تنبطح فوراً على هذا البساط ولا تلقي بالاً أبداً لكل التناقضات والصعوبات والخرافات التي تنتظمها هذا الأحلام .

عُد إلى تاريخ القاعدة لتجد أنها منذ ستة وعشرين عاماً وهي تُغْرِقُ أتباعها المُعَبَئين بالحقد الطاغي وغرقهم بالأحلام لدرجة جعلتهم ينسون الزمن الذي يتقدم بهم كل يوم دون أن يتقدموا شبراً واحداً في طريق مشروعهم وينسون المنطق حتى سقوط برجين سيسقط أمريكا والحضارة الغربية بأسرها ، وأن غزو أمريكا لأفغانستان سيجعل تلك البلاد الجبلية مقبرة له وأن تجمع بضع مئات منهم في جنوب اليمن سيكفل لهم إسقاط السعودية ودوّل الخليج جميعا ، وأن تجمع عشرات في نهر البارد كفيل بإسقاط الدولة اللبنانية وما يسمى بحزب الله ثم من بعده الكيان الصهيوني .

كل مشاريعهم واستراتيجياتهم وتكتيكاتهم ليس فيها القدر القليل من الحكمة والمنطق وحساب العواقب ، ومع ذلك تتقبلها عقول الأتباع بشكل يسير جداً ، لأن تلك العقول كما ذكرتُ لك سابقاً تقف على صدور يملؤها الحقد والضيق ، والقلوب الحاقدة تُحرك عقولها بعيداً عن المنطق الطبيعي الفطري المركوز في النفوس .

ويمكنك التوثق من ذلك بالنظر إلى دستورهم أو مدونة فكرهم الاستراتيجي وهو كتاب إدارة التوحش لخليل الحكايمة ، فالكتاب مكون من ١٣ فصلا خلاصتها : أن استراتيجيتهم تقوم على السعي لإعادة الناس لعصر التوحش حيث الفوضى الكاملة ، ومن هناك سينطلقون هم لإعادة الناس إلى الاستقرار ، وتجد أن غالب المنضوين من الشباب تحت لواء القاعدة مقتنعين بهذه الفكرة رغم أنها لا يمكن أن تصمد امام أي نقاش منطقي ، بل لا تستطيع الصمود أمام أي نقاش واقعي ، ففي الواقع استطاعت القاعدة فعلا النجاح في إيصال الصومال لعصر التوحش ومع ذلك لم تنجح في إدارة هذا التوحش والبناء من خلاله كما هو مشروع خليل الحكايمة ، وكذلك الأمر في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن .

وقد تسألني عن داعش وجاذبيتها وكيف تفوقت على القاعدة في الجذب والتجنيد ؟
فأقول : إن داعش قَدَّمَت للمتلقي والمتعاطف حقداً مضاعفاً على الواقع ، ووجدت مادة تناسب هذا الحقد من مزيد الابتلاء الواقع بالمسلمين فاستطاعت تضخيم الحقد في قلوب الأتباع ثم تكثيف مادة الأحلام التي تنبطح عليها عقولهم ، فبينما كانت القاعدة تَعِدُ أتباعها بالخلافة زعمت داعش أنها تُحَقِّقُ لهم هذا الوعد ، وسمَّت تنظيمها دولة وقائدها خليفة ووضعت العالم بأسره على خارطتها .

لهذا فداعش مثل أمها القاعدة ، ومثل السحرة والمشعوذين الذين تحدثنا عنهم أول المقال يستخدمون ذوي العاهات النفسية ، بل يصنعون العاهات النفسية وأعظمها الحقد والكراهية والضيق بالواقع واليأس من الحل ، ثم يضخمون الأوهام ويقربون الأماني ويعبثون بالتناقضات .

د محمد بن إبراهيم السعيدي
 

وقفه مع الأحداث
  • بيانات
  • مقالات
  • شبهات وردود
  • أحكام التكفير
  • حقوق الوالي
  • كتب وبحوث
  • مبادرة العفو
  • الصفحة الرئيسية